تريبة الضمير الحي تُضفي على الإنسان نوعًا من السكينة والوقار، فيُصبحُ عضوًا فاعلًا في جسدِ أمته يفعلُ الخير ويدعو إليه وينهى عن الشرِّ ويجتنبه، وهي عملية تغرس القيم الأخلاقية والمبادئ السليمة في الإنسان منذ صغره، وترشده إلى كيفية التمييز بين الصواب والخطأ، والتصرف بمسؤولية ونزاهة.
وتشترك الأسرة مع المجتمع والمؤسسات التربوية في تهذيب الضمير، والحرص على غرس الأخلاق الطيبة في النفوس، وذلك بالوسائل التربوية التي تتنوع بين القدوة والحوار والقصة وضرب الأمثال وتفسير القرآن وقراءة السنة النبوية والوقوف على النماذج التي تُوقظ الضمير في القلب والعقل.
مفهوم الضمير وأهميته في الإسلام
ويُعرف الضمير بأنه مجموعة مبادئ أخلاقية تُسيطر أو تتحكم في أعمال الشخص وأفكاره، وهو يشمل الإحساس الداخلي بكل ما هو صحيح أو خاطئ في سلوك الشخص أو دوافعه، وهو ما يدفعه للقيام بالعمل الصّحيح، وهو إحساس أخلاقي داخلي عند الإنسان، تُبنى عليه تصرفاته، ويحدد ضمير الإنسان درجة نزاهته وأمانته، وشعوره بالسلام الداخلي نتيجة نقاء ضميره.
وهو مَا يُضمره الإنسان فِي نَفسه، ويصعب الْوُقُوف عَلَيْهِ، وهو استعداد نَفسِي لإدراك الْخَبيث وَالطّيب من الْأَعْمَال والأقوال والأفكار، والتفرقة بَينهَا، واستحسان الحسن واستقباح الْقَبِيح مِنْهَا، وحدوده في في الفلسفة الأخلاقية الحديثة والمعاصرة لا تقف عند حد “الإدراك”، و”التفرقة” و”الاستحسان”؛ بل هو مع ذلك كله مصدر أعلى لتوجيه الفعل الأخلاقي، وضبطه، والرقابة عليه.
والضّمير الحي هو ركنُ الرقابة داخل كل إنسان، وميزان الحق والباطل، والصواب والخطأ، لذا كان جيلُ الصحابة مدرسة في تربية الضمير اليقظ، فعن ابنِ مسعودٍ قال: كنتُ أرعى غنمًا لعُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ، فمَرَّ بي رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأبو بكرٍ، فقال: “يا غُلامُ، هل من لَبَنٍ؟ قال: قُلتُ: نعَمْ، ولكِنِّي مُؤتَمَنٌ” (أحمد والطبراني وحسنه الألباني).
وفي البخاري عن النعمان بن بشير، وهو يحدثنا عن هديَّة أراد أن يعطيها له أبوه، فيخصه بها دون بقية إخوانه من باقي زوجاته، فقال: أعطاني أبي عطية، فقالت أمي عمرةُ بنت رواحة: فلا أرضى حتى تُشهِدَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أعطيتُ ابنَ عمرة عطية، فأمَرَتْني أن أُشهدك، فقال: “أعطيتَ كلَّ ولدك مثل هذا؟”، قال: لا، قال: “اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم”، قال: فرجَع فردَّ عطيَّتَه.
خطوات تربية الضمير
وتربية الضمير في حياة المسلم، تتطلب خطوات يأتي على رأسها ما يلي:
- مراقبة الله في السر والعلن: فإن عَلِمَ المؤمن بسعة علم الله تعالى وإحاطته وشموله ومراقبته، وأنه لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عنه ذرة، وأنه معه أينما كان، وأنه لا تأخذه سنة ولا نوم، يعلم خلجات الأنفس، وخواطر القلب، وخائنة الأعين وما تخفي الصدور، كل هذه الحقائق إذا تمثلها القلب المؤمن غرست فيه شجرة الخوف من الله وامتدت فروعها إلى الجوارح، فآتت أكلها الطيبة بإذن ربها وأثمرت عملًا صالحًا، وقولًا رابحًا، وسلوكًا قويمًا، وفعلًا كريمًا. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المائدة: 94].
- الذكر والدعاء والتضرع: ولن يكون الإنسان صاحب ضمير حي، ونفس لوامة حتى يكون على صلة طيبة بالله تعالى الذي خلقه وسيحاسبه يوم القيامة على ما اقترف، وفي الذكر والدعاء والتضرع إلى الله تعالى بصدق وإخلاص، وفي التلبية التي يجأر بها العبد في مناسكه. كل هذا وسيلة من وسائل تربية الوجدان وإعلاء قيمته، وهو يصقل النفس ويزكيها، بما فيه من إظهار العبودية لله تعالى وصدق اللجوء إليه.
- تذكر الموت وشدته والقبر وظلمته: فمن أهم أسباب الخوف التفكر في الموت، والمصير المحتوم، والأجل المكتوب، والخاتمة المنتظرة، لا مهرب منه ولا مفر، كما قال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة:8].
- التفكر في القيامة وأهوالها: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج:1]. “أي: اخشوه في أوامره أن تتركوها، ونواهيه أن تقدموا عليها. والاتّقاء: الاحتراس من المكروه، والمعنى: احترسوا بطاعته عن عقوبته. وروى الترمذي وأحمد من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (مَن سرَّهُ أن ينظرَ إلى يومِ القيامةِ كأنَّهُ رأيُ عَينٍ فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ، وإِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ).
- التفكر في النار وشدة عذابها: فالمتدبر للنصوص القرآنية يجد القرآن قد عرض صورًا متكررة لعذاب النار من أجل بث الخوف في نفوس العباد وحمل القلوب على الاستقامة على طاعة الله والفرار من معصيته. قال تعالى: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) [المدثر:35 – 36]. “أي: إنّ هذه النّار لإحدى الكبر، أي: لإحدى الدّواهي، وقال الحسن: واللّه ما أنذر الخلائق بشيءٍ أدهى منها.
- مجالسة الصالحين والاستماع لنصائحهم: فالجليس لا يخفى أثره سلبًا أو إيجابًا على أحد، فمجالسة الخائفين تورث الخوف من الله ويقظة في الضّمير، ومجالسة الغافلين تورث الغفلة عن الله وموت الضّمير. قال الله تعالى موصيا نبيه عليه الصلاة والسلام بصحبة أولياء الله تعالى المريدين لوجهه والمبتغين لفضله، وذلك في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف:٢٨]. وعن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه-، قال: قال رسول- الله صلى الله عليه وسلم-: “مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ والجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صاحِبِ المِسْكِ وكِيرِ الحَدَّادِ؛ لا يَعْدَمُكَ مِن صاحِبِ المِسْكِ إمَّا تَشْتَرِيهِ أوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أوْ ثَوْبَكَ، أوْ تَجِدُ منه رِيحًا خَبِيثَةً” (البخاري).
- تدبر القرآن: وتدبر القرآن يجمع كل ما سبق من أسباب يقظة الضمير، ففيه تدبر صفات الجلال والعظمة والكبرياء لله تعالى مما يثمر المراقبة له سبحانه، وفيه آيات الوعيد وما أعده الله- عز وجل- للعصاة من العذاب الأليم، وفيه وصف لأهوال الموت والقيامة والنار، وفيه ذكر عاقبة التفريط في جنب الله واستمراء الذنوب، وفيه عقوبات الله تعالى الدنيوية للأمم السابقة لما أصرت على التكذيب والعناد. قال الإمام ابن القيم: “فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته؛ من تدبر القرآن وإطالة التأمل وجمع الفكر على معاني آياته، فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتحثه على التضمر والتخفف للقاء اليوم الثقيل”.
إنّ الإسلام دين يقوم على تربية الضمير في نفس المسلم، لأنه مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ، والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها، وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ.
مصادر ومراجع:
- المعجم الوسيط: 1/544.
- الشافعي: الأم 5/353.
- ابن القيم: مدارج السالكين 1/450.
- إسلام أون لاين: اهتمام الإسلام بتربية الضمير.
- غالية عبد الله محمد: التربية بإحياء الضمير.
- أسامة طبش: الضمير.
- سعود بن إبراهيم الشريم: الضمير الحي معناه وأهميته.