إنّ حب القرآن الكريم شُعلة تُضيء دروب المؤمن، ونور يملأ قلبه سكينة وطمأنينة، ومتعة لا تُضاهَى، وشعور عميق بالانجذاب والتعلق بكلام الله، وشوق للتواصل معه من خلال تلاوة آياته وتدبرها وفهمه والعمل به، فهو كلام الله المنزل على نبيّه محمد- صلى الله عليه وسلم-، يهدي ويُنير الطريق، ويُخرج من الظلمات إلى النور.
وإذا كان القرآنُ الكريم كلامَ اللهِ وصفتَهُ، فمحبتُهُ أصلٌ من أصول الإيمان التي يجب على الوالدين غرسها في قلوب الأبناء، وتتجلى هذه المحبةُ في الحفظ، والتلاوة، والتدبُّر والفَهم، والتَّعَلُّمُ والتَّعْلِيم، والعمل بمدلول خطابه، والانتهاء بنواهيه.
حب القرآن الكريم فضيلة
ولا شك أن حب القرآن الكريم فضيلة ينالها الصفوة الكرام الذي اختصهم الله بحفظ كتابه، فقال- سبحانه وتعالى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر: 32]، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ للهِ أَهْلِينَ مِن النَّاسِ”، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: “هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ” (أحمد وابن ماجه).
وأهل القرآن هم أصحاب المنازل العالية الرفيعة عند الله، قال تعالى في وصف منازلهم وحليتهم وزينتهم ومقامهم: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر: 33-35]، وقال النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: “يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا” (أبو داود والترمذي).
ويوم القيامة يكون لهم القرآنُ شافعًا ومُؤنسًا ومُدافعًا، يتقرَّب من صاحبه ويدنو إليه، قال- عز وجل-: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34-37]، وعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ- رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: “اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَصْحَابِهِ” (مسلم).
وحثَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- أهل القرآن على كثرة تلاوته ومعاهدته، خشية تفلته ونسيانه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ” (البخاري).
وأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بأنَّ من أفضل الأعمال وأحبِّها إلى الله تعالى مداومةَ تلاوةِ القرآن ومذاكرتَه، فعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى- رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- سُئِلَ: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: “الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ”، قِيلَ: وَمَا الْحَالُّ الْمُرْتَحِلُ؟ قَالَ: “صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَضْرِبُ مِنْ أَوَّلِ الْقُرْآنِ إِلَى آخِرِهِ، وَمِنْ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ، كُلَّمَا حَلَّ ارْتَحَلَ” (الترمذي).
وكُرِهَ لحَافِظِ القرآنِ إن نَسِيَ شيئًا من القرآن أن يقول: نَسِيتُ آية كذا وكذا، لما تحمله من معنى التقصير والإهمال لِمَا حَفِظَ من كتاب الله، بل يقول: نُسِّيتُ آية كذا وكذا، فعَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود- رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: “بِئْسَ مَا لأَحَدِهِمْ أَن يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ نُسِّيَ، وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِن صُدُورِ الرِّجَالِ مِن النَّعَمِ” (البخاري).
وحثَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- أمته على إكرام أهل القرآن العاملين به، التَّالين له، تعظيمًا لكلام الله وإجلالاً له، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ مِنْ إِجْلالِ اللهِ: إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ” (البخاري).
وحذَّر النبي- صلى الله عليه وسلم- من إهمال المسلم وتقصيره في حفظ شيء من القرآن ليتلوه في صلاته، ويناجي به مولاه، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ الَّذِي لَيْسَ فِي جَوْفِهِ شَيْءٌ مِن الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ” (أحمد والترمذي).
وأمر الله- عز وجل- نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم- بتلاوة كتابه كما أمره بالصلاة، فقال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) [العنكبوت: 45]، وأخبرنا الله تعالى على لسان نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه مأمور بتلاوة كتاب الله، كما هو مأمور بعبادة الله والاستسلام له، فقال: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [النمل: 91]، وأن يقرأه على تمهُّل، ليكون ذلك أدعى لفهم القرآن وتدبُّرِهِ، فقال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4].
وأثنى الله على المؤمنين الذين يتلون القرآن حقَّ تِلاوتِه، وذلك بإتقان قراءته، وتدبُّرِ معانيه، وإحلال حلاله، وتحريم حرامه، وعدم تحريفه عن مواضعه، فقال تعالى: (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [البقرة: 121].
وأخبرنا النبي- صلى الله عليه وسلم- بعظيم أجر التالي للقرآن، فقال: “مَن قَرَأَ حَرْفًا مِن كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لا أَقُولُ: “ألم” [البقرة: 1] حَرْفٌ، وَلَكِن: أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ” (الترمذي)، وخص المتقن للتلاوة بمزيد من الأجر والمثوبة، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ” (مسلم).
كيف نربي أبناءنا على حب القرآن؟
وتربية الأبناء على حب القرآن الكريم تتمثل في النقاط التالية:
- الاهتمام بالسنوات الأولى للطفل: فالطفل إذا حفظ القرآن منذ صغره اختلط القرآن بلحمه ودمه، سيما أنه يستطيع أن يحفظ القرآن في سِنِي حياته الأولى، فإذا كبر فهم معانيه، ولكن بعد أن يصبح لسانه مستقيمًا بالقرآن، فيشب وقد تعلم الكثير من الآداب.
- القدوة: ولها دور مهم ورئيسي في توجيه سلوك الطفل، لذا فإنه إذا شعر بحب والديه للقرآن من خلال تصرفاتهما فإنّ هذا الشعور سينتقل إليه تلقائيا، ودون جهد منهما.
- توظيف المصحف الناطق: وهو يسمح للطفل بتكرار كل آية مرة على الأقل بعد القارئ، أو أشرطة صوتية للمصحف المعلِّم كاملا، أو قرص كمبيوتر يحوي المصحف مرتلا، وبه إمكانية التحفيظ.
- إلحاقه بحلقة قرآنية أو تعلُّم أحكام التجويد: ويكون في مركز للتحفيظ قريب من البيت، على أن يكون نظيفا، وجيد التهوية، وجميل المظهر، حتى يٌقبل عليه الطفل بحب ورضا، مع متابعة المحفِّظ للتأكد من أن أسلوبه في التلقين والتحفيظ تربوي.
- حلقة تعليم أحكام التجويد: وتشجيع الطفل ومكافئته بشتى الطرق المادية والمعنوية، ومنها تعريفه بفضل تعلُّم القرآن وتجويده.
- عمل أبحاث عن القرآن: ويمكن أن يكون ذلك بين الطفل وأصدقائه في المرحلة العمرية حول إعجاز القرآن في شتى المجالات، وأن يتبادل معهم الأبحاث لتعم الفائدة بينهم، ويمكن تشجيعهم جميعًا على نشر هذه الأبحاث عبر البريد الإلكتروني، وفي المنتديات المختلفة.
- سَرد القصص: خصوصا تلك المتعلقة بأشخاص وَفّقهم الله -تعالى- إلى حِفظ القُرآن في عُمرٍ مُبكِّر، وسَرد القصص الخاصّة بالصحابة- رضي الله عنهم-، التي تُبيّن مدى حُبّهم للقُرآن، وتلاوته.
- تذكيرهم الدائم بقواعد التعامل مع القُرآن، كالإخلاص، والنُّطق السليم للكلمات، مع الحرص على المُداومة على تلاوته ولو بتلاوة جُزءٍ بسيطٍ منه.
- تحديد وقت معين يوميًّا أو خلال الأسبوع لدراسة القرآن وتلاوته وحفظه مع الأولاد.
- البعد عن الإجبار والتخويف والزجر في الحفظ، بل اتباع سبيل الرفق واللين في التعليم، كما قال- صلى الله عليه وسلم-: “ما كان الرِّفْقُ في شيءٍ إلَّا زانَه، ولا نُزِعَ من شيءٍ إلَّا شانَه” (صحيح الجامع).
- تيسير الحفظ للأولاد بتهيئة المكان والزمان، مع التدرج في الحفظ وعدم الحرمان من اللعب والترفيه وممارسة الرياضة.
- من أساليب التشجيع والتحفيز، تسجيل صوت الطفل وهو يقرأ القرآن؛ حتى يكرر سماعه، ويشجعه على التلاوة والحفظ.
- عمل مسابقات في الحفظ والتلاوة له ولغيره؛ حتى نزيد التنافس بين الأولاد، ومنها يحصل التكرار والتأكيد على ما حفظه.
- الدعاء له، وتعليمه على أن يدعو لنفسه ولغيره مع التكرار، بأن يحفظه الله، ويعينه على الحفظ والإتقان.
- تذكيره وربطه بالأجر المترتب على تلاوة القرآن وحفظه، كما قال صلى الله عليه وسلم: “يقالُ لصاحِبِ القرآنِ: اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ تُرتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها” (الترمذي).
- تذكيره بحصول البركة له في دنياه وآخرته، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [ص: 29].
القرآن الكريم هو نور القلوب وشفاء الصدور، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، إنه كتاب الله المنزّل، حبلٌ ممدود بين السماء والأرض، يجمع بين طياته منهج حياة شامل يدعو إلى الحق والعدل والرحمة، من تمسك به نجا، ومن أعرض عنه ضل، فيه من البشائر والإنذارات ما يرقق القلوب ويفتح العقول، فليكن لنا فيه ورد يومي نتقرب به إلى الله ونزداد به علمًا وإيمانًا.
مصادر ومراجع:
- المناوي: فيض القدير 3/ 67.
- ابن كثير: تفسير ابن كثير 8/ 250.
- رؤية محمد: كيف ننشئ أطفالنا على حب القرآن؟
- عدنان بن سلمان الدريويش: علموا أولادكم حب القرآن الكريم.
- د.أماني زكريا الرمادي: كيف نُعين أطفالنا على حب القرآن الكريم؟!!