اختص الله- سبحانه وتعالى- المسلمين بأن جعل دينهم دين اليسر لا العسر، فالتّكاليف فيه على قدر الاستطاعة، ولا مَشقّة غير مُستطاعة في شرع الله، لذا ظل الإسلام باقيًا إلى يومنا هذا، وسيظل إلى أن يَرِثَ الله الأرض ومَن عليها.
وتراعي تعاليم الشريعة الإسلامية حاجات الناس وظروفهم، ولا تُخالف العقل ولا الفطرة، وتمتاز بالتوسط دون إفراط فتنسى الدنيا، ولا تفريط فتنسى الآخرة، فلا نجد تكليفا وأمرًا ربانيًّا إلا طبقه ملايين المسلمين في الأزمنة كافة دون حرج أو عسر.
مفهوم اليسر في الإسلام
وتدلُّ كلمة اليسر في اللغة على السهولة واللين والانقياد، والغنى، وهي خلاف العسر، واليسار اسم من أيسر إيسارًا إذا استغنى، وقال في القاموس المحيط: اليسر، بالفتح ويحرك: اللين، والانقياد، ويَسَرَ يَيْسَرُ، وياسَرَهُ: لاينه، وقال الجوهري: “يقال يَسّرَهُ الله لليسرى: أي وفقه لها. ويقال: قد أَيْسَرْتَ ويَسَرْتَ، ويسر الرجل تيسيرا: سهلت ولادة إبله وغنمه، وأيسر إيسارًا ويُسْرًا: صار ذا غنى، فهو موسر.
ولا يختلف المعنى الاصطلاحي عن اللغوي، الدال على لينٍ وسهولةٍ وانقيادٍ، أو هو رفع المشقة والحرج عن المكلف بأمر من الأمور لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم.
وقد جعل الله تعالى اليُسْر لكل ما أمر به ونهى عنه في كتابه وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم -، وأمرنا أن نلتزمه في فهمنا للدين والعمل به والدعوة إليه؛ فقال سبحانه : (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185].
وقال- جل وعلا-: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]، وقال تعالى: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْـمُسْلِمِينَ) [الحج: 78].
وأكد الله قانون اليسر في قوله تعالى: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) [الطلاق:7]، وقال عز وجل: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) [الشرح:5-6]. قال القرطبي: “والذي في الخبر: لن يغلب عسر يسرين” يعني: العسر الواحد لن يغلبهما، وإنما يغلب أحدهما إن غلب، وهو يسر الدنيا، فأما يسر الآخرة فكائن لا محالة، ولن يغلبه شيء. أو يقال: إن مع العسر وهو إخراج أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة يسرًا، وهو دخوله يوم فتح مكة مع عشرة آلاف رجل، مع عزٍّ وشرف.
وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يأمر أصحابه دائمًا بالتيسير، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إنما بعثتم مُيَسِّرين، ولم تبعثوا معسِّرين” (أبو داود وصححه الألباني).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا” (مسلم). وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره، إن خير دينكم أَيْسره” وفي لفظٍ: “إنكم أمة أُريد بكم اليُسْر” (أخرجه الإمام أحمد بسندٍ صحيح).
وروى البخاري عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: “إِن الدِّين يُسْرٌ، ولنْ يُشَادَّ- يكلف نفسه من العبادة فوق طاقته- الدِّين أَحَدٌ إِلَّا غلبه، فَسَدِّدُوا، وقارِبوا، وَأَبْشِرُوا”.
وحثَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- المسلمين على تيسير الزواج وعدم المغالاة في المهور، فعن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “خير النكاح (الزواج) أيسره” (ابن حبان وصححه الألباني)، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “خير الصَّداق (المَهْر) أيسره” رواه الحاكم وصححه الألباني.
وعن أبي قتادة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إني لَأقوم إلى الصلاة، وأنا أريد أن أطَوِّل فيها، فأسمع بكاء الصبيِّ، فأتَجَوَّزُ في صلاتي، كَراهية أن أشُقَّ على أمِّه” (البخاري)، قال ابن الجوزي: “هذا الحديث يدل على شفقته صلى الله عليه وسلم ولطفه بأمته، وقد نبه بهذا على أن الأوْلى بالأئمة التخفيف”.
أسباب جلب اليسر
وتتعدد أسباب جلب اليسر والتيسير في الإسلام، ومن أبرزها ما يلي:
- التقوى: قال الله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) [الطلاق:2-3].
- البذل والعطاء: قال سبحانه وتعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39].
- الدعاء: في قول الله تعالى عن دعاء موسى- عليه السلام-: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا * قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) [طه: 25-36].
- مساعدة الخلق: قال الله تعالى عن موسى عليه السلام حين خرج إلى مدين وخدم المرأتين ثم تولى إلى الظل، حيث قال: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ) [القصص:24]. وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّرَ على معسر، يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” (مسلم).
صور ومظاهر
وصور ومظاهر اليسر في الإسلام عديدة، فهو يتجلى في العبادات والمعاملات والأحكام، من ذلك ما يلي:
- العبادات: المسلم الذي لا يستطيع استعمال الماء لعدم قدرته على ذلك أُبيح له التيمم. وإذا كان مريضا يُصلي بالكيفيّة التي يقدر عليها؛ فيُصلي قائما، وإن لم يستطع فقاعدا. ورخَّص الإسلام جمع الصلوات بجمع التقديم أو جمع التأخير، في حالات عديدة لرفع المشقة، وفي الصيام فرض على كل مسلم بالغ عاقل، ولكن هناك بعض الحالات الخاصة التي رخّصت الشريعة الإفطار فيها.
- التعامل مع المخالفين: فلم يسجل التاريخ واقعةً واحدة أجبر فيها المسلمون غيرهم على اعتناق الإسلام، بل يخير الناس في ذلك حتّى يدخلو في الإسلام طائعين راغبين.
- منهج النبي- صلى الله عليه وسلم-: فهو يدل على يسر الشريعة الإسلامية، فما خيّر نبي الله بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، كما نهى النبي الكريم عن التشدد الذي يسبب العنت والمشقة للناس، ففي الحديث: “ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبَه” (البخاري).
- السماحة في رد العدوان: فقد حثت الشريعة الإسلامية على الصبر على الإساءة، ومقابلتها بالإحسان والعفو لأنّ ذلك من شيم المؤمنين، وخصال الموحدين ذوي العزيمة، فقد قال تعالى: (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى: 43].
هذه الأمثلة توضح أن هذا الدين لم يكن للشقاء والعذاب والآلام، بل هو رحمة، ورسوله رسول الرحمة، وهو نعمة كبرى، لذلك كان اليسر عنوانه، وينبغي للمسلمين أن يفقهوا قيمة هذا التيسير ويتعاملوا به في جميع أمور حياتهم، ولا يعني ذلك الانفلات من قيود الشرع والتعدي على حدود الله، فذلك ليس يسرًا.
مصادر ومراجع:
- المطرزي: المغرب في ترتيب المعرب 2/369.
- الفيروزآبادي: القاموس المحيط، ص 499.
- الجوهري: الصحاح 2/422.
- الزبيدي: تاج العروس 6/484.
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 20/108.