الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة تعد من أهم الأحداث في التاريخ الإسلامي، ليس فقط لأنها كانت نقطة تحول في مسار الدعوة الإسلامية، ولكن لأنها تحمل في طياتها العديد من الدروس والعبر التي يمكن أن يستفيد منها المربون. يهدف هذا المقال إلى تحليل أحداث الهجرة النبوية واستنتاج الدروس التربوية منها، مع التركيز على كيفية تطبيق هذه الدروس في مجال التربية.
الهجرة النبوية.. مقدمات وخط سير
بعدما اشتد الأذى من قريش على النبي محمد وأصحابه بعد موت أبي طالب، قرر النبي محمد ﷺ الخروج إلى الطائف حيث تسكن قبيلة ثقيف يلتمس النصرة والمنعة بهم من قومه ورجا أن يسلموا؛ فخرج مشيًا على الأقدام ومعه زيد بن حارثة، وذلك في ثلاث ليال بَقَيْن من شوال سنة عشر من البعثة فأقام بالطائف عشرة أيام لا يدع أحدًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فلم يجيبوه، وردّوا عليه ردًا شديدًا وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أن رجليه كانتا تدميان وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى جُرح في رأسه، وانصرف النبي محمد وعاد إلى مكة.
- دعوة القبائل إلى الإسلام
أخذ النبي يتبع الحجاج في منى، ويسأل عن القبائل قبيلة قبيلة، ويسأل عن منازلهم ويأتي إليهم في أسواق المواسم، وهي: عكاظ، ومجنة، وذو المجاز، فلم يجبه أحد فعن جابر بن عبد الله قال كان النبي ﷺ يعرض نفسه على الناس في الموقف ويقول: «ألا رجل يعرض عليّ قومه، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي»، وذكر الواقدي أنه أتى بني عبس وبني سليم وغسان وبني محارب وبني نضر ومرة وعذرة والحضارمة، فيردون عليه أقبح الرد، ويقولون: «أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك» .
- بيعة العقبة الأولى
وبينما كان النبي يعرض نفسه على القبائل عند «العقبة» في منى، لقي ستة أشخاص من الخزرج من يثرب، هم: أسعد بن زرارة، وعوف بن الحارث، ورافع بن مالك، وقُطبَة بن عامر بن حديدة، وعُقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله فدعاهم إلى الإسلام، فقال بعضهم لبعض «يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي توعدكم به يهود، فلا تسبقنّكم إليه». وقد كان اليهود يتوعدون الخزرج بقتلهم بنبي آخر الزمان. فأسلم أولئك النفر، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم فلما قدموا المدينة ذكروا لقومهم خبر النبي محمد، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ للنبي محمد ﷺ حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلًا، فلقوه بالعقبة في منى، فبايعوه، فكانت بيعة العقبة الأولى.
- إسلام الأنصار
بعث النبي مصعب بن عمير مع من بايعوه من يثرب، يُقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام فأقام في بيت أسعد بن زرارة يدعو الناس إلى الإسلام، ويصلي بهم. فأسلم على يديه سعد بن عبادة وأسيد بن حضير وهما يومئذٍ سيدا قومهما بني عبد الأشهل، فأسلم جميع قومهما بإسلامهم، ثم أسلم سعد بن معاذ، وانتشر الإسلام في يثرب، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون.
- بيعة العقبة الثانية
رجع مصعب بن عمير إلى مكة، وخرج ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان من الأنصار في موسم الحج وقالوا له: «يا رسول الله نبايعك؟» فقال لهم: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة»، فبايعوه رجلًا رجلًا بدءًا من أسعد بن زرارة وهو أصغرهم سنًا فكانت بيعة العقبة الثانية وقد كانت في شهر ذي الحجة قبل الهجرة إلى المدينة بثلاثة أشهر ثم قال لهم: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم»، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبًا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وقال للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي .
الإذن الإلهي بالهجرة
لما اشتد البلاء على المسلمين في مكة بعد بيعة العقبة الثانية، أذنَ النبي مُحمد لأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة، وأمرهم باللَحاقِ بِإخوانهم من الأنصار، فعن عائشة أنها قالت: قال رسولُ اللهِ ﷺ وهو يومئذٍ بمكةَ: «قد أُرِيتُ دار هجرتكم، رأيتُ سَبْخَةً ذاتِ نخلٍ بين لابتين» وهما الحَرَّتَانِ، فهاجرَ من هاجر قِبَلَ المدينةِ حين ذكر ذلك رسولُ اللهِ ﷺ، ورجع إلى المدينةِ بعضُ من كان هاجرَ إلى أرضِ الحبشةِ.
الانطلاق نحو المدينة
لم تكن قريش تعلم أن الله- تبارك وتعالى- أذن لنبيه ﷺ ببدء الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة، وبينما هم يحيكون مؤامرتهم كان النبي قد غادر بيته في ليلة السابع والعشرين من شهر صفر في السنة الرابعة عشر من النبوة، وأتى إلى دار أبي بكر- رضي الله عنه- في وقت الظهيرة متخفّيًا على غير عادته، ليخبره بأمر الخروج والهجرة.
- خشي أبو بكر أن يُحرم شرف صحبة النبي- صلى الله عليه وسلم-، فاستأذن في صحبته فأذن له، وكان قد جهّز راحلتين استعدادًا للهجرة، واستأجر رجلًا مشركًا من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط، ماهرًا وعارفًا بالطريق، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ.
- أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- بأن يتخلّف عن السّفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة.
- غادر النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر- رضي الله عنه- من باب خلفي، ليخرجا من مكة قبل أن يطلع الفجر. ولما كان النبي يعلم أن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار هو طريق المدينة الرئيسي المتجه شمالًا، سلك الطريق الذي يضاده وهو الواقع جنوب مكة والمتجه نحو اليمن، حتى بلغ إلى جبل يعرف بـ”ثور”.
- انطلق المشركون في آثار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه، يرصدون الطرق، ويفتشون في جبال مكة، حتى وصلوا غار ثور، وأنصت الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه إلى أقدام المشركين وكلامهم.
- يقول أبو بكر- رضي الله عنه-: “قلت للنبي- صلى الله عليه وسلم- وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال- صلى الله عليه وسلم-: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما” (البخاري).
الدعم اللوجيستي:
- وفي هذه الأثناء، قام عبد الله بن أبي بكر- رضي الله عنهما- بدور المخابرات، فهو يذهب إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- والصديق- رضي الله عنه- كل يوم بأخبار مكة، وتحركات القرشيين، وردود الفعل لخروج الرسول صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتي في أول الليل، وسيبقى مع الرسول والصديق طوال الليل ثم يعود إلى مكة قبل الفجر، ويبيت هناك، ثم يظهر نفسه للناس، فلا يشك أحد في أنه كان مع الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه.
- في حين قامت عائشة وأختها أسماء- رضي الله عنهما- بتجهيز المتاع والمؤن، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لوضع الطعام فيه، فسمّيت من يومها بذات النطاقين.
- مشاركة عامر بن فهيرة حيث كان يرعى غنم أبي بكر التي يمحو بها آثار أقدام عبد الله بن أبي بكر الذي كان يتردد على النبي محمد وأبوه أبي بكر أثناء تخفيهما في غار ثور .
الهجرة النبوية في فكر الإمام البنا
ولأن ذكرى هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم- تتجدد كل عام، فإن المسلمين يحتفلون بها ويحييون ليلتها، وهو ما كان يحرص عليه الإمام البنا الذي لم يكتفِ بالتذكير عبر كلمات الوعظ أو مقالات في الصحف، أو محاضرات بالمساجد، بل أقام الاحتفالات العملية وأشاع الروح الإسلامية من خلالها بالصيام والذكر، والتشديد على أهمية هذه الشعائر، التي انساق الناس وراء نفر من الصوفية فظنوا أنّ إحيائها بالتمايل والرقصات.
يقول الإمام البنا: والإخوان المسلمون، غايتهم إنهاض العالم الإسلامي وتوجيه نهضته إلى الاعتماد على الأصول الإسلامية الصحيحة لتكون كل مظاهر حياة الأمة منطبقة على قواعد الإسلام الصحيح.
والإخوان المسلمون، يعتمدون في تحقيق غايتهم على التربية والثقافة، فالتربية بإلزام الأعضاء العاملين التمسك بتعاليم الإسلام وشعائره، والثقافة بنشر المدارس: الأقسام الليلية والنشرات والمحاضرات وأقسام المحافظة على القرآن الكريم.
ما الدروس المستفادة من الهجرة النبوية؟
- الصبر عند الشدائد: وعلينا أن نربي أبناءنا على اليقين بأنّ ما عند الله تعالى هو الأفضل والأبقى، فقد لاقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الشدائد في الهجرة لكنه ثبت وصبر واحتسب أجره عند الله تعالى، ولم يكن قلبه إلا ممتلئًا على الدوام باليقين المُطلق بأنّ فرج الله تعالى آتٍ لا محالة، وبالفعل فقد مكَّن له الله، ونصره نصرًا مؤزرًا، وبلغ صيته الآفاق، ولا يزال إلى يومنا هذا أعظم إنسان عرفته البشرية، ولا يزال اسمه الأكثر تردادًا على الألسنة.
- الاعتدال حال السراء والضراء: فيوم خرج النبي الكريم من مكة مُكرهًا لم يخنع، ولم يفقد ثقته بربه، ولمّا فتح الله عليه ما فتح وأقر عينه بعز الإسلام وظهور المسلمين لم يطش زهوًا، ولم يتعاظم تيهًا؛ فعيشته يوم أخرج من مكة كارهًا كعيشته يوم دخلها فاتحًا ظافرًا، وعيشته يوم كان في مكة يلاقي الأذى من سفهاء الأحلام كعيشته يوم أطلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر ناحية تبوك.
- اليقين بأن العاقبة للتقوى وللمتقين: وهو من أعظم الدروس التي يمكن غرسها في النشء الصغير، حتى لا يتسلل الإحباط إلى القلوب، فالذي ينظر في الهجرة بادئ الرأي يظن أنّ الدعوة إلى زوال واضمحلال، لكن هجرة النبي في حقيقتها تُعطي درسًا واضحًا في أنّ العاقبة للتقوى وللمتقين.
- ثبات أهل الإيمان في المواقف الحرجة: وذلك في جواب النبي- صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر- رضي الله عنه- لمّا كان في الغار. فقال: والله يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى موقع قدمه لأبصرنا؛ فأجابه النبي- صلى الله عليه وسلم- مطمئنًا له: “ما ظنّك باثنين الله ثالثهما”.
- أنّ مَن حفظ الله حفظه الله: وهو ما يجب أن نربي أبناءنا عليه، ويتجلى هذا المعنى من حال النبي- صلى الله عليه وسلم- لمّا ائتمر به زعماء قريش ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، فأنجاه الله منهم بعد أن حثا في وجوههم التراب، وخرج من بينهم سليمًا معافى. وهذه سنة ماضية، وأعظم ما يحفظ به أن يحفظ في دينه، وهذا الحفظ شامل لحفظ البدن، وليس بالضرورة أن يعصم الإنسان؛ فلا يخلص إليه البتة؛ فقد يصاب لترفع درجاته، وتقال عثراته، لكن الشأن كل الشأن في حفظ الدين والدعوة.
- الحاجة إلى الحلم، وملاقاة الإساءة بالإحسان: فلقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يلقى في مكة قبل هجرته من الطغاة أذىً كثيرًا، فيضرب عنها صفحًا أو عفوًا، ولمّا عاد إلى مكة فاتحًا ظافرًا عفا وصفح عمن أذاه.
- انتشار الإسلام وقوته: وهذه من فوائد هجرة النبي والمسلمين، فلقد كان الإسلام بمكة مغمورًا، وكان أهل الحق في بلاء شديد؛ فجاءت هجرة النبي ورفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلّصت أهل الحق من ذلك الجائر، وأورثتهم حياة عزيزة ومقامًا كريمًا.
- من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه: وهو درس يجب أن ينتبه إليه الكبار والصغار، فلما ترك المهاجرون ديارهم، وأهليهم، وأموالهم التي هي أحب شيء إليهم، لما تركوا ذلك كله لله، أعاضهم الله بأن فتح عليهم الدنيا، وملّكهم شرقها وغربها.
أهم القيم الأخلاقية في الهجرة النبوية
لقد أفرزت الهجرة إلى المدينة دولة عريقة، يتخللها قيم أخلاقية يجب غرسها في أولادنا، وأشار إليها الدكتور يوسف بابكر- جامعة أم درمان الإسلامية- في دراسته، وهي تتمثل في:
- قيمة الحرية: تُمثل جانبًا مُهمًّا في الفكر الإسلامي؛ فالحرية في الإسلام تُمثل حرية العقيدة، وحرية الانتقال، وحرية التملك، وحرية التفكير، وحرية الاختيار وهي كلها مطلوبة وضرورية في تربية الأولاد عليها منذ الصغر.
والرسول- صلى الله عليه وسلم- هاجر من مكة إلى المدينة طلبًا لحرية الاعتقاد؛ فالثابت أنه لم يكن يُفكر في مالٍ ولا في مُلكٍ ولا في تجارة، بل كان كل همّه توفير الطمأنينة، وكفالة الحرية لأتباعه ولأنّ الحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق، وتقدم العالم نحو الكمال الإنساني، وكل حرب على الحرية هي تمكين للباطل.
إنّ الأصل في الإنسانية هي الحريّة، لكن العوامل المؤثرة قد تجعل الإنسان غير ذلك، فالإسلام دين الحرية وقد سعى إليها بشتى الوسائل.
وقيمة الحرية التي كانت الهجرة أحد أسباب ترسيخها لم تكن كتلك التي نادى بها فلاسفة اليونان وعباقرتهم الكبار أمثال سقراط، وأفلاطون وأرسطو الذين لم يشغلوا فكرهم بالحريات الدينية بقدر ما انشغلوا بالحديث عن حرية الأوطان، ولم يُحرّروا الضعفاء والنساء والعبيد من ظلم وسيطرة وجبروت أهل السيادة والسلطة، حيث هدفت الرسالة الإسلامية إلى تحرير الأديان من الشرك والجهل والوصاية، يقول تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].
- قيمة الإيثار: فهي فضيلة وجدانية تترجم سلوكًا ساميًا، وهو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة فيما عند الله، وذلك ينشأ من قوة اليقين، وتأكيد المحبة لله ولرسوله، والصبر على المشقة، ويقال أثرته بكذا أي خصصته به، وفضلته، وضد الإيثار الأنانية والذاتية، ولهذا من الضروري تنشئة الأولاد على هذه القيمة العظيمة.
ولقد سجل التاريخ بحروف مضيئة كيف استقبل صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الأنصار المهاجرين الذين تركوا المال والولد فارّين بدينهم، فكان الأنصار أهل إيثار ونجدة، ومروءة.
وتجسدت هذه المعاني في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
والإيثار أهم النتائج الإيجابية لهجرة الرسول– صلى الله عليه وسلم-، فقد برزت هذه القيمة عند وقت الحاجة إليها ابتغاء رضوان الله ورسوله، والشح ضد الإيثار ولقد وَرَدَ في حديث النبي عن جابر- رضي الله عنه- أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم” (صحيح مسلم)
- المؤاخاة: فقد اتخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- من هذه القيمة مدخلًا استراتيجيًّا لترابط المجتمع المدني، فبدأ بالتآخي بين الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، ثمّ التآخي بين المهاجرين أنفسهم، وهي قيمة إذا غرسناها في أبنائنا منذ الصغر؛ عمّ الحب والود بين الناس جميعًا.
- حكم الهجرة لم ينسخ: فهو باقٍ إلى يوم القيامة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ: “حَدَّثَهُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ- صلى اللهُ عليه وسلم- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ أُنَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ الْهِجْرَةَ قَدِ انْقَطَعَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صلى اللهُ عليه وسلم-: إِنَّ الْهِجْرَةَ لَا تَنْقَطِعُ مَا كَانَ الْجِهَادُ” (مسند الإمام أحمد). ويمكن أن نعلم أبناءنا بأن الهجرة مستمرة حتى يوم القيامة، وهي هجرة للذنوب أو إلى وطن يحمينا من البطش، أو هجرة نحفظ بها الدين.
- حسن التوكل مع الأخذ بالأسباب: فقد كان- صلى الله عليه وسلم- في رحلة الهجرة الشريفة متوكلًا على ربه واثقًا بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه، ومع هذا كله لم يكن- صلى الله عليه وسلم- بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها. بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان.
- تصحيح النيات باستمرار: للتأكد من الإخلاص لله قبل القيام بالأعمال وأثناءها وبعدها، فمتى وُجدت النية الصالحة في القلب توجهت الجوارح لله، وزكت الأعمال، ورجحت في الميزان عند الله عز وجل.
- التخلص من الانفرادية والتفاعل مع أحوال الأمة: فالمسلم لا يعيش في جزيرة منعزلة، ولا خلق ليهتم بنفسه على حساب الآخرين، لكن لزامٌ عليه أن ينشغل ويتفاعل بأحوال المسلمين، قال الله عز وجل: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوٓاْ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُم مَّغۡفِرَةٞ وَرِزۡقٞ كَرِيمٞ * وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَٰٓئِكَ مِنكُمۡ} وقال عليه الصلاة والسلام: “عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية” (رواه أبو داود والنسائي).
الواجبات العملية من الهجرة
وهناك واجبات عملية من الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، على كل مَن هاجر اضطرارًا من بلده في كل زمان الانتباه إليها وغرسها في أبنائه، وهي:
- استذكار هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم- بقراءة تفاصيل الرحلة ومعرفة الدروس والقيم الأخلاقية المستفادة منها.
- التعايش والاندماج مع أرض هجرته.
- ترتيب الأوضاع في أرض المهجر.
- تفقّد أحوال المهاجرين الآخرين والقيام على شؤونهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
- الدعوة والإصلاح بين أهل الأرض التي هاجر إليها ونشر الدعوة بينهم.
- لتكن سلوكياتنا دليلًا طيبًا على قوامة منهجنا ونجاعة رسالتنا وعدالة قضيتنا.
- أن تكون عيوننا على الوطن الذي هاجرنا منه لإصلاحه وتحين الفرص إلى ذلك وليس لمجرد العودة إليه على أية حال.
- إعطاء أرض المهجر نصيبها من الدعاء بالبركة والإصلاح والإلحاح على الله والتضرع إليه أن يصلحها ويلقي قبولها في قلوبنا.
الهجرة النبوية هي حدث تاريخي مليء بالدروس والقيم التي يمكن للمربين الاستفادة منها في تربية الأجيال الجديدة. من خلال تعزيز الإيمان، والتخطيط الجيد، والتضحية، والتعاون، والاعتماد على الله، يمكن بناء مجتمع قوي ومتماسك.
المصادر والمراجع:
- ابن عبد البر: الدرر في اختصار المغازي والسير، 1/18.
- البغوي: شرح السنة، حديث 13503.
- ابن هشام: سيرة ابن هشام، 2/354.
- ابن كثير: البداية والنهاية، 2 / 184و185.
- الطبري: تاريخ الطبري، 1/586.
- ابن أبي شيبة: المصنف، 7/346.
- صحيح البخاري، كتاب المناقب، حديث 3906.
- من معين الهجرة النبوية.
- هجرة الرسول ووضع الخطة.
- زيد بن عبد الكريم الزيد: فقه السيرة، ص (292-321).
- الهجرة دروس وعبر
- كتاب أصول الدعوة وطرقها- الإعداد والتخطيط للهجرة والدروس المستفادة منها: تأليف جامعة المدينة ، ص 162.