لا يمكن الحديث عن نظام تربوي في مجتمع من المجتمعات بمنأى عن منظومة القيم والعقائد السائدة في هذا المجتمع، فمن غير المعقول أن يتخذ مجتمع حر نظاما تربويا لأبناءه يخالف قيمه ومعتقداته، وإن عم هذا الأمر أمة من الأمم كان ذلك إيذانا بضعفها وخمول ذكرها.
ونتحدث في هذا المقال عن الأسس العقائدية والتشريعية للتربية الإسلامية؛ فنتحدث عن العقيدة وأثرها التربوي، والإيمان كأساس من أسس التربية، والشريعة كضابط خلقي للفرد، كما أنها ضابط اجتماعي وسياسي، وكذلك عن أهم نتائج الخصائص الفكرية للشريعة الإسلامية في تربية عقل المسلم.
العقيدة الإسلامية كأساس من أسس التربية
العقيدة في اللغة هي التصديق بالشيء تصديقا لا ريب فيه ولا شك معه وهي بمعنى الإيمان، والإسلام هو دين الله الذي أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو عقيدة وشريعة أو إيمان وعمل وكلاهما مرتبط بالآخر ارتباط الثمار بالأشجار والنتائج بالمقدمات؛ ولذلك يأتي العمل مقترنا بالإيمان في كثير من آيات القرآن الكريم: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97]، فالعقائد هي الأفكار التي يؤمن بها الإنسان ويصدر عنها في تصرفاته وسلوكه.
ومفهوم العقيدة الإسلامية ينتظم ستة أمور:
- المعرفة بالله والمعرفة بأسمائه الحسنى وصفاته العليا والمعرفة بدلائل وجوده ومظاهر عظمته في الكون والطبيعة.
- المعرفة بعالم ما وراء الطبيعة وما فيه من قوى الخير التي تتمثل في الملائكة وقوى الشر التي تتمثل في إبليس وجنوده من الشياطين، والمعرفة بما في هذا العالم أيضا من جن وأرواح.
- المعرفة بكتب الله التي أنزلها لتحديد معالم الحق والباطل والخير والشر والحلال والحرام والحسن والقبيح.
- المعرفة بأنبيائه ورسله الذين اختارهم ليكونوا أعلام الهدى وقادة الخلق إلى الحق.
- المعرفة باليوم الآخر وما فيه من بعث وجزاء وثواب وعقاب وجنة ونار.
- المعرفة بالقدر الذي يسير عليه نظام الكون في الخلق والتدبير.
وهذه الأمور الستة تعرف باسم أركان الإيمان، وقد جعلها الله سلسلة لا ينفك بعضها عن بعض ولا بديل عن الإيمان الصحيح من أجل تربية جيل سليم صحيح ومجتمع قوي متين. وكل ركن من أركان الإيمان يكمل جانبا من جوانب التربية وإذا اختل الإيمان به جاءت التربية مشوهة ناقصة.
والإيمان الصحيح أساس متين لتربية ثابتة مضمونة النتائج، فإذا قوي إيمان المرء قامت سيرته بناء على هذا الإيمان متفقة معه، والإيمان الذي يؤتي ثمارا طيبة لابد أن يكون إيمانا بعقائد صحيحة ليس فيه خرافات، وكذلك فإن إيمان المجتمع بعقائد مشتركة ينشئ مجتمعا متماسكا مترابطا.
الشريعة كضابط خلقي واجتماعي
ذكرنا أن الإسلام عقيدة وشريعة أو إيمان وعمل وأن أحدهما – في التصور الإسلامي – لا ينفك عن الآخر بحال، والشريعة في اللغة: هي مصدر شرع، وتُطلق على الطريق المستقيمة، ومنه قول الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] أي: جعلناك على طريق مستقيمة، وتطلق كذلك على مورد الماء الجاري الذي يقصد للشرب، يقال: شرعت الإبل إذا قَصدت مورد الماء للشرب، والشريعة في الاصطلاح هي ما شرعه الله سبحانه وتعالى من الأحكام التي جاء بها نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، سواء أكانت هذه الأحكام أحكاماً اعتقاديةً أو أحكاماً عمليةً ليؤمنوا بها فتكون سعادتهم في الدنيا والآخرة.
والتشريع من الأمور التي اختص الله – تعالى – بها نفسه، فكل من سمح لنفسه بالتشريع أو أطاع غيره في غير ما شرع الله من أمور الدين فقد أشرك بالله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قدمَ عديُّ بنُ حاتمٍ على النَّبيِّ ﷺ وهو نصرانيٌّ فسمعه يقرأُ هذه الآيةَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31]، قال: فقلتُ له: إنّا لسنا نعبدُهم، قال: أليسَ يحرمونَ ما أحلَّ اللهُ فتحرِّمونَه، ويحلُّونَ ما حرَّمَ اللهُ فتحلُّونَه، قال: قلتُ: بلى، قال: فتلك عبادتُهم).
أثر الشريعة في تكوين الفكر
الشريعة أساس عظيم من أسس التربية الإسلامية فهي بيان للعقيدة والعبادة وتنظيم الحياة وجميع العلاقات الإنسانية. وهذه بعض الخصائص الفكرية للشريعة الإسلامية:-
- هي أساس فكري تشمل نظرة الإسلام إلى الإنسان نشأته، وظيفته، مكانته، وعلاقته بالكون والوجود.
- تقدم للمسلم قواعد ونظمًا تجعل حياته أسعد وأهنأ وأرقى.
- تربي الإنسان على التفكير المنطقي عن طريق استنباط الأحكام.
- تخرج شعبا متحضرا حضارة راقية.
وهذه أهم نتائج الخصائص الفكرية للشريعة الإسلامية في بناء عقل المسلم:
- الشمول: فهو ينظر إلى نفسه وحياته نظرة كلية متعلقة بتصوره الشامل لهذا الكون ولجميع جوانب الدنيا والآخرة.
- الوعي الفكري لكل ما يعمل أو يقول أو يريد.
- التفكير المنطقي والقدرة على المحاكمة والاستنتاج والاستقراء كما علمه القرآن.
- الرغبة في التعلم والوصول إلى الحقائق العلمية.
أثر الشريعة في تربية الخلق
تعتبر الشريعة ضابطًا خلقيًا للفرد؛ فعندما تتمكن تعاليم الشريعة من النفس والمشاعر تصبح بمثابة ضابط خلقي للفرد، وكذلك فإن الشريعة ضابط اجتماعي؛ فعندما يكثر تداول أحكام الشريعة على المستوى الاجتماعي تصبح أعرافا ومصطلحات اجتماعية، وعندما تقوم السلطة السياسية بتطبيق أحكام الشريعة تصبح ضابطا سياسيا كذلك.
فالشريعة الإسلامية تربي الناس بثلاثة أساليب:
- أسلوب تربوي نفسي ينبع من داخل النفس ضابطه الخوف من الله تعالى وعقابه.
- أسلوب التناصح الاجتماعي والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
- وازع السلطة التنفيذية التي تنفذ أحكام الشريعة فيستتب الأمن ويسود سلطان الشرع وينعم الناس بعدل الشريعة الربانية.
وهكذا نرى أن الشريعة الإسلامية أساس عظيم من أسس التربية الإسلامية، فهي بمعناها القرآني الواسع بيان للعقيدة، وللعبادة، ولتنظيم الحياة، ولتحديد تنظيم جميع العلاقات الإنسانية.
المراجع
- إسحق بن عبد الله السعدي: دراسات في تميز الأمة الإسلامية وموقف المستشرقين منه.
- ابن تيمية: حقيقة الإسلام والإيمان.
- السيد سابق: العقائد الإسلامية.
- عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع.