أجمع أهل السُّنة من السّلف والخلف على إثبات المعية الإلهية لله- سبحانه وتعالى-، وهي معيَّةٌ لا تنافي فوقية الله، فهو عليم بعباده، بصير بأعمالهم، مع علوه عليهم واستوائه على عرشه، لا أنه سبحانه مختلط بهم، ولا أنه معهم في الأرض.
وحينما يستشعر المؤمن أنه يعيش في معية خالقه يسير في هذه الحياة وهو يُردّد كلام العارفين الواثقين في نصرة الله وتأييده، ويعيش في راحة وطمأنينة وسكينة فهو لا يخاف إلا الله ولا يرجو إلا الله ولا يتوكل إلا على الله ولا يسأل غير الله القوي الذي لا يقهر، والغالب الذي لا يهزم، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
مفهوم المعية الإلهية
ويُعرّف أهل اللغة مفهوم المعية الإلهية من خلال نسب كلمة (المعية) إلى لفظ (مع)، وهو لفظ يقتضي الاجتماع في المكان، أو الزمان، أو الشرف أو الرتبة، كما يقتضي النصرة، ويقول الراغب الأصفهاني: “مع” يقتضي الاجتماع إما في المكان نحو هما معا في الدار، أو في الزمان نحو ولدا معا، أو في المعنى كالمتضايفين نحو الأخ والأب فإن أحدهما صار أخا للآخر في حال صار الآخر أخاه، وإما في الشرف والرتبة نحو: هما معا في العلو.
وفي الاصطلاح، تُستعمل “مع” للمصاحبة بين أمرين لا يقع بينهما مصاحبةٌ واشتراكٌ إلا في حكمٍ يجمع بينهما ولذلك لا تكون الواو التي بمعنى مع إلا بعد فعلٍ لفظًا أو تقديرًا لتصح المعية. وكمال معنى المعية الاجتماع في الأمر الذي به الاشتراك دون زمانه.
فالأول: يكثر في أفعال الجوارح والعلاج نحو دخلت مع زيدٍ وانطلقت مع عمرٍو وقمنا معًا ومنه قوله تعالى: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ)[يوسف:36]. والثاني: يكثر في الأفعال المعنوية نحو آمنت مع المؤمنين وتبت مع التائبين وفهمت المسألة مع من فهمها ومنه قوله تعالى: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)[آل عمران:43].
وقال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد:4]. قال الطبري: “يقول: وهو شاهد لكم أيها الناس أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع”.
وقال- عزو وجل-: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) [المجادلة:7]. قال ابن كثير: “وعني بقوله: {هُوَ رَابِعُهُمْ}، بمعنى: أنه مُشاهدهم بعلمه، وهو على عرشه”.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني” رواه البخاري. قال البيضاوي في “تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة”: “وقوله: “وأنا معه إذا ذكرني” أي: بالتوفيق والمعونة”. وقال الطيبي في “الكاشف عن حقائق السنن”: “قوله: “وأنا معه إذا ذكرني” أي: بالتوفيق والمعونة”.
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قِبَل وجهه، فإنَّ الله قِبَل وجهه”. وفي رواية في صحيح مسلم: “إذَا كانَ أحَدُكُمْ يُصَلِّي فلا يَبْصُقْ قِبَلَ وجْهِهِ، فإنَّ اللَّهَ قِبَلَ وجْهِهِ إذَا صَلَّى”.
وعن أنس- رضي الله عنه- عن أبي بكر- رضي الله عنه- قال: “قلت للنبي- صلى الله عليه وسلم- وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا! فقال- صلى الله عليه وسلم-: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما” (البخاري).
أسباب المعية الإلهية
وتتعدد أسباب المعية الإلهية للمؤمنين، نذكر منها ما يلي:
- الإيمان: فالله- سبحانه وتعالى- مع أهل الإيمان به وبرسوله وكتابه، وجميع أركان الإيمان، وكل ذلك جاء عن الله ورسوله- صلى الله عليه وسلم-؛ قال تعالى: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 19]، فمن حصل من أسباب الإيمان أكثر، كان نصيبه من معية الله له بالتأييد والنصر أعلى وأوفى، والإيمان يزيد وينقص؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾ [المدثر: 31]، فبزيادة إيمانك تكون من الله أقرب، ويكون الله معك.
- التقوى: وهي من الأمور التي رتب الله- سبحانه وتعالى- عليها معيته الخاصة، وهي في معناها العام: “امتثال الأوامر واجتناب النواهي”، أو كما عرفها بعض السلف: “أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله”؛ لذلك رفع الله من شأن المتقين؛ فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 194].
- الصبر: للصبر شأن عظيم ومنزلة رفيعة، والعبد محتاج للصبر حاجة شديدة؛ كونه محتاجًا إليه في عمل الطاعة، وترك المعصية، وتحمل الأقدار المؤلمة، فكن ممن ﴿صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ﴾ [الرعد: 22]؛ لتنال معية الله- سبحانه وتعالى- بصبرك على طاعة الله، وتحمل المشقة فيها، ومدافعة الشيطان والهوى، والنفس التي تطلب الدعة والراحة، وأيضًا الابتعاد عن المعاصي، والشهوات المحرمة، والعراك مع نفسك؛ ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53].
- الإحسان: أخبر الله في كتابه في خواتيم سورة النحل عن معيته لفريقين؛ حيث قال سبحانه: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]، والإحسان فسَّره النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، ومن خلال ما جاء في الحديث نجد أن هناك ارتباطًا قويًّا بين الإحسان من العبد والمعية من الله.
- نصرة الله: ويكون ذلك بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عنِ الْمُنْكَرِ؛ قال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].
- الدُّعَاءُ: وَالتَّضَرُّعُ لَهُ سُبْحَانَهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186].
- التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ: فَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ؛ بِأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى اللَّهِ فِي جَلْبِ مَا يَنْفَعُهُ وَدَفْعِ مَا يَضُرُّهُ، وَيَثِقَ بِهِ فِي تَسْهِيلِ ذَلِكَ، فَهُوَ كَافِيهِ الْأَمْرَ الَّذِي تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ، قَالَ اللهُ- تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2-3].
- تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّةِ للهِ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36]؟ بَلَى كَافٍ!، وَتَكُونُ الْكِفَايَةُ عَلَى قَدْرِ الْعُبُودِيَّةِ؛ فَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ كَامِلَةٍ فَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ بِحَسَبِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِعُبُودِيَّةٍ نَاقِصَةٍ فَبِحَسَبِ مَا جَاءَ بِهِ تَكُونُ الْكِفَايَةُ.
- الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ: بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ وَالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ؛ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَجَاهَدُوا أَعْدَاءَهُمْ، وَبَذَلُوا مَجْهُودَهُمْ فِي اتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، لَنَهْدِيَنَّهُمُ الطُّرُقَ الْمُوصِلَةَ إِلَيْنَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُحْسِنُونَ، وَاللَّهُ مَعَ الْمُحْسِنِينَ بِالْعَوْنِ وَالنَّصْرِ وَالْهِدَايَةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].
- ذكر الله تعالى: فإن ذكر الله- تبارك وتعالى- يكون سببًا لمعية الله للعبد، وهذه كما يقول الحافظ ابن القيم- رحمه الله-: “لو لم يكن في الذكر إلا هذه لكفى به شرفًا”، لكفى به فضلاً أن يكون الله معك، ومن كان الله- تبارك وتعالى- معه فماذا فقد؟ ومن كان الله- تبارك وتعالى- معه من أي شيء يخاف؟ وما الذي يقلقه؟ وما الذي يزعجه؟! وما الذي يحزنه؟! كما صح عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: “أنا عند ظن عبدي بي، حسن الظن بالله- تبارك وتعالى-، ما يظن العبد بربه: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرًا منهم، وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة (البخاري).
آثار وثمار
والمعية الإلهية لها أثر لا ينكر، وفضل لا يخفى، وهي سر النجاح ولب الفلاح، ومدار الهداية والتوفيق، والنصر والتأييد، والحفظ والرعاية، ومن هذه الآثار:
- المراقبة: سواء كانت من قبل العبد لربه أم من الله تعالى لعبده، وإن كان الأغلب فيها مراقبة العبد لربه ونظره له ومشاهدته إياه في أعماله وسلوكه، والمقصود من المراقبة: (استدامة علم العبد باطلاع الرب عليه في جميع أحواله)68.
- النصر والتأييد: فالله تعالى يمد عبيده بنصره ويؤيدهم به، ومن هنا دعاهم إلى عدم الهوان أو التفريط والتسليم والتنازل والتخاذل، فهم أولو المعية وأصحاب نصر الله وتأييده، قال تعالى آمرًا عباده بمراعاة أثر هذه المعية من النصر والتأييد: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:35].
- التوفيق والمحبة: والدلالة على سبل الرشاد، وطرق الهداية، وتلك لها مقدماتها التي تفضي إلى نتائجها، وأسبابها التي تعين على الوصول إليها، قال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].
- الحفظ والرعاية: وتبدو هذه المَعيّة وتظهر آثارها في الحفظ والرعاية في مقام الدعوة فيبين لهم تعالى أنه حافظهم وراعيهم؛ حتى يطمئن أصحاب الدعوات والذين يكونون في معيته تعالى أنهم محفوظون ومراعون من قبل ربهم، فهو ناصرهم ومعينهم ومؤيدهم ومثبتهم، كما قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) [النحل:127-128].
في هذا العصر الذي كثر فيه الاضطراب النفسي والاكتئاب والقلق والأرق والضغط وغيرها من الأمراض النفسية يحتاج المسلم إلى المعية الإلهية التي تحفظه وتجعله لا يخاف إلا الله، ولا يتوكل على غيره.
مصادر ومراجع:
- الراغب الأصفهاني: المفردات ص 470.
- الفيروزآبادي: بصائر ذوي التمييز 3/372.
- السيد مراد سلامة: إن الله معنا.
- ابن القيم: الوابل الصيب من الكلم الطيب، ص 42.
- إسلام ويب: معية الله.
- الجرجاني: التعريفات، ص 210.