تناولنا في المقال السابق (الذكاء التنظيمي) كمقوم أول من المقومات الأساسية التي يجب أن يحوزها المربي الذي يمارس العمل التجميعي والتنظيمي والتربوي، حتى يستطيع تأدية الواجبات التي تمليها طبيعة عمله التربوي وكذلك أداء التكاليف المنوطة به، ونتناول اليوم موضوع (الرصيد الفكري) وأهميته كمقوم ثانٍ من هذه المقومات الأساسية.
أهمية العلم والمعرفة
اهتم الإسلام بالعلم والمعرفة وأول آية نزلت في القرآن الكريم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1]، ويقسم الله في كتابه الكريم بأدوات الكتابة وحروفها فيقول: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]، وكثيرا ما نجد في القرآن الكريم الدعوة إلى إعمال العقل وتقليب النظر، وفي العصر الحديث وجدنا الفلاسفة والمفكرين والقادة في الغرب يعظمون قدر المعرفة ويؤكدون على أهميتها؛ يقول فرنسيس بيكون: (المعرفة سلطة)، ويقول نابليون بونابرت: (لا يوجد في العالم سوى قوتين السيف والعقل وفي المدى البعيد سيُهزم السيف من قبل العقل)، وهذه الحقيقة هي الباقية الواضحة الآن فلم تعد القوة تقاس بعدد الجيوش الحاملة للسيوف والرماح، بل بالعلم والمعرفة وامتلاك الأسلحة.
وفي هذا العالم الذي أصبح قرية واحدة أصبحت أغلى ثرواته هي المعرفة؛ فهي تصنع الفرق كل الفرق في اتخاذ القرار وحل المشكلات، واليوم حيث يحتدم الصراع الفكري بين أهل الحق وأهل الباطل، وجب علينا تنمية وتمتين الرصيد الفكري لدى المربي، ولأن (الفكر وليد العقيدة) أي أن الفكر الإسلامي وليد العقيدة الإسلامية، والفكر الشيوعي وليد الفلسفة الشيوعية وهكذا، لذا فإن بناء أساس عقائدي سليم للمربي هو أساس رصيده الفكري وعليه يقوم البناء.
ويشبَّه الفكر (بالرصيد المالي)؛ حيث إن صاحب الرصيد المالي الكبير يتمكن من تلبية حاجاته المعاشية والعائلية بقدرة وبدون عجز، وصاحب الرصيد القليل المنخفض يتباطأ ويتلكأ في تلبية متطلبات معيشته وتهيئتها لعدم توفر السيولة بين يديه فيعزف عن الكماليات إلى الأساسيات، وهكذا ترتفع القدرة الشرائية للفرد مع حجم السيولة عنده وضخامة رصيده المالي وتنخفض بانخفاضه.
وعلى نفس المنوال، فالأخ صاحب الرصيد الفكري القوي يستطيع أن يصارع بفكره كافة الأفكار المضادة، قديمة وحديثة، عقائدية ومذهبية، والعكس صحيح، حيث يعجز صاحب الرصيد الفكري الضعيف في أحيان كثيرة من محاورة أفراد مجتمعه الذي يعيش فيه وتقريب الفكر الإسلامي إليهم، فتراه ينكمش على نفسه ويتوارى بشكل أو بآخر عن الاحتكاك بمجتمعه وقد ينعزل نهائياً ويعيش لنفسه.
وما انحسار العمل في أوساط الشباب المتدينين فقط إلا لكون ما نحمله -في المجموع- من ( رصيد فكري ) لا يوازي حاجات الصراع الذي نخوضه مع أصحاب المبادئ الأخرى، فإذا لم نجد في محيطنا الدعوي الشاب المتدين أو نصف المتدين عجزنا وفشلنا عن محاورة غيره، فكل صاحب اتجاه له نمط من الفكر إن حازه الأخ استطاع التأثير في أوساطهم بقدر ما، وليس بالضرورة كسب هؤلاء وتنظيمهم، ولكن يمكن أن نجعل منهم أصدقاء لنا أو مؤيدين لفكرتنا أو متعاطفين معنا، أو نبين لهم بطلان عقيدتهم الفاسدة، وهو أضعف الإيمان.
ولكي نستطيع أن نقدم الفكر الإسلامي لعموم طبقات المجتمع، ونقدم لهم جوهر ونحاورهم بها، لزم علينا أن نستقي بلا انقطاع ولا كلل ولا ملل من مصادر وينابيع الفكر ابتداءً الإسلامي منه أولاً، ثم نعرج على دراسة وفهم الأفكار المناوئة واستيعابها وهضمها والتبصر في مكامن الخلل فيها ودراسة النظريات الإلحادية والوجودية الحديثة، ناهيك عن دراسة تاريخ البدعة القديم منه والحديث، وفهم مراحل الصراع مع المبتدعة والتعرف على جوهر أفكارهم وانحرافهم.
إن قدرتنا على عرض الفكر الإسلامي وقوة هذا الرصيد لدينا يساعدنا أن نلج ساحات العمل الطلابي والعمالي، ونحقق فيها النجاح الباهر بإذن الله تعالى، وإلا فستصبح هذه الساحات حكراً لعمل غيرنا.
ومن الأمور الإيجابية لزيادة الرصيد الفكري لدى الأفراد النظرة الصحيحة المتوازنة للأحداث حولهم وعدم المبالغة في تحسين الواقع على غير الحقيقة، أو النظر إليه بمنظار أسود يجرده من كل حسنة، ويلحق به كل نقيصة، ويجعلنا نعيش دائما دور الضحية لا نعود أبدا على أنفسنا باللائمة ولا نحاول إصلاح ما فسد، وتدارك ما وقع، وأوْلى من تعليق أخطائنا على التآمر الخارجي أن نردَها إلى الخلل الداخلي، أي الخلل في أنفسنا قبل كل شيء: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53].
وسائل زيادة الرصيد المعرفي
في البداية لا ينبغي الاعتماد على المناهج التعليمية وحدها فالمناهج التعليميّة في الوطن العربي لا تُحفّز العقل على التفكير والتخيّل، بل على العكس من ذلك فهي تقوم على التلقين، لذا فإنّ الاكتفاء بها بهدف المعرفة والتثقيف أمر لا جدوى منه، ومن الوسائل التي تعين الفرد على زيادة رصيده المعرفي:
- الحرص على قراءة القرآن الكريم بشكل يوميّ مع تدبّره والوقوف عند كل آية لفهم المغزى منها.
- قراءة الكتب والمجلات المتخصصة والصحف الهادفة.
- متابعة البرامج المفيدة على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة.
- الشبكة العالمية (الإنترنت) وما تتيحه من منصات تعليمية وما ينشر عليها من محاضرات ودروس.
- مقابلة المثقفين والعلماء.
- تطوير مهارات الاتصال.
- حضور الندوات العلمية.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.