أكدت الشريعة الإسلامية أنّ الكلمة الطيبة كالغيث تزيل الهمّ والغمّ وتشرح القلل، وتصلح النفوس وتذهب الحزن وتزيل الغضب وتشعر بالرضا والسعادة، سيما إذا رافقتها ابتسامة صادقة، وهي مفتاح الدعوة والقبول؛ جميلة اللفظ سهلة المعنى تغرس الخلق والأدب وتنشر الألفة والمودة في المجتمع وتعمق أواصر الوحدة بين الناس.
بل إن هذه الكلمة تُوافق الشرع الحنيف، فتدعو إلى ما يُعزّز التوحيد وينافي البدع والمنكرات والشهوات والشبهات، وتثمر عملًا صالحًا وتفتح أبواب الخير، وتغلق أبواب الشر، بالجملة فإنّ نتائجها مفيدة، وغاياتها بناءة سامية.
الكلمة الطيبة في القرآن والسنة
وبيّن القرآن الكريم أهمية الكلمة الطيبة وعظيم أثرها واستمرار خيرها، وفي الوقت ذاته بيّن خطورة الكلمة الخبيثة وجسيم ضررها وضرورة اجتثاثها، يقول الله- سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ . تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ) [إبراهيم:24-26].
يقول ابن القيم- رحمه الله-: “شَبّه الله- سبحانه الكَلِمَة الطّيبة- كلمة التوحيد- بالشجرة الطيبة، لأنّها تثمر العمل الصالح، والشجرة تثمر الثمر النافع”. وهي حياة القلب، وهي روح العمل الصالح، فإذا رسخت في قلب المؤمن وانصبغ بها: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) [البقرة:138] وواطأ قلبُه لسانَه، وانقادت جميعُ أركانه وجوارحه، فلا ريب أن هذه الكلمة تؤتي العمل المتقبَّل: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر:10].
وهي كلمة الحق ثابتة الجذور، سامقة الفروع لا تُزعزعها أعاصير الباطل، ولا تحطِّمها معاول الهدم والطغيان، وهي تُقارع كلمةَ الباطل فتجتثّها فلا قرار لها ولا بقاء، لا بل (يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) [الأنبياء:18].
وهي حيَّةٌ نابضة، لا تموت ولا تذوي، لأن بذورها تنبت في النفوس المؤمنة الثابتة على الإيمان، المتجددة بتجدد الأجيال، التي تعرف حقيقة وجودها ومعالم طريقها، والتي بها: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم:27].
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو المثل الأعلى لأمته في الخلق العظيم، فلم يكن فظًا غليظًا، بل كان سهلًا سمحًا، لينًا، دائم البشر، يواجه الناس بابتسامة حلوة، ويبادرهم بالسلام والتحية والمصافحة وحسن المحادثة، وعلَّمنا أدب التخاطب وعفة اللسان، فقال- صلى الله عليه وسلم-: “ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء” (رواه ابن الحاكم في المستدرك على الصحيحين).
وعلمنا النبي- صلى الله عليه وسلم- أنّ “الكلمة الطيبة صدقة”، وقال- صلى الله عليه وسلم-: “اتّقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة” (رواه أحمد في مسنده).
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت” (متفق عليه).
وبالكلِمَةِ الطّيبة تتحقق المغفرة لقوله- صلى الله عليه وسلم-: “إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام” (رواه الطبراني وابن حبان وصححه الألباني).
بل هي سبب في دخول الجنة؛ فعن أبي مالك الأشعري- رضي الله عنه- أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إِنَّ في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُها من باطِنِها، و باطِنُها من ظَاهِرِها. فقال أبو مالِكٍ الأَشْعَرِيُّ: لِمَنْ هيَ يا رسولَ اللهِ؟ قال: لِمَنْ أَطَابَ الكَلامَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وباتَ قائِمًا والناسُ نِيامٌ” (رواه أحمد في مسنده).
وهي معيار سعادة الإنسان أو شقائه، فبكلمة ينال العبد رضوان الله فيرفعه بها إلى أعلى الدرجات، وبكلمة يسخط الله عليه فيهوي بها إلى أسفل الدركات، ففي الصحيحين عن حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه- صلى الله عليه وسلّم- قال: “إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالًا يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالًا يهوي بها في جهنم”.
لذا كان السلف الصالح والمؤمنون الصادقون الصالحون يتعهدون ألسنتهم ويحرصون على انتقاء كلماتهم وألفاظهم فعاشوا أتقياء أنقياء أصفياء وسعداء، فهذا الأحنف، ابن قيس يخاصمه رجل فيقول له: “لئن قلت واحدة لتسمعن عشرًا”، فيقول له الأحنف: “لكنك والله لو قلت عشرًا ما سمعت واحدة”.
ويقول وهب بن منبه: “ثلاث من كُنّ فيه أصاب البر: سخاوة النفس، والصبر على الأذى، وطيب الكلام”؛ إن الكلام الليّن يغسل الضغائن المستكنّة في النفوس، ويحول العدو اللدود إلى حميم ودود.
خصائص الكلمة الطيبة وفضلها
وتتعدد خصائص الكلمة الطيبة وفضلها في الإسلام على النحو التالي:
- نيل الأجر والثواب: فالمسلم حريص بطبعه على الاستزادة من الأجور، لذلك فهو يسعى في تحري الخير في الأعمال التي تقربه إلى رضا الله -سبحانه وتعالى-، وقد يغفل البعض عن أنه قادر على الحصول على أجر عظيم بواسطة لسانه، قال رسول الله: “الكلمةُ الطَّيِّبةُ صدَقةٌ” (البخاري ومسلم).
- أثرٌ عظيمٌ في ميزان الإنسان عند الله -تعالى-: وكم من كلمة خيرٍ ألقاها شخصٌ ولم يُعِرْها اهتماما، وكانت كفيلة بتغيير حياة إنسان وتبديل تصرفاته، كيف لا وقد كان سلاح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع المشركين هو الكلام؛ دعوةً إلى عبادة الله، وحثاً على فعل الخير.
- أساس العلاقات الطيبة بين الناس: ومَن أراد مفتاح القلوب فعليه بأطايب الكلام، فكم من كلمةٍ غيّرت نفسية المخاطب بها، وكم من كلمةٍ جمعت الناس على فعل خير، وكم من كلمةٍ عصمت الدماء، وقد وجّه الشرع الحكيم إلى اختيار أحسن الكلام عند مخاطبة الناس لِما له من أثر طيب على الآخرين. قال الله -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة 83].
- منحة من الله -تعالى-: فعلى المسلم أن يعوّد لسانه عليها، وذلك بانتقاء ألفاظه، وحسن استخدام الوقت والمكان المناسب لها، فيخاطب الآخرين بأطيب الكلام مهما اختلفت مواقعهم، ويخاطب بها مسؤوله ومن هو في مرتبته ومن هو دون ذلك، لذا يقول الإمام علي- رضي الله عنه-: “إنَّكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم بسطُ الوجه، وحُسن الخلق”.
- أثرها يبقى مدة طويلة: فأقوال أهل الخير من العلماء وغيرهم ما زالت محفوظة إلى اليوم، وما زال يرددها الكبير والصغير، فهي تفعل في الإنسان فعل الأدوية.
- كالشجرة الطيبة: حيث ضرب الله مثلا للكلمة الطيبة ووصفها بشجرة طيبة، قال الله تعالى في سورة إبراهيم: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) [إبراهيم:24] .
- غذاء للروح وشفاء لما في الصدور من أمراض.
- أساس متين تبنى عليه علاقات الحب: وكذلك المودة، والرحمة، والإنتاج، والتربية بين الناس.
- تهيِّىء المناخ الملائم لنمو العلاقات الطيبة بين الناس: والتي تؤدي إلى ثمار عظيمة تحقق سعادة وفرح وبهجة، ومعاني الخير بين الناس.
- تعمل على تأليف القلوب وتعارفها.
- سبب النفع والخير على صاحبها في حياته وبعد مماته.
- تزداد القلوب بها سعادة وبهجة وألفة.
- تنقذ النفوس من النار، وتهدى إلى نور الإيمان ودروب الخير والصلاح.
- سبب لنيل رضى الله ومحبته، ورفع درجة المؤمن، وبالتالي دخول الجنة.
- رفع الله بها درجات أي: يرفع الله بها درجاته، أو يرفعه الله بها درجات.
- بها يثبت الله الذين آمنوا في القبر، وعند بعث الناس من قبورهم للحساب، وبقدر فهم معانيها، والعمل بمقتضاها تزداد وتقوى جذورها، وتبسق فروعها، ويطيب أكل ثمارها.
- شعبة من شُعب الإيمان: فعن عن أبي هريرة- رضي الله عنه-، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جارَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه” (متفق عليه).
- سِمَة المؤمنين الصادقين والدعاة وشعارهم: قال الله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الفتح: 26].
- صدقة: فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “كل سُلَامَى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقةٌ، وتعين الرجلَ في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعَه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة يمشيها إلى الصلاة صدقةٌ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة” (البخاري ومسلم).
- تُوافق الشرع الحنيف: فتدعو إلى ما يُعزِّز التوحيد، وينافي البدع والمنكرات، والشهوات والشبهات، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].
- سبب لاجتماع الكلمة، وتآلف القلوب: قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت: 34، 35].
- انتصار على الشيطان: قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) [الإسراء: 53].
- سبب دخول الجنة: عن عبدالله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “في الجنة غرفة يُرَى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها”، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله؟ قال: ((لمَن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وبات قائمًا والناس نيام”؛ (الطبراني في الكبير بإسناد حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، حسن صحيح).
- تصعد إلى السماء: فتفتَّح لها أبواب السماء، وتُقبل بإذن الله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10].
- هدايةِ الله وفضله للعبد: قال تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) [الحج: 24].
- هل جزاء الإحسان إلا الإحسان: انظر بماذا تجازى على كلمة تقولها في الذبِّ عن عرض أخيك المسلم؛ ففي الحديث: عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن ردَّ عن عرض أخيه، رد الله عن وجهه النارَ يوم القيامة” (الترمذي وأحمد).
- منتقاة: حيث يعلم صاحبها أن الكبير والصغير والرجل والمرأة يقرأها أو يشاهدها فيختار من الألفاظ ما يتناسب مع الذوق العام وفي اللغة من السعة ما يمكن الإعلامي من اختيار ما يدل على مراده دون أن تستنكره الأذواق السليمة.
- تخاطب الأطفال بلغة تدرك حاجتهم وتلبي مطالبهم النفسية والعقلية فهم نصف الحاضر وكل المستقبل وأصحاب النوايا السيئة يتسابقون للاستحواذ عليهم والغلبة لمن أحسن التعامل مع هذا الكنز.
إن الكلمة الطيبة من أبسط وأسهل الطاعات، وأكثرها تأثيرًا في النفوس، فهي لا تتطلب مالاً أو جهداً كبيراً، وفي الوقت نفسه تُعطي ثماراً عظيمة، ويكفي أنها مفتاح القلوب، وتُساعد على حلّ المشكلات.
مصادر ومراجع:
- أمينة أحمد زاده: وقولوا للناس حُسنًا.
- موقع الجزيرة: الدكتور عمر عبد الكافي يوضح قيمة الكلمة الطيبة وأثرها في المجتمع.
- د. مهران ماهر عثمان: الكلمة الطيبة صدقة.
- عبد الحليم توميات: الكلمة الطيبة وأثرها في الدعوة إلى الله.
- محمد عطية: إعلام الكلمة الطيبة.