لعبت الكتاتيب دورًا مهمًّا في تنشئة وتعليم الأجيال في العالم الإسلامي، حيث كانت بمثابة حجر الأساس لبناء منظومة تعليمية شاملة، ركزت على تعليم القرآن الكريم، وحفظه، وفهم معانيه وتعاليمه، وتعليم القراءة والكتابة باللغة العربية، من خلال تعليم الحروف الأبجدية، وكيفية نطقها وكتابتها، ثم تعليم مبادئ الدين الإسلامي، مثل العقيدة والشريعة والأخلاق، بالإضافة إلى غرس القيم والمبادئ الإسلامية، مثل الصدق والأمانة والعدل والاحترام، وغيرها من الصفات النبيلة.
مفهوم الكتاتيب ونشأتها وتطورها
وتُعرف الكتاتيب في اللغة بأنها من موضع للتعليم الأساسي، كان يقام- غالبًا- بجوار المسجد، لتعليم القراءة والكتابة والقرآن الكريم، وشيء من علوم الشريعة والعربية، ومبادئ الحساب. وفي لسان العرب: “هي موضوع تعليم الكتاب”، بينما في الكامل: “المكتب موضع التعليم، والمكتب المعلم، والكتاب الصبيان، قال: ومن جعل الموضع الكتاب فقد أخطأ”.
وفي الاصطلاح، فهي “جمع كُتَّاب بضم الكاف وتشديد التاء، وهي مدرسة القرآن ومعلمة الأجيال، كانت ولا تزال من أفضل وأهم المؤسسات التعليمية التي عنيت بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم عبر الأجيال، وحافظت على اللغة العربية واستقامة اللسان العربي، وكانت بمثابة الدروع التي حافظت على تراث الأمة في مواجهة مدارس الإرساليات التي غزت عالمنا العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر.
ويُعَدُّ الكُتَّاب من أقدم المراكز التعليمية عند المسلمين، وقيل بأن العرب عَرَفُوه قبل الإسلام، ولكن على نطاق محدود، وكانت مكانة الكُتَّاب في القرون الهجرية الأولى عالية الشأن؛ إذ يُعِدُّ لبداية تعليم أعلى، “فكان يشبه المدرسة الابتدائية في عصرنا الحاضر، وكان من الكثرة بحيث عدَّ ابن حوقل ثلاثمائة كُتَّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية”.
ويظهر أن الكُتَّاب كان محدود العدد في البداية لكنه أخذ يزداد مع اتساع رقعة الفتوح الإسلامية؛ حيث لعب الفاتحون من أهل الجزيرة وما جاورها دورًا كبيرًا في إيجاد هذا الصرح التعليمي في البلاد المفتوحة ليعلموا أولادهم القرآن ويلقنوا المسلمين الجدد مبادئ دينهم، وهكذا وُجدت الكتاب بكثرة في البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان ودمشق وحلب والفسطاط وغيرها من الحواضر.
ومنذ القرن الثاني الهجري لوحظ حدوث متغيرين كان لهما أثرهما على مؤسسة الكتاب، أولهما الزيادة الضخمة في أعداد الكَتَاتيب والمعلمين بها حتى كان لكل قرية كتاب، بل ربما وجد أكثر من كتاب، وثانيهما اهتمام الدولة بأمر الكتاتيب التي بدأت بمبادرات أهلية ثم ما لبث الخلفاء العباسيون أن أولوها عنايتهم لإشباع حاجات الجهاز الإداري للدولة الذي بلغ أقصى اتساعه في ذلك العهد، وهنالك عدد من الوقفيات التي تبين مدى عناية الخلفاء وأفراد الأسر الحاكمة بتشييد الكتاتيب والإنفاق عليها.
وفي الكُتّاب، كان تعليم الأطفال يبدأ منذ اقتدارهم على الكلام، فكانوا من هذه اللحظة يعلمون النطق بالشهادتين “أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله” فإذا بلغ الأطفال السادسة من العمر ألحق بعض أبناء الأرقاء، وبعض البنات، وجميع الأولاد، عدا أبناء الأغنياء (الذين كانوا يملكون مدرسين خصوصيين) بمدرسة أولية ملحقة في العادة بأحد المساجد، وفي بعض الأحيان بجوار عين ماء عامة في الخلاء. وكان التعليم في هذه المدارس عادة بالمجان.
وكان الصبيان يتعلمون- في سن السادسة- الكتابة والقرآن ومبادئ النحو، وعندما كان التلاميذ يتمكنون من هذه المواد والمهارات كانوا يسمعون الشعر والحديث، وكان بعضهم يستمر في الدراسة ويتعمّق في واحدة أو أكثر من المواد الدينية أو الأدبية أو العلمية، وهذا التعمّق في بعض المواد يقابل في مرحلة الدراسات العليا كما في أيامنا هذه.
وبالنسبة للمدة التي كان يقضيها الطفل في الكُتّاب فهي تختلف باختلاف استعداد الطفل ومدى قابليته للتعلم، وإمكانياته في الانتقال إلى المرحلة التعليمية التالية على أن هناك بعض الإشارات التي تحدد مدة الدراسة بالكتّاب بسن البلوغ فقد أشارت بعض المصادر إلى أن الصبي إذا بلغ سن البلوغ ترك المكتب وهذه تتراوح ما بين الثانية عشر والخامسة عشر، وكانت أيام التعليم- في الغالب- خمسة أيام ونصف اليوم: السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، والأربعاء: وصبيحة الخميس؛ حيث كانت بقية يوم الخميس، وطوال الجمعة عطلة الراحة، بالإضافة إلى أيام عيد الفطر الثلاثة وأيام عيد الأضحى الخمسة وبعض المناسبات العامة.
وتطور الكُتّاب وانتظم أمره بصورة فنية فائقة؛ لعناية الناس بأمر أولادهم من جهة، ولاشتداد الدولة واهتمامها بأمر التعليم وما إليه من الشؤون العامة من جهة أخرى.
واهتمت مؤلفات الحسبة الإسلامية بالطرائق التي يجب على معلمي الأطفال “المؤدبين” اتخاذها في تعليم هذه المرحلة العمرية، حيث شددت عليهم في الجانب الأخلاقي والتربوي، ونبهتهم إلى عدم أذية الصغار إلى الحد المضر، وجعلت مراقبة هؤلاء المؤدبين مهمة منوطة بالدولة الإسلامية ممثلة في سلطة المحتسب.
دور الكتاتيب في نشر اللغة والقرآن
ومثّلت الكتاتيب دورًا متميزًا في تكوين الخَلفيّة القرآنية الإسلامية في عقول كثير من أبناء المجتمع في الدول الإسلامية لفترة من الزمان ليست بالقصيرة، حيث انتشرت في كثير من ربوع دولة الإسلام، وأسهمت في الآتي:
- تعليم مبادئ الإسلام: فلم يقتصر دورها على تعليم القرآن الكريم والقراءة والكتابة فقط، بل كانت تُعلّم الطلاب- أيضًا- مبادئ الدين الإسلامي، مثل العقيدة والشريعة والأخلاق. وكان ذلك يتم من خلال تعليمهم أحكام الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج، وغيرها من واجبات المسلم.
- تربية الأجيال: حيث لعبت دورًا مهمة في تربية وتنشئة الأجيال، وغرس القيم والمبادئ الإسلامية في نفوسهم. وكان ذلك يتم من خلال تعليمهم الأخلاق الحميدة، مثل الصدق والأمانة والعدل والاحترام، وغيرها من الصفات النبيلة.
- تعزيز التقدم الثقافي والعلمي: حيث استمرت في القيام بدورها الثقافي والعلمي والتربوي في المجتمعات الإسلامية، في شتى العواصم والمدن والبلدات والقرى، وربما تعدَّدت في الحيِّ الواحد، مثلما تعدَّدت المساجد.
- نقطة انطلاق الحضارة الإسلامية: حيث كانت تُعِدُّ الأجيال الناشئة لمواصلة الدراسة والبحث والتخصُّص العلمي الدقيق، بعد أن تُزوِّدهم بمبادئ التحصيل، وتصقل مواهبهم، وتُنمِّي ثقافاتهم وعلومهم وسلوكهم الاجتماعي، وتُعزِّز معارفهم وقاعدتهم الذهنية؛ ليصبحوا فيما بعد قادة الفكر والعلم والتربية.
- تعليم مبادئ القراءة والكتابة: فأوّل ما يبدأ به الطالب في الكُتّاب هو تعلم الحروف والكتابة والقراءة عن طريق الشيخ أو عن طريق مساعديه.
- حفظ القرآن الكريم: فبعد تعلم مبادئ القراءة والكتابة يلقن الطفل على يد الشيخ القرآنَ الكريم إلى أن يتعلّم ويصبحَ ماهرًا يكتُبُ لوحَهُ بيدِهِ، ويُلزِمُهُمُ الشيخ باستظهار القديم قبلَ الجديدِ من المحفوظ، ولا يسمحُ بالخطأ فيه، فإن أخطأ يكلّفُه بإعادته مرّات ومرّات حتى يستظهرَه، وقد يعاقبُهُ إن أخطأ.
- الحفاظ على اللغة العربية: فهي مدرسة القرآن ومعلمة الأجيال، وكانت ولا تزال من أهم المؤسسات التعليمية التي عنيت بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم عبر أجيال متوالية، فحافظت على اللغة العربية واستقامة اللسان العربي، وكانت بمثابة الدروع التي حافظت على تراث الأمة في مواجهة مدارس الإرساليات التي غزت عالمنا العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر.
- تسهيل العلم المجاني: حيث كانت نظامًا تعليميًّا مجانيًا لا يكلف المجتمع أية أعباء للدراسة فوق أنها تستمد تكاليفها المادية إما من نظام الأوقاف أو من التبرعات البسيطة والجهود التطوعية للمجتمع.
هكذا، كانت الكتاتيبَ شعاعًا ثقافيّا مهمّا في المجتمع المسلم، فهي تُسهِمُ في الحفاظِ على اللغة العربيّة ونشر العلم، وتمسّك الناس بحبلِ الله المتين، فإذا عمّت وانتشرت هذه الكتاتيب في مجتمعاتنا؛ فسيكثُر الخير والنفع والفضيلة ببركة القرآن الكريم، وينشأ جيلٌ قرآنيٌّ يحفظُ عُرَى الإسلامِ، فمن أراد الدنيا فعليه بالقرآن ومن أراد الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معًا فعليه بالقرآن، ففيه عزُّ الدين والدنيا.
مصادر ومراجع:
- ابن سحنون: آداب المعلمين، ص 64.
- ابن منظور: لسان العرب 3/129.
- المبرد: الكامل 4/78.
- فاطمة حافظ: الكتاتيب: أولى المعاهد التربوية في الحضارة الإسلامية.
- إسلام ويب: الكتاتيب عند المسلمين.
- محمد شعبان أيوب: قصة المدارس الإسلامية.. من الكُتّاب إلى دار العلم.
- الزركلي: الأعلام 6/111.
- مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا، ص 100.
- د.ليلى بيومي: دور الكتاتيب في حفظ الهوية الثقافية لأبنائنا.