تُعد الكتابة من صفات الله الفعلية، فهو القادر سبحانه على كتابة كل ما كان وما سيكون في اللوح المحفوظ، وهذه الصفة الإلهية تزيدنا إيمانًا بالله تعالى وبعلمه الشامل لكل شيء، وتُشعرنا بالاطمئنان إلى قدرته جل وعلا، وتُحفزنا على العمل الصالح والسعي لتحقيق رضى الله تعالى.
والكِتَابَةُ صِفةٌ فعليَّةٌ ثابتةٌ للهِ عزَّ وجلَّ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، فهو سُبحانَه يَكتُبُ ما شاءَ متَى شاءَ، كما يليقُ بعظيمِ شأنِه، لا ككِتابةِ المخلوقين، التي تليقُ بصِغَرِ شأنِهم.
مفهوم الكتابة وذكرها في القرآن والسنة
مصدر الكتابة من الكاف والتاء والباء (ك ت ب)، وتدل على جمع شيء إلى شيء، وهي الضم والجمع، ويقال: كتبت الكتاب أكتبه كتبًا. ومن ذلك الكتيبة: وهي الطائفة من الجيش العظيم.
وتكتبت الخيل، أي: تجمعت. وتكتبوا: تجمعوا. ومنه: الكتب لجمع الحروف في الخط. ومنه: المكاتبة: وهي أن يكاتب الرجل عبده أو أمته على مالٍ ينجمه عليه، ويكتب عليه أنه إذا أدى نجومه في كل نجمٍ كذا وكذا فهو حرٌ.
وعرّف الكفوي الكتابة اصطلاحًا بقوله: “جمع الحروف المنظومة وتأليفها بالقلم”. وجاء في معجم لغة الفقهاء: الكِتَابة: بكسر الكاف مصدر، (كتب) الكتاب خطه، ما يكتب في القرطاس من الكلام، وهذه التعاريف للكتابة كصناعة وعلم.
وأسند الله تعالى في القرآن الكريم الكِتَابة لنفسه في عدة آيات، بصيغ مختلفة (كتبنا، سنكتب، نكتب، كتب الله، كتبناها، كاتبون، إنا كنا نستنسخ، والله يكتب ما يبيتون، واكتب لنا، فاكتبنا). وفي آيات أخرى جعلها من فعل الملائكة، كما قال: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف:80].
وكتب الله- عز وجل- مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ، بعد علمه بها سبحانه أزلًا، يقول تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:51].
ومما يكتبه الله تعالى ويحصيه أقوال العباد وأفعالهم، ومما يدل على ذلك قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران:181].
وفي الحديث الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “أول ما خلق الله القلم، ثم قال اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة” (أحمد والترمذي).
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتُب، قال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتُبْ مقاديرَ كل شيء حتى تقومَ الساعة” (أبو داود وصححه الألباني).
وعن ابن عباس – رضي الله عنهما – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فيما يرويه عن ربه – تبارك وتعالى – قال: “إن اللهَ كتَب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك؛ فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملْها، كتبها الله عنده حسنةً كاملة، وإن همَّ بها فعملها، كتبها الله عنده عشرَ حسنات، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن هَمَّ بسيئة فلم يعمَلْها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعمِلها كتبها الله سيئة واحدة” (البخاري ومسلم).
وهذا هو النبي- صلى الله عليه وسلم- تأتيه أول فرصة لنشر القراءة والكتابة فينتهزها، كي يتعلمها أكبر عدد من أبناء المسلمين وصبيانهم؛ فقد روى الرواة الأثبات أن المسلمين أسروا في غزوة بدر الكبرى سبعين رجلا من المشركين فقبل النبي ممن عنده مال الفداء، وكان ذلك أربعة آلاف درهم من الموسرين، أما من كان يحسن القراءة والكِتابة فقد جعل فداءه أن يعلم عشرة من غلمان المدينة القراءة والكتابة وقد فعل النبي هذا في وقت كان المسلمون أحوج إلى درهم ليزيلوا به خصاصتهم ويتقووا به على أعدائهم.
بل إن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يحرصُ على الكِتابة في الأمور المهمة، فكان يبعث بالكتب والرسائل إلى الملوك، حيث كان للكتابة شأن عظيم بينه وبين وفود قريش والقبائل المجاورة، والممالك القريبة منه، وكانت وسيلةً مهمة للتفاوض مع المشركين، وهو أمرٌ معلوم في صُلح الحديبية؛ فعن أنس أن قريشًا صالحوا النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- فيهم سهيل بن عمرو، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لِعَليٍّ: “اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم”، قال سهيل: أما باسم الله، فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتُبْ ما نعرف: باسمك اللهم، فقال: اكتُب من محمد رسول الله، قالوا: لو علِمْنا أنك رسولُ الله لاتَّبعناك، ولكن اكتُبِ اسمَك واسمَ أبيك.
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: اكتُبْ من محمد بن عبدالله، فاشترطوا على النبيِّ- صلى الله عليه وسلم- أن من جاء منكم لم نردَّه عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله، أنكتُب هذا؟ قال: “نَعم، إنه مَن ذهَب منا إليهم، فأبعَدَه الله، ومَن جاءنا منهم، سيجعَلُ اللهُ له فرجًا ومخرجًا” (مسلم).
وكان للنساء حظُّهن من تعليم الكِتابة، فعن الشفاء- رضي الله عنها- قالت: دخَل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حفصةَ وأنا عندها فقال لي: “ألا تُعلِّمينَ هذه رقية النملة كما علَّمتها الكتابة” (صحيح أبي داود).
مقاصد الكتابة
وأشار القرآن الكريم إلى مقاصد الكتابة وفوائدها؛ لما لها من مرتبة رفيعة، ومنزلة شريفة، وذلك على النحو التالي:
- حفظ حقوق العباد من الضياع: وهذا من أهم المقاصد التي ذكرت في القرآن الكريم. كما ورد في آية الدَّين: {… وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ …} [البقرة:282]. وقد ذكر الله فيها من الأحكام العظيمة توثيق الدين بالكتابة.
- حفظ العلم وتدوينه: ومن مقاصد الكِتَابة، كتابة العلم وتدوينه، فما دونت العلوم، ولا قيدت الحكم إلا بالكتابة، وقد ذكر الله من نعمه على خلقه أنه (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [العلق:4-5]. فالله تعالى جعل القلم سببًا، به يحفظ العلم، وبه يثبت، وبه يوصل إلى حفظ ما يخاف فوته ونسيانه، من أمر دينهم ودنياهم، ما لو لم يكن القلم لم يستقم أمر دينهم ولا دنياهم.
والتعليم بالقلم أكثر ما يعتمد الشرع عليه؛ حيث إنّ الشرع يكتب ويحفظ، والقرآن يكتب ويحفظ، والسنة تكتب وتحفظ، وكلام العلماء يكتب ويحفظ.
- حفظ أعمال العباد لمحاسبتهم عليها: ومن مقاصد الكِتَابة حفظ أعمال العباد، قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ) [الانفطار:10-11]. فأخبر الله تعالى أن على العباد حافظين؛ كاتبين لأعمالهم، والحكمة من أن الله جعل ملائكة تكتب أعمال بني آدم: أن المرء إذا كان عليه حافظٌ أداه ذلك إلى المراقبة؛ فيرتدع عن تعاطي ما يؤخذ عليه، فجعل عليه حافظين ليحتشم عنهم، ولا يأتي من الأمور ما يسوؤهم، ووصف أنهم كرام ليصحبهم صحبة الكرام، ومن صحبة الكرام أن يحترمهم، ويتقي مخالفتهم، ولا يتعاطى ما يسوؤهم، وفي ذكر الكرام فائدة أخرى.
والحكمة فى كتابة الأعمال وحفظها على العالمين أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن الفواحش والمنكرات، وأبعث له على عمل الصالحات، فإن المرء إن لم يصل إلى مقام العلم الراسخ الذي يثمر الخشية لله والمعرفة الكاملة التي تثمر الحياء، ربما غلب عليه الغرور بالكرم الإلهي، والرجاء في المغفرة والرحمة، فلا يكون لديه من الخشية والحياء ما يزجره عن المعصية، كما يزجره توقع الفضيحة في موقف الحساب على أعين الخلائق وأسماعهم.
ضوابط
وقد أشار القرآن الكريم إلى ما ينبغي أن تكون عليه الكتابة والكاتب، فذكر بعضًا من هذه الضوابط، منها:
- العدل: وهو أن يكون الكاتب عدلًا فيما يكتب، فقد قال الله تعالى في آية الدين: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) [البقرة:282]. قال أبو جعفر: بالعدل، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه ولا يبخسه، ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه.
- العلم: بقواعد الكتابة وأصولها، وقد قال الله تعالى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ) [البقرة:282]. ففي قوله: (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّه) دليل على أن الكتابة علم من العلوم؛ ولكل شأن طريقة في كتابته.
ولهذا بعد أن شرط الله في الكاتب العدالة شرط فيه العلم بالأحكام والفقه في كتابة الدين؛ إذ الكتابة لا تكون ضمانًا تامًّا إلا إذا كان الكاتب عالمًا بالأحكام الشرعية، والشروط المرعية عرفًا وقانونًا، وكان عادلًا حسن السيرة، لا غرض له إلا بيان الحق بلا محاباة.
وقدم صفة العدالة على صفة العلم؛ لأن العادل يسهل عليه أن يتعلم ما ينبغى أن يعلمه لكتابة الوثائق، ولكن من كان عالمًا غير عادل فالعلم بهذا وحده لا يهديه للعدالة، وقلما رأينا فسادًا من عدل ناقص العلم، ولكن أكثر الفساد من العلماء الذين فقدوا ملكة العدالة.
- الحفظ من التبديل والتحريف: وقد مدح الله تعالى الربانيين والأحبار بكونهم استحفظوا كتاب الله فحفظوه، والحفظ يشمل ناحية العمل، وناحية حفظه، حفظ صدر، وحفظ كتاب، فقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) [المائدة:44].
فالكتابة أمانة، وبها يُحفَظ الدين، وتحفظ الوصايا، وينشر العلم والمعرفة بين المسلمين، وعن طريقها يجري توثيق الأحداث التاريخية، ونقلها للأجيال اللاحقة، والتواصل بين العالمين، والتعبير عن الأفكار والمشاعر، ونشر الوعي.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 5/158.
- القونوي: أنيس الفقهاء، ص61.
- ابن منظور: لسان العرب 1/700.
- الأحمد نكري: دستور العلماء، 3 /83-84.
- الماتريدي: تأويلات أهل السنة 10/578.
- ابن عثيمين: تفسير القرآن الكريم، ص 259.