لقد برز الإمام الشاطبي في مختلف العلوم الإسلامية، وترك إرثًا علميًّا غنيًّا، شمل الفقه وأصوله، والحديث، وعلم القرآن، والبلاغة، كما امتدّ فكره ليشمل التربية والتعليم، فوضع أسسًا متينة لنظام تربوي إسلامي متكامل، ونظّر لمختلف جوانب العملية التربوية، بدءًا من تحديد أهداف التربية، إلى اختيار المناهج وطرق التدريس، وصولًا إلى تقييم نتائج التعلم.
ويرى الشاطبي أنّ الهدف الأسمى للتربية هو إعداد الإنسان المسلم ليكون خليفة الله في الأرض، وذلك من خلال غرس العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس المتعلمين، وتعليمهم أحكام الدين وأخلاقه، وبناء الشخصية الإسلامية المتكاملة، التي تجمع بين العلم والعمل، والإيمان والتقوى، وإعداد المتعلمين للقيام بأدوارهم في المجتمع الإسلامي، كعلماء، ودعاة، وقادة، ومصلحين.
من هو الإمام الشاطبي؟
هو أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي اللخمي، فقيه كبير وأصولي شهير من أهل غرناطة، ولد عام 538 هـ، واشتغل مُنذُ صغره بالعلم، وتميّز في طلبه للعلم بالشموليّة؛ فلم يقتصر على علمٍ واحد، حيث كان أُصوليّاً، ومُفسِّراً، وفقهياً، ومُحدثاً، ولُغويّاً.
وكان الشاطبي ضريرًا ومع ذلك كان مُطلعاً على الثقافات والمعارف، وبعض العُلوم الأُخرى، وكان له فضلٌ في القراءات، واللُغة والنحو، والفقه، والأُصول، والحديث، لكنّه برع في الأُصول ومقاصد الشريعة، وبفضل براعته وذكائه التحق بكبار الأئمة في العُلوم، وتكلّم مع شيوخه في كبار المسائل.
ونشأ الشاطبيّ في مدينة غرناطة، وهي آخر الممالك الإسلاميّة التي قصدها النّاس، وكان ذلك في عصر ازدهار المماليك الفكريّ والعلميّ، ولم يُذكر عنه خُروجه من غرناطة إلى غيرها، بل ذُكِر أنّه لم يخرج في سفرٍ أصلاً لا إلى الحج أو العُمرة.
وذكر عن نفسه أنه مُنذ فهم عقله وهو ينظر في الأُصول والفُروع وترجيحات العُلماء، وأنه لم يدخر جُهداً في علمٍ من العُلوم على حساب غيره، وقد نقل العُلماء عنه حُبه الشديد للعلم مُنذ طُفولته، وتحمل في ذلك، وبدأ في تعلمه للعلم بالتدرُج، وكان مُتمسكاً بالكتاب والسُنة.
أمّا شيوخه الذين كان لهم الفضل الكبير في تكوين شخصيته، فمن غرناطة؛ الشيخ أبو عبد الله مُحمد بن علي الفخار البيريّ، وهو من أفضل قُرّاء الأندلس من حيث التلاوة والأداء، وقرأ عليه الشاطبيّ القراءات السبع بسبعِ ختمات، وتعلّم منه العربية، وتعلّم من الشيخ المقري القادم من تلمسان، وتلقّى العربية من شيخه أبو جعفر أحمد الشتوري الذي كان يُدرِس كتاب سيبويه، وقوانين ابن أبي الربيع، وألفيّة ابن مالك.
وأمّا تلامذته؛ فكان أبو يحيى بن عاصم، والقاضي أبو بكر الأندلسيّ الغرناطيّ، والشيخ أبو عبد الله المجاري، وعلي بن مُحمد بن سمعت الأندلسيّ الغرناطيّ، ومُحمد أبو عبد الله البيانيّ، وأحمد القصار الأندلسيّ الغرناطيّ.
وترك الشاطبي العديد من المؤلفات، منها:
- كتاب الموافقات وهو كتابٌ في أُصول الفقه، واسمه: عنوان التعريف بأسرار التكليف.
- كتاب الاعتصام وهو كتابٌ في البدع، وبحث فيه موضوع البدع بشكلٍ دقيق.
- كتاب الإفادات والإنشادات وهو كتابٌ في الإفادة والإنشاد، وجمع فيه بين الطُرف والتُّحف والمُلح الإعرابيّة. كتاب المقاصد الشافيّة في شرح الخلاصة الكافية ونسبه إليه أحد تلامذته.
- كتاب المجالس وهو كتابٌ شرح فيه كتاب البيوع في صحيح البُخاريّ.
- كتاب عنوان الاتفاق في علم الاشتقاق.
ووفقًا لتلميذه أبي عبد الله المجاريّ، فقد توفي الشاطبي في شهر شعبان سنة 790 هـ.
ملامح الفكر التربوي عند الإمام الشاطبي
وآراء الإمام الشاطبي التربوية التي يُمكن استخلاصها من كتبه ومؤلفاته وخصوصًا كتاب “الموافقات” تستقي حتمًا من الأصول الإسلامية والنصوص الدينية المرجعية: القرآن الكريم والسنة المطهرة وآثار الصحابة، لأن هذه الأصول تعالج الوضع الذي يعيشه الإنسان في دنياه وترفعه إلى الصورة التي يريدها الله، ومن أبرز هذه الأفكار ما يلي:
- الهدف من تكاليف الشريعة يتمحور حول صيانة مجموعة من المقاصد المرتبطة بالحياة الاجتماعية والفردية للإنسان وحفظها سواء منها الضرورية أو الحاجية أو التحسينية، وصيانة هذه المقاصد يكون بإقامة أركانها وتثبيت قواعدها، وبرعاية الشروط التي تحمي كيانها وتحافظ عليه في صفة السلامة والكمال والتوازن، وبدرء الاختلال الواقع أو المتوقع فيها بالحيلولة دون ما من شأنه أن يعرضها للتلف والضعف والنقصان.
- حفظ المقاصد يتم من خلال تشبع الأفراد بنظام من القيم يتصف بالكمال، ومن خصائص الكمال أن تكون تلك القيم ملامسة لشغاف الفطرة التي فطر الله الناس عليها لصيقة بها لا تنفك عنها وهذا النظام القيمي الإسلامي هو قوام النظام التربوي الإسلامي ويتشكل منه النظام الاجتماعي ويقوم على أساس راسخ من الإيمان بالله والإقرار بالعبودية الخالصة له.
- والقيم التربوية الإسلامية من تعاون وتكافل وصدق في القول وإخلاص في العمل واحترام لكرامة الإنسان وغيرها، لا يمكن أن تسود إلا مع الاعتقاد الصادق في الله ومراقبته بصفة دائمة، وهو الشرط الكفيل بضمان الحفاظ على المقاصد التي رمت إليها الشريعة.
- ويرى الشاطبي أن المكلف حين يفهم مراد الشرع من قيام أحوال الدنيا، يسلك في حياته مسلكا يتحدد بمقتضى هذه المعرفة من الإقدام على العمل أو تركه.
- ويرى أن التربية المقاصدية تتحقق من خلال توعية المكلف وتبصيره بحقيقة الوجود، وبالخالق والمخلوقات وما بينها من علاقة، وعن طريق رسم منهج للسلوك الفردي والجماعي الكفيل بتحقيق المصالح ورعايتها، هاديا إلى الأسلوب الأصلح في الممارسة والتطبيق والتفكير.
- التربية عملية حث أو تغيير أو إبقاء على سلوكات وأعمال عقلية أو انفعالية أو عاطفية أو بدنية، وحين تهتدي بالشريعة وتخضع لضوابطها وتسترشد بأهدافها، ينمحي كل ما يمكن أن يبدو من عوائق تقف في وجه بناء الإنسان أو تحول دون توحيد جهوده وتكامل قواه وتحقيق كماله.
- ويرى الشاطبي أن غاية المقاصد هي إصلاح الإنسان وسعادته في الدنيا بإبعاد المفاسد والشرور عنه وسعادته في الآخرة بنيل رضوان الله عز وجل.
- وغاية التربية المقاصدية يجب أن تستنبط من المقاصد وتجسد مطامح واختيارات الدين الإسلامي، وترتبط بقيمه ومبادئه، وتساهم في إصلاح الإنسان وتحقيق سعادته في الدارين؛ فالشرع جاء ببيان ما تصلح به أحوال العبد في الدنيا والآخرة في حياته الفردية والجماعية.
- والعلم أهم وسائل العبادة، به يفهم المكلف مقاصد الشرع فيما جاء به. فالله يعبد بالعلم والعلم ضرب من ضروب العبادة.
- والعبادة في الإسلام لا يقتصر معناها على الصلاة والصيام والحج، ولا تعني الانقطاع عن العمل والتجرد عن الدنيا، فالمكلف خُلِقَ ليعبد الله على هذه الأرض وفيها.
- والشارع لم يكلف الناس ما كلفهم به من واجبات في العبادات والمعاملات من دون قصد، فقد اتفقت الأمة بل سائر الأمم على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الحقوق الخمسة الدين والنفس والمال والعقل والنسل.
- صلاح الدين والدنيا غاية تتفرع عنها ثلاثة أهداف، أولها تنشئة أجيال مسلمة مؤمنة مستنيرة، تعبد الله وتستعينه وتسلك مهتدية بالصراط المستقيم الذي نهجه في حياته رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة البررة، رضوان الله عليهم، حتى تنعم بالجنة التي أعدها الله، وتعهد الذات البشرية عقلا ودينا حتى تحقق كمالها وتشمو بنفسها، وتعمير الحياة على الأرض وتنميتها وحمايتها.
- والشاطبي المربي حدّد غاية التربية في تثبيت الإيمان في نفس المكلف، الإيمان الذي يحرك السلوك ويؤدي إلى العمل الموحد لله عز وجل، في جميع أشكال هذا العمل ومظاهره، سواء كان في نطاق العبادات أو المعلومات أو عمل العقل والجوارح.
- ويرى الشاطبي أن التعامل مع العقل المسلم لإصلاحه يتطلب التصدي لكل العوامل المؤثرة فيه كالعقيدة والثقافة والخرافات وغير ذلك، فكلها عوامل لها أهميتها في تشكيل العقل وتجديد مكوناته.
- أهل الخشية من العلماء هم مربو هذه الأمة ومعلموها وهم أرفع المدارس عند التحمل إذ من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام، وذلك بطريق المشافهة إذ هي الطريق الأنفع والأسلم للتحمل وبها يتحقق أكثر ما يتحقق الفهم الذي هو طريق العلم بحيث يحصل إما بأمر عادي من قرائن أحوال وإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال وقد يحصل بأمر غير معتاد ولكن بأمر يهبه الله للمتعلم عند مثوله بين يدي المعلم ظاهر الفقر بادي الحاجة إلى ما يلقى إليه وهذا ليس ينكر.
- والتربية الإسلامية من حيث هي مستمدة من الوحي، فإنها تعتمد على غرس الإيمان وتثبيته في نفسية المكلف، وتعتبر ذلك قضيتها الأولى. وهي بهذا الغرس تثبت في نفسية المؤمن الرضا والاطمئنان الناشئين عن الارتباط بالله وعن الاعتماد عليه واستشعار دعمه ومدده والتسليم بقضائه.
- ومن شروط التربية العقلية مخاطبة العالم المربي المتعلم بما يحتمله عقله، فالتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها أو كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها هو عمل ضد التربية العلمية المشروعة، ينسف كل ما تسعى الشريعة إلى بنائه والوصول إليه.
- وتعاليم الإسلام تهذب النزعة الفردية في الإنسان وتربيه على التواضع وعدم الاستعلاء وتحرص على دمج الفرد داخل منظومته الاجتماعية.
- والمعلمون والمربون هم الذين يكتشفون استعدادات الناشئة للأنشطة التي يميلون إليها والمهن التي تناسبهم فيوجهونهم نحوها.
- ومن مهام التربية تجويد أخلاق المتعلم وإكسابه الأخلاق الحسنة الفاضلة وإخراج الأخلاق السيئة منه.
ويرى الشاطبي أن التربية تُبنى على المعلم ثم الكتاب ثم اصطلاحات العلم ومقاصده، والتعليم يقام على ركنين: تحقيق العلم وتنزيله سلوكا وعملا من قبل العالم المعلم ثم صيانة بلاغة أدائه بمراعاة مستويات متعلميه. وهذه المعاني الصحيحة لو أنها وأمثالها في تراثنا تستقرأ وترص، ثم تدرس وتفحص في ضوء قراءة أعمق وأدق للنفس وبالنفس ستكون ولا ريب فتحا مبينا تؤتي في كنفه نظريات تربوية إسلامية أكلها بإذن ربها بحيث تترجم هويتنا الإسلامية بكل أبعادها ومقوماتها.
مصادر ومراجع:
- الشاطبي: الموافقات 1 /177-197.
- د. يوسف القرضاوي: التربية عند الإمام الشاطبي.
- مجدي عاشور: عرض كتاب الشاطبي ومقاصد الشريعة، ص 5.
- عبد الرحمان طريري: العقل العربي وإعادة التشكيل، ص31.
- عبد المجيد بنمسعود: تحرك القيم حول الكليات الخمس، ص28.
- مصطفى بنحمزة: مقاصد التربية الإسلامية، ص 196.