اختار الله- سبحانه وتعالى- لهذه الأمة الفطرة السليمة النقية، وجعلها أخص خصائص دينها، وهدى نبيها- صلى الله عليه وسلم- إليها، فالمسلمون بهذا التكريم أصبحوا حنفاء يحبون الحق ويؤثرونه ويميلون إليه ويقبلونه، لا يعرفون ربًّا إلا الله، ولا يعبدون إلا هو سبحانه، وهذا من عظيم رحمة الله وفضله، إذ قذف في قلوبهم هذا النور، ثم أمرهم بنور آخر هو نور الوحي يهدي الله لنوره من يشاء، ويتبع ذلك أن الله فطرهم على حب التنظف والتطهر وحسن الهيئة والسمت، وغير ذلك من الأخلاق الجميلة.
مفهوم الفطرة وذكرها في القرآن والسنة
وتعرف الفطرة في اللغة بأنها الخلقة، ويدل أصل مادة (فطر) على فتح شيء وإبرازه، من ذلك الفطر من الصوم. يقال: أفطر إفطارًا. وقومٌ فطرٌ أي مفطرون. ومنه الفطر، بفتح الفاء، وهو مصدر فطرت الشاة فطرًا، إذا حلبتها، وهي الاستقامة على التوحيد، وفطر: اخترع وأنشأ.
أما في الاصطلاح فهي الطَّبع السَّويُّ، والجِبلَّة المُستقيمةُ التي خُلِقَ النَّاسُ عليها، وقيل: هي سُنَنُ الأنبياءِ، وهي الجبلة المتهيئة لقبول الدين. وقيل: الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها: على محبة الخير وإيثاره، وكراهية الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله، والتقرب إليه.
قال- جل وعلا: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30].
وضرب الله- سبحانه وتعالى- مثلًا للفطرة السليمة بالزيت الصافي النقي الذي يشع نورًا من صفائه، فإذا أُوقد به السراج التقى فيه النوران فأصبح نورًا على نور، فقال سبحانه: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ”، ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: “فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ”.
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَقَصُّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الْآبَاطِ” (البخاري ومسلم).
أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة
ومن أهم أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها، ما يلي:
- الغفلة والنسيان: حيث بينت النصوص القرآنية ذلك بأن حالتي الغفلة والنسيان من أهم ما يطرأ على الفِطْرة، حتى يترك العبد الميثاق الأول والآخر بينه وبين ربه بدلالة قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 172].
- التربية على العقائد الباطلة: فحكى القرآن الكريم عن ذلك في معرض حديثه عن المشركين بأنهم اتبعوا آثار آبائهم، وأنهم تمسكوا بذلك، واعتبروه دينًا يعبد بلا حجة ولا برهان، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة: 170].
- اتباع سبل الشيطان: قال تعالى في ذلك: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) [البقرة: 168]، قال ابن عباسٍ: (خطوات الشيطان) أي أعماله، لا تجعلوها تجركم. أي: لا تقتدوا بها في اتباع الهوى، فإنه صريحٌ في أن الخطاب للكفرة كيف لا وتحريم الحلال على نفسه تزهدا ليس من باب اتباع خطوات الشيطان، فضلًا عن كونه تقولًا وافتراءً على الله تعالى، وإنما نزل فيهم.
وسائل الاستقامة
وحتى يستقيم المسلم على الفطرة السليمة ويحافظ عليها نقية طاهرة من الأدران، فعليه الالتزام بالآتي:
- التمسك بالقرآن والسنة: فهذا أول أسباب المحافظة على الفِطْرة، من ذلك قول الله- سبحانه وتعالى- بعد أن أمر آدم وحواء وإبليس بالهبوط إلى الأرض بعد أن وسوس الشيطان لهما فأكلا من الشجرة: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة: 38]. أي: أي وقت وزمان جاءكم مني- يا معشر الثقلين- هدى، أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني، ويدنيكم مني، ويدنيكم من رضائي.
- التربية الصالحة: وتنطلق من حسن اختيار الزوجة الصالحة؛ لأن الزوجة الصالحة تعد تربة طيبة لبذور صالحة، فإذا وضعنا هذه البذور الصالحة في تربة صالحة، نضمن بإذن الله تبارك وتعالى وجود ذرية صالحة؛ ولذا لا نعجب من تركيز الإسلام ممثلًا بخطابه القرآني على اختيار الزوجة بدلالة قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [البقرة: 221]. ونجد استمرار الحث على حسن اختيار الزوجة في الخطاب النبوي الشريف؛ فقد ورد ذلك في قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: “تنكح المرأة لأربعٍ: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين، تربت يداك” (البخاري).
- جهاد الشيطان: فهو يلقي في القلوب من الوساوس والخواطر الفاسدة ما لا يعلم خطورتها إلا الله تعالى، والمؤمن الموقن هو من يدفع تلك الوساوس والوسائل (الشيطانية) ويصون قلبه أن يدخله شيء من تلك الوساوس والخواطر. وجهاد الشيطان مرتبتان: إحداهما: الجهاد من خلال دفع ما يلقى إلى العابد من الشبهات والريب القادحة بالإيمان، والثانية: الجهاد المتمثل في دفع ما يلقى إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فإن الجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني يكون بعده الصبر.
- الإيمان والعمل الصالح: فللإيمان والعمل الصالح أثر في الاستقامة على الفِطْرة في الخطاب القرآني؛ لذلك نجد اقترانهما في أغلب المواضع القرآنية قال تعالى: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25].
- تلبية دعوة الله والرسول: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24]، والمعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواهي، ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية.
- إقامة الصلاة والإنفاق، قال تعالى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ) [إبراهيم: 31]. أي إن أهل مكة بدلوا نعمة الله بالكفر، فقل لمن آمن وحقق عبوديته أن (يقيموا الصلاة) يعني الصلوات الخمس، أي قل لهم أقيموا، والأمر معه شرطٌ مقدرٌ، تقول: أطع الله يدخلك الجنة، أي إن أطعته يدخلك الجنة.
- التقوى والقول السديد: قال تعالى في ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [الأحزاب: 70]، يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه، وأن يقولوا قولًا سديدًا أي مستقيمًا، لا اعوجاج فيه ولا انحراف، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال الصالحة، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية.
الفطرة السليمة هي الاستقامة والسلامة، والتوجه التلقائي إلى الخالق وإلى توحيده، وحب الفضائل والمحاسن وكره الرذائل والقبائح، والميلُ الأصلي إلى السلوك المستقيم والتصرف والتحدث بصدق، وهي سنة من سنن الله التي لا تتبدل ولا تتخلف، حتى وإن كانت الصفات الفطرية عرضة للتأثيرات السلبية، التي قد تغير منها قليلا أو كثيرا، لكن ذلك دون أن تمحى أو تبدل من أصلها.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 5/56.
- الرازي: مختار الصحاح ص 241.
- ابن فارس: مقاييس اللغة 4/510.
- الشوكاني: فتح القدير 6/254.
- ابن عطية: المحرر الوجيز 3/195.
- الجرجاني: التعريفات، ص 168.
- الدكتور أحمد مختار: معجم اللغة العربية المعاصرة 3/46.
- السعدي: بهجة قلوب الأبرار، ص 59.
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 2/208.
- أبو السعود: إرشاد العقل السليم 1/187.
- ابن القيم: زاد المعاد 3/10.