أنار الله، عزو وجل، طريق الخَلْق بإرسال الرُّسل والكتب السماوية التي أنزلها عليهم، فَمِن الناس من اتّبع سبيل الهداية، ومنهم من اتخذ سبيل الغيّ منهجًا ودروب الشيطان مسلكًا، فأطلق لنفسه العنان لإشباع غريزته بعدما سقط في وحل الشهوات، ورغم ذلك يظل الخطر الأعظم يحوم حول دائرة الغرور بالعبادة والعُجب من فعل الخير، فمن سقط فيها خسر الدنيا والآخرة.
الغرور بالعبادة طريق الشيطان
خلق الله، سبحانه وتعالى، الإنسان وهو يعلم ضعفه ووساوس نفسه ومدى تربص الشيطان به ليحيد به عن المفهوم الصحيح لطاعة الله، لذا حذر الله، عز وجل، الإنسان من الغرور بالعبادة والوقوع في أهواء النفس والعجب، فقال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ}[النجم:32]. وقال تعالى: {وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر:6]. قال فيها الحسن البصري: “لا تمنن بعملك على ربك تستكثره”، فإنه مهما كُثرَ العمل ففضل الله أعظم، وحقه أكبر.
ويرى بعض العلماء أن فرح العبد بطاعته واستحضار قلبه دون عُجب أو غرور لا يدخل تحت الغرور بالعبادة والاغترار بالعمل المنهي عنه، وهو المعنى الذي ذكره أبو سليمانَ الدّاراني، فقال: (والله لولا ما أحببتُ الدنيا، ووالله إن أهلَ الليل في ليلِهم ألذُّ من أهلِ اللهو في لهوهم، وإنه لتمرُّ بالقلب ساعاتٌ يرقص فيها طربًا بذكر الله، فأقول: إنْ كان أهلُ الجنة في مِثل ما أنا فيه من النعيم، إنهم لفي نَعيم عظيم) (2).
المعنى نفسه أكده أبو ذر الغفاري، في الحديث الذي رواه عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقوله: [الرجلُ يعملُ العملَ للهِ فيُحبُّهُ الناسُ عليهِ قال ذلك عاجلُ بشرى المؤمنِ] (رواه ابن ماجة).
لكن الخوف أن تنقلب هذه الحلاوة وهذه اللذة التي تتركها الطاعة في قلب صاحبها إلى شرٍّ ووبالٍ بتحول النيات والعجب بالطاعات، وهو ما ذكره أحد العلماء بقوله: (احذروا حلاوة الطاعات؛ فإنها سموم قاتلة لأنها تقبض صاحبها في مقام الخدمة ويحرم من مقام المحبة)(3).
موقف الصحابة والتابعين من الاغترار بالعبادة
سار الصحابة والتابعون، رضوان الله عليهم أجمعين، على المنهج النبوي في العمل بما جاء في الكتاب والسنة، سالكين طريق الحق، محذرين من مغبة الغرور بالعبادة والانسياق وراء الدنيا أو العجب بالطاعة، فهذه السيدة عائشة، رضي الله عنها، حينما سئلت: متى يكون الرجل مسيئًا؟ فقالت: “إذا ظن أنه محسن”.
ويقول مطرِّف بن عبد الله: “لأن أبيت نائمًا وأُصبح نادمًا أحبُّ إليَّ من أن أبيتَ قائمًا وأُصبح معجَبًا”، وابن عطاء الله السكندري قال في حِكَمه: “معصيةٌ أورثت ذُلاً وانكسارًا خير من طاعة أورثت عِزًّا واستكبارًا”.
وفسّر الإمام الذهبي، رحمه الله، هذا الداء الخفي، بقوله: “كم من رجل نطق بالحق، وأمر بالمعروف، فيسلِّط الله عليه من يؤذيه لسوء قصده، وحبه للرئاسة الدينية، فهذا داء خفي سار في نفوس الفقهاء، كما أنه داء سار في نفوس المنفقين من الأغنياء وأرباب الوقوف والترب المزخرفة، وهو داء خفي يسري في نفوس الجند والأمراء والمجاهدين، فتراهم يلتقون العدو، ويصطدم الجمعان وفي نفوس المجاهدين مخبآت وكمائن من الاختيال وإظهار الشجاعة ليقال، والعجب فوق ذلك كله..، فأنى يُنصَرون؟ وكيف لا يُخذَلون؟ اللهم! فانصر دينك، ووفِّق عبادك” (4).
أسباب الاغترار بالطاعة
كثيرةٌ هي أسباب الغرور بالعبادة والعُجب بالطاعة، وعلى المؤمن أن يعرفها ليبتعد عنها وينجو بنفسه من مهالك الشيطان، وأبرزها:
- الجهل الذي لا يجعل الإنسان يخاف من الخالق أو يستعظم معصيته.
- عدم تدبر القرآن ومعرفة أحكامه ونواهيه وما ورد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من أحاديث وأقوال محذرة من الافتتان بالعبادة.
- قلة الورع والتقوى وضعف الإيمان في القلب، التي تجعل القلب [كالكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرً].
- سوء النية وحب الشهرة والرياء.
- الافتتان بالدنيا، واتباع الهوى، والنفس الأمارة بالسوء.
- قلة ذكر الله وقلة شكر الله على النعم التي أنعم بها على العبد (5).
مظاهر الغرور بالطاعة
إذا تملّك داء الغرور بالعبادة من العبد جعله في دوامة محاولة الظهور أمام الناس لينال عليها المدح، ومن هذه المظاهر:
- أن يزيد العبد في عبادته بما يخالف الشرع الحنيف زيادةً منه في التقرُّب لله، والله لمْ يطلب منه هذا.
- أنْ يُثابر ويتزيَّد من أفعال العبادة حينما يتزايدُ حبُّه للأفعال نفسها وتعلُّقه بها، ويبدأ شيئًا فشيئًا ينسى ربَّ العبادة الذي أمره بها.
- يُثابر ويتزيَّد على أفعال العبادة رياء الناس، وهذا من أسوء العمل؛ فالعامِل فيه اختار أشرف أفعال الإنسان، عبادة الله، ليُرائي بها الناس) (6).
كيف العلاج؟
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60-61]. فقد حذّر الشرع الحنيف العباد من الغرور بالعبادة أو العجب بها، ووضّح الطرق لتجفيف هذا الداء، منها:
- سد الذرائع، يقول الداعية السعيد صبحي العيسوي: “شدد الإسلام على سد الذرائع لتجفيفِ الأسباب المُفضية إلى الغرور، ونبّه على أنَّه على المُبتلى بهذا الداء أن يقِفَ مع نفسِه وقفةَ حسابٍ وتمحيصٍ؛ حتى لا يُخدَعَ ببريق الغرورِ” (7).
- الاستئصال والاقتلاع، بحيث يتخلى العبد عن مفردات الاغترار، مثل: العجب، والكبر، والرياء.
- الحرص على تعلم القيم ومعرفة حدود الشرع الحنيف، لتحصين القلوب.
- تزكية القلوب وتعهدها والخوف من الجليل وتذكر الموت بين الحين والآخر حتى ترق القلوب.
- العناية بقيمة التواضع واللين مع النفس والعباد وعدم التنطع أو التشديد أو التفيقه.
أثر انتشار الغرور بين أفراد المجتمع المسلم
يتأثر صاحب الغرور بالعبادة من هذا الداء، فتحل النقمة والهلكة، ويصل الأمر إلى ضعف المجتمع وتفككه وعدم ترابط أفراده، لنفاقهم وريائهم وغرورهم، ويعم القلق والاضطراب النفسي، الذي يحول دون مجابهة الأعداء المترصدين بالأمة (8).
أخيرا
إن الغرور بالطاعة داء هالك لمن يُصاب به في الدنيا، فيجر عليه الخزي والخذلان، وفي الآخرة الخسران وغضب الرحمن والطرد من رحمته.
فليحذر كل مسلم وليتذكر دائما ربه، وليضع نصب عينيه قول الله تعالى: {يسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ}[النساء: 108]. فعلامة صدق النية ألا يعجب المرء بعمله ولا يغتر به.
المصادر
- تفسير القرطبي: سورة الذاريات، https://bit.ly/3pWToEg
- تحسين علي شيرواني: ألف قصة وقصة، طـ1، دار الأكاديميون للنشر والتوزيع، الأردن، 2017، صـ147.
- أبي العباس أحمد بن محمد ابن عجيبة الحسني: إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عطاء الله السكندري، دار الكتب العلمية، 2016، صـ201.
- محمد بن أحمد ذهبي: تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، المجلدات 32-33، دار الكتاب العربي، 1990، صـ9.
- العجب.. أسبابه ومظاهره وعلاجه: 2 يوليو 2009، https://bit.ly/2U6OSad
- عبد المنعم أديب: غرور النفس بالعبادة، 21 أبريل 2021، https://bit.ly/2TFKyhT
- السعيد صبحي العيسوي: الغرورُ العِلميُّ وأثرُه في العَقلِ العِلميِّ وأبجديَّاتِ الطَّلبِ، دار الميمان، الرياض، 2018.
- من آثار الكِبْر: موسوعة الأخلاق، https://bit.ly/3zuSsex