الغربة..
مغادرةُ الأوطان والِانتقال للعيشِ في مكانٍ آخرْ
خطوةٌ صعبةٌ على النفسْ
يلجأ إليها البعضُ مختارًا
والبعضُ الآخرُ اضطرارًا
حيث تكون غريبًا عمّن حولّكْ
ويكونُ كلُّ ما حولكَ بالنسبةِ لكَ غريبًا
هي تَجرِبةٌ قاسيةْ عاشَها رسولُ الله صلواتُ الله وسلامُه عليه
بهجرتِه من موطنِه مكةَ إلى المدينةْ
ومع ذلكْ فقد كانت خطوةً أساسيةً في طريقِ مجدِ الإسلامْ
وكلُّ مغادرٍ لوطنِه يستطيعُ كذلكْ
أن ينظرَ لهجرتِه وغربتِه على أنها مِنحةٌ يبدأُ معها ربيعُ عمُرهْ
لا يجبُ أن تذهبَ نفسُ المرء على فِراقِ وطنِه حسراتْ
فأحيانًا يجدُ في الانتقالِ سعةً افتقدَها في وطنِه
حين تعذّر البعضُ وقالوا (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)
ردَّ عليهمُ الملائكةُ موبخين {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}؟!
طِبْ نفسًا وارفِقْ بحالِكْ
فكلُّ أرضٍ تحطُّ عليها رحالَكَ هي مِلكٌ للهْ
عندما استفاضَ أصيلُ الغِفاريُّ في وصفِ جمالِ مكةَ أمامَ رسولِ اللهْ
قاطعَه صلى اللهُ عليه وسلمَ قائلًا
(حَسْبُكَ يا أصيلْ.. لا تُحزِنّا)
بهذا يعلمُنا الحبيبُ ألا نطيلَ النظرَ للخلفْ
وألا يتركَ المرءُ منا نفسَه للحُزنِ والشوقْ
فالشوقُ لا زَوالَ لهْ
لكنْ حتى وإِن تركَ المرءُ وطنَهْ
فقد اصطحبَ معه رسالتَه ودورَه اللذَيْن استخلفَهُ اللهُ عليهِما
فليَقُمْ بهمَا أينمَا كان
لا يبقى متحسرًا .. بل مفكرًا كيف يكونُ نافعًا
وكيف يبقى على اتصالٍ وَوِدِّ مع أهلِهِ وأحبابِهْ
وكيف يكونُ خيرَ سفيرٍ لدينِه ووطنِهْ
برحمتِه وإنصافِه في معاملةِ الجميعْ
ومناصرتِه الضعيفَ ومعاونتِه المحتاجْ
واحترامِه قواعدَ ونظامَ البلدِ الجديدْ
نعمْ في الغربةِ انقطاعٌ جسديٌ عن الدارِ والأهلِ والأحبابْ
لكنها فرصةٌ كبيرةٌ لكي يقتربَ أفرادُ الأسرةِ الواحدةِ من بعضهِمِ البعضْ
فالأسرةُ الصغيرةُ في الغربةْ
تعوضُ النقصَ الذي خلّفهُ الِابتعادُ عن العائلةِ الكبيرةْ
حينَها تزدادُ مسئوليةُ الأبوينِ بشكلٍ كبيرْ
في جعلِ البيتِ واحةً للسكينةِ والأمانِ
إذ هو الملاذُ الأولُ بعدَ اللهِ في الغربةْ
ولو صارَ -لا قدر الله- طاردًا
لهربَ منه الأبناءُ لأحضانِ المجتمعِ في الخارجْ
ضروريٌّ كذلكَ أن تبحثَ الأسرةُ عن محاضنَ أخرى آمنةْ
كحصونٍ تلطفُ من قسوةِ الغربةْ
سواءً أكانتْ صحبةً يستطيعُ المرءُ أن يتكئَ عليها
أو مسجدًا ينهلُ منه زادًا روحيًا واجتماعيًا
فللصحبةِ في الغربةِ دورٌ كبيرْ
تعوضُ عن فقدانِ الأهلِ والأصحابْ
وتقرِّبُ الأبناءَ من ثقافةِ أوطانِهمْ ولغتِهمْ
فلا يصحُّ أن تنعزلَ الأسرةُ في بلدِ الانتقالْ
بل تنفتحُ مستعينةً باللهِ محسنةً الِاختيارْ
أما عنْ المسجدْ
فعلى الأبوينِ ارتيادُه بشكلٍ دوريٍّ مع أبنائِهمْ
حتى لو بَعُدتْ بينَهُمْ وبينَهُ المسافاتْ
ففي بيوتِ اللهِ معانْ لا يجدُها المرءُ خارجَها
وإن لم يستطعيوا فَلْيجمعْهُمْ على الأقلِّ مسجدُ بيتِهمْ
الانفتاحُ على الغيرِ في الغربةْ
لا يقصدُ به الانفتاحُ على أبناءِ الوطنِ الأمِّ وفقطْ
بل كذلكَ على باقي الثقافاتِ والأجناسْ
فهذا يفتحُ المداركَ ويوسعُ الآفاقَ ويُسّهِّلُ الِاندماجْ
لكنَّهُ يحتاجُ حَذَرًا
فلا يتركُ المرءُ بانفتاحِهِ جُعبَةَ مبادِئِهْ
بل أينما صارَ صارتْ معَهْ
من الصعبِ أن يظلَّ المرءُ في الغربةِ متمسكًا بمبادئِهْ
وهو بعيدٌ عن كلِّ زادٍ إيمانيٍّ ومعرفيْ
فلا يدعَنَّ الحياةَ الماديةَ تُهلِكُ قلبَهْ
ولا يُبعِدَنَّهُ عن ربِّهِ السعيُ على الرزقِ وتأسيسُ حياةٍ جديدةْ
فلا يجبُ أنْ يرضى بالقليلِ من الدِّينِ ويسعدَ بالدُّنيا
(فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)
(وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
فلابد أن يكونَ زادُ المرءِ في أسفارِه التقوى
شعارُه (اتقِ اللهِ حيثُما كنتَ)
ورِضا اللهِ والآخرةِ نُصبَ عينيْهِ
يسألُ اللهَ الثباتَ في الأمرْ
ويتقربُ ويتواصلُ مع الصالحينْ
ويلزمُ أورادَهُ ويُحاسبُ على الدوامِ نفسَهْ
تَمسُّكُ المرءِ بدينِهِ في الغربةْ
يحتاجُ إلى من يعتزُّ بدينِهِ أينما ذهبَ ومهما قابلْ
فلا تسحَقُهُ حضاراتُ وثقافاتُ الغيرْ
ولا ينجَرُّ للتقليدِ الأعمى
يوّرثُ هذه العزةَ لأبنائِهْ
ويربيهِمْ على القوةِ في الحقْ
لا يخشَوْنَ فيه لومةَ لائِمْ
يتحرى الحلالَ في المأكلِ والمشربِ وكُلِّ ما شابَهُ شُبهةْ
ويسقِي هذا التحرِّي لأبنائِهْ
بتعريفِهِمْ ودوامِ سؤالِهمْ وتذكيرِهمْ
يعي جيدًا التحدياتِ التي تُواجِهُهُ وأبناؤُهْ
فيُحسِنُ لها الاستعدادَ ويُهَيِّئُ أبنائَهَ لمواجهتِها
دونَ إفراطٍ بدوامِ الرفضِ وتخويفِ الأبناءْ من الوطنِ البديلْ
حتى يتمكنوا من تقبلِ واقعِهمْ والعيشِ بصورةٍ سويةْ
إذا اغتربَ المرءُ في بلادٍ لغتُها ليستِ العربيةْ
فعليه أن يكونَ حذِرًا من فقدانِه وفقدانِ أولادِه لها
فإن كانَ تعلمَ لغةَ هذه البلادِ ضرورةٌ لا مفرَّ منها
فإن الحفاظَ على اللغةِ الأمِّ مقصدُ النابهينْ
الذينَ يبثونَ الفخرَ في أبنائِهمْ بلغتِهمْ العربيةْ
ولا يسمحونَ في البيتِ بالتحدثِ إلا بها
يُلحقونَ أبناءَهمْ بدروسٍ لتعلمِها
و يوفرونَ لهم كُتبًا وقَصصًا للقراءةِ بها
يَعقدون للعربيةِ مسابقاتٍ وجوائزَ تحفيزيةْ
كلُّ هذا لازمٌ كي يظلَّ أبناؤُنا على اتصالٍ قويٍّ بدينِهمْ
ومصدَرَيْ تشريعِهمْ.. القرآنِ والسنةْ
فيَسْهُلُ عليهِمْ فَهمُ تعاليمِهِ ومقاصدِهْ
ليسَ السعيُ فقطْ للحفاظِ على اللغةِ العربيةِ ومِنْ ثَمَّ الدينْ
بل كذلكَ الحفاظُ على المحمودِ من عاداتِ وتقاليدِ الوطنْ
فإن كان لبلادِ الغُربةِ تقاليدٌ وأعيادُ مغايرةْ
لا تتفقُ مع مبادئِ دينِنَا
يصيرُ لِزامًا التركيزُ على عاداتِ ومناسباتِ المسلمينْ
وإضفاءُ روحِ البهجةِ التي تربطُ الأبناءَ بها
حتى لا ينجذبوا إلى ما نرفُضُه من العاداتِ والمعتقداتْ
لا تغفلِ العنايةَ بروحِكَ ونفسِكَ في الغربةْ
واحرِصْ على سلامتِكَ وسلامةِ أسرتِكَ النفسيةْ
تحلَّ بالوعيِ اللازمِ لذلِكَ
وحرِّرْ نفسَكَ مما انتابَها من الأفكارِ والعِلَلْ
واسمعِ لأبياتِ الشافعيِّ حينَ قال:
تغربْ عن الأوطانِ في طلبِ العُلَا
وسَافِرْ ففي الأسفارِ خمسُ فوائدِ
تَفَرّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ
وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ