يمتاز الإسلام بنزعته الإنسانية الواضحة الأصيلة في معتقداته، وعباداته، وتشريعاته، وتوجيهاته. إنه دين الإنسان، الذي جعل له مكانة عليا فيه، مع تقرير غايته الربانية، وإبرازها وتثبيتها، إذ لا تنافي بين الغاية الربانية، والغاية الإنسانية، بل هما متكاملتان، فقال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70).
تقول الدكتورة فاطمة عبدالله الدربي: إن العمل الإنساني هو من المقاصد الكبرى التي خلق من أجلها الإنسان وخلق ليعمر الأرض لا ليهدمها، وهذا أمر يدركه البعض ويغيب عن الكثيرين، لذلك أولاه الإسلام أهمية كبرى؛ فجعل أي عمل يتقرب فيه الإنسان إلى الله نوعاً من العبادة، وأي عمل يتقرب فيه الإنسان إلى الله وفيه خدمة ومنفعة للإنسانية هو من أعلى وأرقى العبادات، فلذلك نجد نصوصاً كثيرة في السنة النبوية تكافئ على قليل من العمل، لكن مقابل هذا العمل محتوى إنساني كبير، فرجل يدخل الجنة لأنه أزال سعفة على الطريق، وآخر يسقي كلباً فيدخل الجنة.
مفهوم العمل الإنساني وأهميته
العمل الإنساني هو الجهد التطوعي الفني، والمادي، والمعنوي، والعلمي، والاقتصادي الذي يقدمه الفرد إلى بني جلدته من البشر الذين يعملون للنهوض بالقضية الإنسانية، وكذلك للأفراد الذين قضوا نحبهم أثناء أداء مهامهم. ويعتبر هذا العمل ضارباً في القدم، فهو جزء من عادات وتقاليد وأخلاقيات المجتمعات في العالم، إلى جانب التأكيد عليه من قبل الأديان السماوية من خلال الدعوة للرحمة والعطاء والمبادئ وخدمة الإنسان لأخيه الإنسان، حيث حث النبي الكريم على هذه الأعمال وشجع أمته عليها؛ فعن ابن عمر مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد يقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم]( رواه الطبراني).
حتى أنه صلى الله عليه وسلم كان مثلا وقدوة ونموذج الأعلى في الحرص على الخير والبر والإحسان، وفي سعيه لقضاء حوائج الناس وبخاصة للضعفاء والأيتام، والأرامل، ففي ما روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود: عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه أن امرأة كان في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: [يا أم فلان، أنظري أي السكك شئتِ، حتى أقضي لك حاجتك]، فخلا معها في بعض الطرق، حتى فرغت من حاجتها.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه].
وهو ما شمر عن ساعده كل مسلم لنيل شفاعة الرسول الكريم، يقول أحمد فتحي النجار: العمل التطوعي نتاج قديم لنداءات سماوية دينية، وضمائر بشرية حية وسليمة، بما توقعه على أنفسها من مسؤولية وعبء تلتزم بتقديمه لتُحدث ما لا يمكن إحداثه لصالح المجتمع والكافة دون الحاجة لند أو نظير أو مقابل مادي، خاصة في أوقات الذروة والحاجات الإنسانية المتراكمة.
والعمل الإنساني لا يقتصر على الحكومات فحسب؛ بل يشارك فيه الأفراد والمجتمع المدني وكثير من الهيئات خاصة وقت النوازل الطبيعية والمجاعات.
بل إن الحركات الإسلامية شاركت وأخذت على عاتقها جانب كبير من العمل الإنساني، فعندما ظهر مرض الملاريا بقنا وأسوان بجمهورية مصر العربية في فبراير من عام 1944م؛ انتفضت جماعة الإخوان المسلمين لهذه الكارثة الصحية، ودعا الأستاذ صالح عشماوي – رئيس تحرير مجلة الإخوان ووكيل الجماعة – كافة الإخوان بسرعة التبرع بما لديهم من مال عن طريق جريدة “الأهرام” التي كانت تتلقى التبرعات، وأن يدفعوا كل ذي مروءة وشهامة أن يجود بما لديه من مال أو كسوة أو غذاء، كما طالب بالإلحاح في الدعاء إلى الله لرفع البلاء عن إخوانهم في قنا وأسوان.
وطالب إخوان شعبتي قنا وأسوان بضرورة الاعتناء بالمصابين ومواساة المفجوعين، وأن يجعلوا من دور الإخوان معسكرات لتجنيد المتطوعين لتوزيع الدواء في كل مكان، وأن يسعوا إلى الناس في أماكنهم شارحين طرق الوقاية من هذا المرض وأساليب العلاج.
بل عندما ظهر وباء الكوليرا واستشرى خطره في البلاد عام 1947م قرر مكتب الإرشاد إرسال خطاب لوزير الصحة يعلمونه استعداد أربعين ألف من جوالة الإخوان المسلمين للتطوع في فرق مكافحة الكوليرا، وأيضا استعداد مستوصفات الإخوان للقيام بعملية التطعيم ضد الكوليرا وتجهيز عشرة سيارات للمرور في الأحياء الموبوءة لعملية التطعيم ومساعدة وزارة الصحة، مما دفع وزير الصحة للرد بخطاب شكر على ما قامت به جوالة الإخوان في معاونة الأطقم الطبية في التصدي للوباء.
أثر العمل الإنساني على الفرد والمجتمع
يعيش الإنسان في ظل مجتمع كبير يتكون من العديد من الأفراد الذين تجمع بينهم علاقات متنوعة، حيث لا يستطيع الإنسان العيش بمعزل عن الناس، وقد أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان أن يعين غيره ممن يتعرضون لمشكلات وأزمات في حياتهم فيما يُعرف بالتكافل والعمل التطوعي الإنساني.
وتتعدد أوجه العمل الإنساني ما بين تقديم الكسوة للمحتاجين سواء كانت جديدةً أم مستعملة بحالةٍ جيدةٍ جداً، ومساعدة الآخرين سواء كانوا أقرباء أم جيران بالمال عند تعرضهم لمشكلات مادية كبيرة، وقضاء الديون عن الناس المحتاجين دون علمهم؛ ومساعدة الطلاب الضعفاء على تعلم المواد الدراسية وتحسين أدائهم المدرسي من قبل المختصين والأساتذة، و مساعدة كبار السن على قطع الشارع من خلال الإمساك بأيديهم أو دعوة السيارات للوقوف لتسهيل مرورهم؛ فمن فرج كربة أخيه فرج الله كربه كلها يوم القيامة.
ومشاركة أفراد المجتمع في المحافظة على المصالح العامة والخاصة، ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية، بحيث يشعر كل فرد فيه أنه إلى جانب الحقوق التي له، عليه واجبات للآخرين، وخاصة الذين ليس باستطاعتهم أن يحققوا حاجاتهم الخاصة، وذلك بإيصال المنافع إليهم ودفع الأضرار عنهم.
والعمل الإنساني لا يقف عند تحقيق مصالح الجيل الحاضر، بل يتعدى ذلك إلى نظرة شاملة تضع في الاعتبار مصالح أجيال المستقبل، وهو ما من شأنه أن يسهم في حل كثير من الأزمات المعاصرة، ويحاصر كثيراً من الأخطار التي تواجه مستقبل الأفراد والجماعات.
أثره على الفرد
للعمل الإنساني أثر حميد على أخلاقيات وسلوكيات وتربية الأفراد الذين يشاركون فيه، ويقومون عليه، ومن هذه الآثار التي تلمس التربويون كثيرًا منها:
- يساعد العمل التطوعي في منح الفرد الشعور برضا الله عز وجل.
- يخفف العمل التطوعي لدى المتطوع نفسه من النظرة العدائية أو التشاؤمية تجاه الآخرين.
- يمد الفرد بإحساس وشعور قوي بالأمل والتفاؤل.
- يحد من النزوع إلى الفردية وينمي الحس الاجتماعي لدى الفرد المتطوع.
- ينقلُ الفردَ من حالة الخمول إلى الإنتاج.
- تعليم الفرد تحمل المسؤولية والقدرة على اتخاذ القرارات والاعتماد على النفس.
- يجعل الفرد يقوم بالاستفادة من هذه الطاقات بأفضل وسيلة.
- التعرف على شخصيات جديدة وثقافات مختلفة.
- يساعد على جعل شخصية الفرد اجتماعية أكثر.
- منح الشخص الشعور بالراحة النفسية.
- تعزيز الشعور بالانتماء الوطني للشخص.
- العمل التطوعي من أكثر الأمور التي تجعل الشخص يتحمل المسؤولية، ويكون قادرا على التحكم في تصرفاته، فهو يعلمه روح التعاون وقبول الاختلاف عن الآخرين.
- أثبتت الكثير من الدراسات أن العمل التطوعي يجعل الشخص قادراً على استغلال وقت فراغه في أمور نافعة لنفسه في المقام الأول ومن ثم وطنه ومحيطه ومجتمعه، بدلاً من هدر الوقت في أمور ليس لها أهمية.
- يفيد العمل التطوعي في نبذ الأنانية، وتعزيز الشعور بالآخر، وتفضيل الغير على النفس، وحب الخير والتفاني في إسعاد الآخرين.
هذا غير الصفات التي يكتسبها الفرد من استشعار قيمة العمل التطوعي، مثل: الصدق والأمانة والجدية في العمل، وعدم التهاون، والالتزام الدائم بما عليه من واجبات والتواضع، وعدم التكبر، والترفع عن الأذى، والانضباط.
أثر العمل الإنساني على المجتمع
بلا شك من أنّ هناك أيضًا أثر كبير ونافع على المجتمع من خلال العمل التطوعي من حيث تنمية الاقتصاد، والشمول الاجتماعي وغيرها، مثل:
- يساهم في جعل المجتمع أكثر اطمئناناً وأكثر ثقة بأبنائه.
- تحقيق ما يسمى بالتكافل الاجتماعي في مختلف المجالات.
- من خلال التطوع، يتحقق الاستغلال الجيد للطاقات الفردية والثروة البشرية.
- يسدُّ الثغرات والعجز في احتياجات المُجتمع في بعض المهارات.
- قوة المجتمع واستحالة تفككه وانهياره، حيث يحس الإنسان بأخيه الإنسان.
- انعدام العوز والحاجة والفقر، فالغني يعطي الفقير وتقضى الحوائج دون الشعور بالذل والإهانة.
- تبادل الخبرات، حيث يعتبر التعاون فعلاً جماعياً يشمل العديد من الأشخاص.
- توطيد المحبة والمشاعر الجميلة في النفوس.
- نيل رضا الله سبحانه وتعالى وبالتالي الشعور بالراحة النفسية والسعادة والطمأنينة.
- تخفيف الأعباء ورفع الظلم عن الناس المستضعفين والمظلومين.
- يساهم في تكاتف المجتمع وزيادة أواصر المحبة والمودة من خلال تقديم المساعدات للآخرين.
- الحفاظ على القيم والعادات، حيث إن التعامل مع المجموعة، والتعاون على الخير، يساعد على أن يكتسب الشخص قيمه وعاداته، وإن كان نسي بعضها فجماعة الخير التي يعمل معها تذكره.
- العمل التطوعي يساعد على إعداد رؤساء ونواب ووزراء، يعرفوا قيمة المجتمع ويستطيعون تطويره والحفاظ عليه.
وأخيرا
يعد العمل التطوعي هو النبتة الخصبة للمجتمع، حيث إن الإنسان لا يستطيع بمفردة في الكون، ولا يستطيع أن يقضي كافة احتياجاته بنفسه، كما أن فترته الطيبة تجعل بداخله رغبة كبيرة في مساعدة الغير، وتغير مجتمعه إلى الأفضل، والحصول على مدح الآخرين، ورؤية الأرض في رخاء وسعادة. ولذا فالعمل التطوعي في أبسط تعريفاته هو: تقديم يد العون إلى الآخرين لينشر السلام والمحبة في المجتمع، وهو شعور إنساني ووجداني ينبع من داخل الفرد، ثم يتطور إلى سلوك حيوي.