يُرّبي الإسلام في نفوس أتباعه حب العطاء والبذل وينهاهم عنهم حب التملك، وذلك للقضاء على الفقر وتجنيب المجتمعات ويلات الحاجة والعوز، وهو يُعبّر عن إيمان المسلم وصدق مشاعره تجاه الآخرين، ويُقوّي الروابط الاجتماعية ويُنشر المحبّة والتكافل بين المسلمين، ويُساهم في مساعدة المحتاجين والفقراء، ويُطهّر النفس من حبّ المال والبخل.
وللعطاء صور كثيرة، فالكلمة الطيبة صدقة وعطاء أيضا، يحتاج المسكين والفقير إليها كما يحتاج إلى المال، وزرع الأمل في نفوس اليائسين عطاء، والبسمة على شفاه محروم عطاء، والمساهمة فى علاج مريض ليصل للشفاء عطاء، وقضاء جزءًا من الوقت والجهد في قضاء حاجات الناس أيضا عطاء، والقيام بتعليم الناس أمور دينهم ودنياهم عطاء، والعطف والحنان على الضعفاء عطاء، وتقديم النصيحة بحكمة لمن يحتاجها في وقتها عطاء، وإطعام الجائع عطاء، وكساء العاري ودفئه عطاء… إلخ.
مفهوم العطاء في الإسلام
وعرف أهل اللغة مفهوم العطاء بأنه من أصل مادة (عطو) التي تدل على أخذ ومناولة، فالعطو: التناول باليد، ومنه اشتق الإعطاء، والمعاطاة: المناولة. والعطاء والعطية: اسم لما يعطى، والجمع عطايا وأعطية، وأعطيات جمع الجمع، والاسم العطاء.
وقال الراغب في المفردات: “والإعطاء: الإنالة، قال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29]. واختص العطية والعطاء بالصلة، قال تعالى: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص: 39].
وعن المعنى الاصطلاحي، قال ابن العربي: “حقيقة العطاء: هي المناولة، وهي في اللغة والاستعمال عبارة عن كل نفع أو ضر یصل من الغیر إلى الغیر”. وقال المناوي: “العطاء: التناول، والمعاطاة: المناولة، لكن استعملها الفقهاء في مناولة خاصة”.
ثمرات العطاء
وتتلخص ثمرات العطاء على الفرد والمجتمع، في النقاط التالية:
- تطهير النفس وتزكيتها من الأنانية: قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) [الشمس: 7 -10]. أي: أفلح من طهر نفسه من أدناس الرذائل الخلقية والسلوكية، وخاب من غمسها في هذه الأدناس، ومن هذه الرذائل المدنسة للنفس الإنسانية الشح والأنانية المفرطة المقيتة، ولذلك سميت الزكاة بهذا الاسم، فهي مطهرة للنفوس من دنس الشح والبخل والأنانية المفرطة، وهي أيضًا مطهرة للمال من الحقوق المتعلقة به للفقراء والمساكين.
- يعود الفرد على الإيثار: ويتضح ذلك من خلال قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: ٩]. إن تربية النفوس على حب العطاء إقامة سد واق يمنع الأنفس عن الجنوح الخطير في مجال حب التملك والأثرة، فإنه متى جنحت النفس هذا الجنوح الخطير كان حب التملك غاية بنفسه، وليس مجرد وسيلة لتحقيق منافع الحياة ومصالحها، وعندئذ يستأثر بالإنسان داء الجمع والمنع، حتى يعيش حياته كلها جَمَّاعًا للمال، دون أن ينتفع بما يجمع منه، ثم تأخذ يد المنون فتعزله عن وظيفة حارس صندوق أو خازن مال، ليلقى حسابه العسير على ما جمع ومنع، فلا هو انتفع ولا هو نفع.
- التعاون على البر والتقوى: قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [ المائدة: 2]. قال القرطبي: “ندب الله تعالى إلى التعاون بالبر، وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته”، فالعطاء هو أحد أنواع البر بين الناس.
- التعود على نيل درجة البر ورضا الرحمن عز وجل: قال تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]. فالعطاء بشتى أنواعه- لا سيما العطاء مما يحب الإنسان- يوصله إلى رضا الرحمن تبارك وتعالى، والمعنى: لن تنالوا حقيقة البر، ولن تبلغوا ثوابه الجزيل الذي يوصلكم إلى رضا الله، وإلى جنته التي أعدها لعباده الصالحين، إلا إذا بذلتم مما تحبونه وتؤثرونه من الأموال وغيرها في سبيل الله.
نماذج تربوية
لقد مَثَّل النَّبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- المَثَلَ الأعلى والقُدوةَ الحَسَنةَ في العطاء والجود والكرمِ؛ إذ كان يُعطي عطاءَ مَن لا يحسُبُ حِسابًا للفَقرِ ولا يَخشاه؛ ثقةً بعظيمِ فَضلِ اللهِ، وإيمانًا بأنَّه هو الرَّزَّاقُ ذو الفَضلِ العظيمِ، وهو القائِلُ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: “لو كان لي مِثلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ما يَسُرُّني أن لا يمُرَّ عَلَيَّ ثلاثٌ، وعندي منه شيءٌ إلَّا شيءٌ أرصُدُه لدَينٍ” (البخاري).
وعن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ أنَّه بينا هو مع رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- ومعه النَّاسُ، مُقبِلًا من حُنَينٍ، عَلِقَت رسولَ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الأعرابُ يسألونه حتى اضطرُّوه إلى سَمُرةٍ ، فخطَفَت رداءَه! فوقف رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فقال: “أعطوني ردائي، فلو كان عدَدُ هذه العِضاهِ نَعَمًا، لقَسَمْتُه بينكم، ثمَّ لا تَجدوني بَخيلًا ولا كَذوبًا ولا جَبانًا” (البخاري).
وعن ابنِ عبَّاسٍ- رَضِيَ اللهُ عنهما- قال: “كان رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أجودَ النَّاسِ، وكان أجوَدَ ما يكونُ في رمَضانَ حينَ يلقاه جِبريلُ، وكان يلقاه في كُلِّ ليلةٍ من رمَضانَ فيُدارِسُه القُرآنَ، فلَرَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجوَدُ بالخيرِ من الرِّيحِ المُرسَلةِ” (البخاري).
وعن موسى بنِ أنَسٍ عن أبيه، قال: “ما سُئِل رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- على الإسلامِ شيئًا إلَّا أعطاه، قال: فجاءه رجلٌ فأعطاه غَنَمًا بَينَ جبلَينِ، فرجع إلى قومِه، فقال: يا قومِ أسلِموا؛ فإنَّ محمَّدًا يعطي عطاءً لا يخشى الفاقةَ” (مسلم).
وغزا رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- غزوةَ الفتحِ، فَتحِ مكَّةَ، ثمَّ خرج رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بمن معه من المُسلِمين، فاقتَتَلوا بحُنَينٍ، فنصر اللهُ دينَه والمسلمين، وأعطى رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يومَئذٍ صَفوانَ بنَ أُمَيَّةَ مائةً من النَّعَمِ ، ثمَّ مائةً، ثمَّ مائةً، قال ابنُ شِهابٍ: حدَّثَني سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ أنَّ صفوانَ قال: “واللهِ لقد أعطاني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما أعطاني، وإنَّه لأبغَضُ النَّاسِ إليَّ، فما بَرِح يعطيني حتَّى إنَّه لأحَبُّ النَّاسِ إليَّ!” (مسلم).
وأهدَت امرأةٌ إلى النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ شَملةً منسوجةً، فقالت: “يا رسولَ اللهِ، أكسوك هذه، فأخذها النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ محتاجًا إليها، فلَبِسَها، فرآها عليه رجلٌ من الصَّحابةِ، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما أحسَنَ هذه! فاكسُنيها، فقال: نعَمْ، فلمَّا قام النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لامه أصحابُه، فقالوا: ما أحسَنْتَ حينَ رأيتَ النَّبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- أخذها محتاجًا إليها، ثمَّ سألْتَه إيَّاها، وقد عرَفْتَ أنَّه لا يُسأَلُ شيئًا فيمنَعُه، فقال: رجوتُ بركتَها حينَ لَبِسَها النَّبيُّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لعَلِّي أكَفَّنُ فيها” (البخاري).
وتَعَلّم الصحابة- رضوان الله عليهم- قيمة العطاء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معلّمهم الأول، فكانوا يبذلون الخير احتسابا ويقيناً بأنّ ما عند الله خير وأبقى، وكانت أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- ملجأً للمساكين والمحتاجين، ومن ذلك أنّ أحد المساكين طرق بابها يوما يسألها طعاما، ولم يكن في بيتها غير رغيفٍ واحدٍ وهي صائمة، فطلبت من خادمتها أن تعطيه الرغيف.
وحينها تعجّبت خادمتها، وطلبت من السيدة عائشة أن تُبقي شيئاً من هذا الرغيف لتُفْطِرَ عليه، فأصرّت السيدة عائشة عليها أن تعطيه للفقير، فما أن حلّ المساء إلا وقد أكرمها الله -تعالى- بشاة أهداها لها أحدهم، فنادت خادمتها وأطعمتها منها وعلّمتها أن هذا هو جزاء العطاء.
وقد صل الحرص على العطاء عند المسلمين أن يبلغ حتى الحيوانات، فقد رأى عبد الله بن جعفر في أحد الأيام غلاما يعمل في بستان من النخيل، وجلس الغلام ليتناول طعامه، فدخل كلبٌ إلى البستان ودنا مِن الغلام، فرمى إليه الغلام بقرصٍ فأكله، ثمَّ رمى إليه الثَّاني والثَّالث فأكله. وحينها سأله ابن جعفر عن قُوْتِه اليوم، فأخبره أنه أعطاه كله للكلب؛ لأن هذه الأرض ليست بأرض كلاب، فلا بد أن هذا الكلب جاء مِن مسافةٍ بعيدة جائعًا، فَكَرِهَ أن يَشْبع والكلب جائع، فاشترى ابن جعفر البستان والغلام، فأعتق الغلام ووهبه من البستان.
وروى الحاكم، عن أم بكر بنت المِسوَر: أن عبد الرحمن بن عوف باع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسمها في بني زُهرة وفقراء المسلمين وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى عائشة بمال من ذلك فقالت: مَن بعث هذا المال؟ قلتُ عبد الرحمن بن عوف. فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا يحنو عليكنَّ بعدي إلا الصابرون”. سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة. وفي رواية أبي نعيم: “لن يحنو عليكم بعدي إلا الصالحون”.
وذكر الذهبي في (أعلام النبلاء) من طريق ابن لَهِيعَة: أن عبدالرحمن بن عوف أوصى بخمسين ألف دينار في سبيل الله، فكان الرجل يُعطى منها: ألف دينار، وعن الزُّهْرِي: أن عبد الرحمن بن عوف أوصى للبدريين (الصحابة المشاركين في بدر) فوجدوا مائة، فأُعطي كلُّ واحد منهم: أربع مائة دينار، فكان منهم: عثمان (وهو خليفة)، فأخذها.
فالعطاء من أعظم العبادات التي يقدم عليها المرء، لأنه يساعد في تطهير النفس ويذكيها ويجعل الناس كلهم في خير وسعادة، والله- سبحانه وتعالى- يحب الذين ينفقوا في سبيله محبة له ولخلقه، فيحب الله أن يفعل عباده كل طيب لأن البخل من أسوأ الصفات التي لا يقبلها الله عز وجل.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 4/354.
- ابن منظور: لسان العرب 15/69.
- الراغب الأصفهاني: المفردات، ص 572.
- ابن العربي: أحكام القرآن 4/405.
- المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف ص 243.
- عبد العظيم المنذري: الترغيب والترهيب، ص 8.
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، ص 258.
- عبد الرحمن الميداني: الأخلاق الإسلامية وأسسها 2/377.
- سيد قطب: ظلال القرآن 1/74.
- ابن عاشور: التحرير والتنوير 3/305.