عالمٌ تربويٌّ فذٌّ حثّ الناس على الجهاد وردِّ العدوان عن العالم الإسلامي وتحرير مقدساته، إنه العز بن عبد السلام – رحمه الله – الذي يُعد من رموز العلماء الذين لهم دور بارز في التاريخ الإسلامي، ولقد اهتم الباحثون بدوره السياسي في مناصحة ومقارعة الحكام والسلاطين، وبرؤيته لمبادئ التربية الإسلامية، المستقاة من كتاب الله، وسنة نبيه – صلى الله عليه وسلم.
وتتميز الرؤية التربوية لهذا العالم الجليل، بمراعاة الفطرة الإنسانية، والاعتداد بالوازع الفطري وأنه أصيل في الإنسان، وله بواعثه الذّاتية، ودوافعه الخفية التي تحرك صاحبها تلقائيًّا في معظم الحالات، لذلك يخفف الشرع من توجيهه فيها، معتبرًا أن الوازع الفطري المطبوع عليه الإنسان داخليًّا أقوى من الوازع الشرعي.
نشأة العز بن عبد السلام
هو أبو محمد عزّ الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن السُّلَمي الشافعي (577هـ- 660هـ) الملقب بسلطان العلماء وبائع الملوك وشيخ الإسلام، هو عالم وقاضٍ، برع في الفقه والأصول والتفسير واللغة، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقال عنه الحافظ الذهبي: “بلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصلابة في الدين، وقَصَدَه الطلبة من الآفاق، وتخرّج به أئمة”.
وَوُلد العز بن عبد السلام في دمشق ونشأ بها، ودرس علوم الشريعة والعربية، وتولّى الخطابة بالجامع الأموي والتدريسَ في زاوية الغزالي فيه، واشتُهر بعلمه حتى قصده الطلبة من البلاد، كما اشتُهر بمناصحة الحكام ومعارضتهم إذا ارتكبوا ما يُخالف الشريعة الإسلامية، وقد قاده ذلك إلى الحبس، ثم إلى الهجرة إلى مصر، فعُيّن قاضيًا للقضاة فيها، ودرَّس وأفتَى، وعُيّن للخطابة في جامع عمرو بن العاص، وحرّض الناس على ملاقاة التتار وقتال الصليبيين، وشارك في الجهاد بنفسه، وعَمّر حتى مات في القاهرة ودُفن بها.
التربية عن العز بن عبد السلام
يرى سلطان العلماء أن أصول التربية لمرحلة الحضانة يكون باللطف والرفق والحُنوّ، ودفع المضار، وتحسين الحسن للصغير، وتقبيح القبيح، وتعليم الآداب، وتلقين الكتاب وتعليم الخط والعلم إن كان متأهلاً لذلك، أو صناعة تليق بأمثاله، والأمر بالصوم والصلاة، والنهي عن كل خُلُقٍ ذميم وعمل غير مستقيم واجتناب الضرب إن تأدب بالقول والتهديد، والضرب الذي لا يصلح إلا به، إلا أنه لا يصلحُ بالضرب الشديد فيجتنّب الخفيف والشديد.
وتأديب الأهل للأبناء إنعام عليهم، وإحسان إليهم، وفضيلة الدعاء إلى الآداب مأخوذة من فضل ذلك الأدب، فأفضل التأديبات التأديب بأفضل القربات، وأشرف الطاعات وكذلك الأفضل، فالأفضل، والأمثل فالأمثل.
وإذا تعلم الصبي ما ينبغي أن يتعلمه من غير زجر فلا يُزجر، وإن لم يتعلم إلا بالزجر زُجر، فإن لم ينجح فيه الزجر ضُرب ضربًا يحتمله مثله وتغلب فيه السلامة وإن لم ينزجر إلا بالضرب المبرح؛ حَرُم المبرح؛ لأدائه إلى قتله، ولم يجز غير المبرح لأنه إنما جاز لكونه وسيلة إلى الإصلاح، فإن لم يحصل الإصلاح حرُم، لأنه إضرار غير مفيد.
ويقول في المزج بين قواعد الأصول ومبادئ التربية: إذا كان الصبي لا يُصلحه إلا الضرب المبرح، فهل يجوز ضربه تحصيلاً لمصلحة تأديب؟ قلنا: لا يجوز ذلك، بل لا يجوز أن يضربه ضربًا غير مبرح، لأن الضرب الذي لا يبرح مفسدة وإنما جاز لكونه وسيلة مصلحة التأديب، فإن لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد لأن الوسائل تسقط بسقوط المفاسد.
ومن هذه الأصول التربوية دعوة العز إلى مداعبة الصبيان، فقد قال: مداعبة الصبيان بَسْط لهم، وتطبيب لقلوبهم وترويح عن نفوسهم، ومن الأصول – أيضًا – الدعوة إلى الإحسان إلى البنات، وإبطال عادات الجاهلية الجائرة. ولمّا كان الحمقى ينفرون من البنات، ويكرهونهنَّ، عظّم الله ثواب من خرج من عادة الناس في ذلك بالصبر عليهن والإحسان إليهن.
ثم يرشد العز إلى أن من الإحسان إلى البنات المبادرة بهن إلى الأكفاء، فيقول: المبادرة إلى إنكاح الأكفاء، والرغبة فيهم، مُسارعة إلى إحصان المرأة، ودفع العار عنها، بالتزويج بالكفؤ، مع أن البعل الصالح يدعوها إلى كل خير، ويزعها عن كل شر. وقام ببيان وظيفة المرأة وأثرها في التربية، فقال: شفقة المرأة على مال زوجها أداء للأمانة، وحُنوها على طفلها حامل على اللطف به، والإحسان إليه بحسن التغذية والتربية.
وَوَضَعَ الشيخ نصب عينيه شيئًا واحدًا، جنَّد فقهه لتربيته وتهذيبه، وهو إنسانية الإنسان، فأحاطها بالرعاية والرفق والتستر، وأخيرا.. بالجمال، ونذكر – أيضًا – بكتابه “أحوال الناس”، فهو في التربية الإسلامية للروح والنفس ومراقبة الله تعالى، والخوف منه، والاستعداد لملاقاته، ومحاسبة النفس في أعمالها وخطواتِها محاسبة ذاتية، ورقابة داخلية “بل الإنسان على نفسه بصيرة” [القيامة: 14]، ليزِن أعماله قبل أن توزن عليه، ويقدر نتائجه سلفًا، ليحتَاط عند التقصير، ويرتدِع عند الندم، ويزداد في العمل الطيب.
ويقول العز فيه: ما من برّ ولا فاجر، ومؤمن وكافر، إلا ينظر في البرزخ إلى منزله بكرة وعشية إن كان من أهل النار فمن أهل النار، وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة. ويقول: من الغمومِ والآلامِ وأسبابِها وأفراحها أفضل الأفراح، ولذاتها أفضل اللذات وأفضل لذة رضا الرب والنظر إليه، وسماع كلامه والأنس بقربه وجواره.
مناصحة الحكام
حينما مرض الملك الأشرف مرض الموت في دمشق، طلب من العز بن عبد السلام أن يعودَه ويدعو له وينصحه، فذهب إليه العز وقال: “أما دعائي للسلطان، فإني أدعو له في كثير من الأحيان، لما في صلاحه من صلاح المسلمين والإسلام، وأما وصيتي ونصيحتي للسلطان فقد وجبت وتعينت لقبوله وتقاضيه”.
وكان الملك الأشرف قبل مرضه قد اختلف مع أخيه السلطان الكامل في مصر، في الوقت الذي ظهر فيه التتار، فقال العز للسلطان: “أخوك الكبير ورحمك، وأنت مشهور بالفتوحات، والنصر على الأعداء، والتتر قد خاضوا بلاد المسلمين…”، وأَمَرَه بالتعاون مع أخيه في مصر ضد التتار، حيث قال له: “ولا تقطع رحمك في هذه الحالة، وتنوي مع الله نصرَ دينه وإعزاز كلمته، فإن منَّ الله بعافية السلطان رجونا من الله إدالته على الكفار، وكانت في ميزانه هذه الحسنة العظيمة، فإن قضى الله تعالى بانتقاله إليه كان السلطان في خفارة نيته”، فقال له الملك الأشرف: “جزاك الله خيرا عن إرشادك ونصيحتك”.
سلطان العلماء والقدس
على مدار التاريخ الإسلامي ارتبط رجال وعلماء بالمسجد الأقصى ووهبوا حياتهم وعِلْمَهم وعَمَلهم للحفاظ عليه ودعمه ومن أولئك العلماء الذين جاهدوا وعملوا من أجل الأقصى هو الشيخ والمجاهِد والعالم والفقيه والمفسر والمحدث العز بن عبد السلام الدمشقي.
ويذكر الدكتور علي الصلابي فى كتابه “عزّ الدين بن عبدالسلام سلطان العلماء”، أن العز نزح إلى بيت المقدس، ومنها إلى نابلس بناء على طلب من الملك الناصر داود حاكم الكرك ونابلس بعد أن استدعاه لتحريض الناس على مقاومة الصليبيين والصمود أمام المذابح التي أوقعها هجوم الداوية على نابلس في ذي الحجة 637 هـ، ويصف له فداحة الهجوم وما أحدثه من خسائر.
وبعد نزوله عند الناصر، وصل الصليبيون وحلفاؤهم من العساكر الإسلامية بقيادة الصالح إسماعيل حاكم دمشق، وعسكروا في القدس ليستأنفُوا بعدها الهجوم على مصر، وبسبب خشيته من تحريض العز للأهالي هناك، أمر الصالح إسماعيل جنوده بإحضاره من نابلس إلى القدس، ثم “اعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان”.
وسأل الصليبيون الصالح، من يكون هذا الشيخ؟ فرد عليهم قائلا: “هذا أكبر قسوس المسلمين وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي لكم حصون المسلمين وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه، ثم أخرجته فجاء إلى القدس وقد جددت حبسه واعتقَلته لأجلكم”، فقالت له ملوك الفرنج: “لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها”.
المصادر
- محمد الزحيلي: العزُّ بن عبدالسّلام، صـ179-182.
- تاج الدين السبكي: طبقات الشافعية الكبرى، ج8 صـ240.
- المبادئ التربوية عند سلطان العلماء العز بن عبد السلام
- العز بن عبدالسلام وبيت المقدس