لا يُمكن لإنسان أن يعيش في الحياة بدون الصداقة التي تحد من الشعور بالوحدة، وتسمح بمشاركة التجارب، ومعايشة المواقف، ومشاهدة التغيّرات المختلفة التي تحدث في الحياة، سواء كانت إيجابية أو سلبية، وكل ذلك يلعب دورًا مهمًّا في النمو النفسي والاجتماعي للإنسان في مراحل عمره المختلفة.
ويؤكد الباحث عباس نور الدين، أهمية العلاقات بين النّاس المبنية على صداقة متينة تُحقق التوازن النفسي والاجتماعي، وتعزز الإنتاجية والصحة العاطفية، والتفاعل مع الآخرين، كما تحقق السعادة وتحارب الحزن.
مفهوم الصداقة وأهميتها
تعد الصداقة أحد أعذب المناهل التي تساعد الإنسان على الاستمتاع بالحياة، وهي معروفةٌ منذ أقدم العصور، لأنّها من أهم العلاقات الإنسانية التي تأخذ صدىً كبيرًا في مجالات الحياة المختلفة، سواء نفسية، أو اجتماعية، أو في مجالات الأدب والفنون، إذ تسهم في النهوض بالعلاقات الاجتماعية وتحمي الصحة النفسية للفرد.
وتعد- أيضًا- إحدى العلاقات المميزة في المجتمعات، لأنّها تساعد على بلورة شخصية الإنسان إلى الأفضل، وبخاصة مع توافر الأخلاق الحسنة، كما أنّها تكون مبنيةً على الاهتمام المتبادل، والمحبة التي تظهر من خلال القلق على كلّ ما يصب في مصلحة الصديق، إضافة إلى أنّ هذه العلاقة تكون مستمرة بشكل دائم، وإن كَثُرت مشاغل الحياة.
وتتمثل أهمية العلاقات بين الأصدقاء في تحسين طبيعة الحياة، وتقليل الشعور بالوحدة، وتطوير المهارات الشخصية، وتعزيز الصحة العقلية والجسدية، والتعامل مع التوتر بشكل أفضل، بالإضافة إلى المساهمة في تعافي الشخص من مرضه بشكلٍ أسرع.
الصداقة في الإسلام
وأولى الإسلام الصداقة أهمية كبيرة، فقال الله- تبارك وتعالى-: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67]. يقول ابن كثير رحمه الله: إن كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله- عز وجل-، فإنه دائم بدوامه.
وجاء على لسان إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 25].
يقول الطبري رحمه الله: المتخالون يوم القيامة على معاصي الله في الدنيا، بعضهم لبعض عدو، يتبرأ بعضهم من بعض، إلا الذين كانوا تخالوا فيها على تقوى الله.
وأعلى القرآن من قيمة العلاقات الإنسانية بين الناس، فقال- جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
والصديق الخلوق هو الذي يستحق الصحبة في الحياة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إنّما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إمّا أن يحذيك وإمّا أن تبتاع منه وإمّا أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإمّا أن تجد منه ريحاً خبيثة” (البخاري).
طبيعة العلاقة بين الأطفال
لا يميل الطفل قبل سن الرابعة إلى اللعب مع غيره من الأطفال على أساس من التعاون وتوزيع الأدوار، ويتسم لعب الطفل في هذه المرحلة بأنه لعب انفرادي، فهو يلعب بجوار طفل أو أطفال آخرين، ولا يميل إلى أن يشاركه غيره في اللعب، وتظل علاقته بغيره من الأطفال علاقة سطحية وآنية، وبالتالي غير قادر على تكوين علاقات متبادلة معهم يمكن أن تتطور وتستمر.
إلا أن الطفل وابتداء من عامه الرابع تقريبًا، يبدي بعض الميل للتخفيف من نزعته الأنانية، إلى أن يتم له في الثامنة من العمر تجاوز هذه المرحلة، ويتجلى ذلك في توجهه إلى الأطفال الآخرين في المرحلة العمرية نفسها، كما يبدي في هذه المرحلة ميلًا للتنافس مع الأطفال الآخرين ورغبة في التفوق عليهم، وقد يتطور التنافس إلى النزاع معهم وإلى الانضمام إلى جماعة من الأطفال منافسة لجماعة أخرى.
وبعد هذه المرحلة في الغالب عندما ينتقل الطفل من البيت إلى المدرسة، يبدي الطفل اهتماما بآراء الآخرين وفهمها ومناقشتها والرد عليها، الأمر الذي يتيح له التفاعل مع الآخرين وإقامة علاقات صداقة معهم. إلا أن هذه العلاقات قلما تدوم بسبب عدم تخلص الطفل من نزعته الأنانية بصفة تامة.
وفي مرحلة لاحقة ما بين التاسعة والثانية عشرة، تصبح الصداقة أكثر استمرارًا وتسمح له أن يمارس استقلالًا نسبيًا عن والديه ليندمج مع جماعة الرفاق التي يختار أصدقاءه من بين أعضائها.
ولكي يتجاوز الطفل هذه المرحلة بكيفية طبيعية على الآباء والمربين بصفة عامة أن يدركوا حاجة الطفل إلى تكوين صورة إيجابية عن ذاته من خلال التعرف على جسمه وقدراته الجسدية، ومن خلال تمييزه بين رغباته وبين إشباع هذه الرغبات، أو تمييزه بين الواقع والخيال، وكذلك من خلال تعامله مع الآخرين بحيث يتاح له بأن يعرف حقوقه وحقوق الآخرين.
دور الصحبة في نضج المراهق نفسيا واجتماعيا
وتكتسب الصداقة أهمية خاصة بالنسبة للمراهق بالنظر لتأثيرها الكبير على نموه النفسي والاجتماعي الذي لا يشعر بمكانته الحقيقية إلا بين رفاقه. ويفوق هذا التأثير في الغالب تأثير الآباء والمعلمين. ولما كان المراهق يشعر بأنه لم يعد طفلًا ولم يقبل بعد من طرف الكبار كراشد فإنه بحاجة إلى جماعة الرفاق التي تفهمه ويفهمها ويمارس معها أنشطته.
ويسود جماعة الرفاق علاقات أفقية متبادلة تسمح لأفرادها أن يعبروا عن آرائهم ورغباتهم بتلقائية وعفوية دون أن يواجهوا بالرفض أو الانتقاد أو القمع، فالتيار يمر بين الرفاق بسهولة الأمر الذي يزيد من احتمال تأثر كل فرد في الجماعة بأفكار وسلوك الآخرين الذين سيشكلون جماعته المفضلة.
إن غياب الخطاب الفوقي داخل جماعة الرفاق يساعد على قيام علاقات صداقة بين أفرادها قد تصل إلى درجة من الحميمية تجعلها تؤثر في سلوك المراهق تأثيرًا يفوق تأثير الوالدين والأسرة بصفة عامة، وكذلك تأثير المعلمين والمدرسة.
وتبلغ الرغبة في تحقيق صورة إيجابية عن الذات حدها الأقصى في مرحلة المراهقة التي تتميز بأنها مرحلة “حرجة” وانتقالية بين الطفولة والرشد. فالمراهق بالنظر للتحولات التي تنتابه من الناحية البيولوجية والنفسية والاجتماعية، يحاول التخلص من مرحلة الطفولة ليندمج في عالم الراشدين أو عالم الكبار.
وممارسة المراهق للعلاقة الاجتماعية تساعده على إدراك معنى القيم الأخلاقية كقيم الوفاء والتضحية والإيثار والتسامح، وعلى العكس من ذلك، قد تلعب جماعة الرفاق المنحرفة دورًا سلبيًا في توجيه سلوك المراهق بحيث تدفعه إلى الانحراف والإجرام بدل الالتزام بالقيم الأخلاقية والاجتماعية.
وتؤكد دراسات عديدة عن انتشار ظاهرة تعاطي المخدرات بين الشباب أن معظم المتعاطين للمخدرات من الشباب بدأوا تعاطي المخدرات بتشجيع من أصدقائهم. لذا على الآباء أن يكونوا على بينة من سوية سلوك أصدقاء أبنائهم للحيلولة دون وقوع الأبناء في مهاوي الانحراف تحت تأثير أصدقاء منحرفين.
كيف نختار الأصدقاء؟
تتميز الصداقة بين شخصين بأنها علاقة قائمة على الاختيار الشخصي المنزّه عن المصلحة الذاتية، وعلى الثقة المتبادلة، والاعتراف بالآخر وقبول مكاشفته والظهور أمامه بدون أي تصنع أو خداع. لذا فإن قيام علاقة صداقة بين شخصين أو أكثر يفترض وجود اتجاه إيجابي يشعر به الفرد إزاء الطرف الآخر. ويمكن رد هذا الاتجاه إلى عناصر رئيسية ثلاثة:
- عنصر معرفي: أي معرفة أفكار ومعتقدات الطرف الآخر والتعاطف معها.
- عنصر وجداني: مشاعر حب متبادلة، وشعور كل طرف بأنه مقبول من الطرف الآخر.
- عنصر سلوكي: محاولات التقرب من الشخص المتمتع بالجاذبية والذي هو موضوع العنصرين السابقين.
وفي علاقة الصحبة فحالة الطفل في شخصيتنا هي التي تتفاعل مع حالة الطفل في شخصية الآخر، بحيث نشعر بأن علاقتنا بالآخر لا تخضع لأي ضغط خارجي، وتقوم على الاختيار الشخصي، وتسودها التلقائية والصراحة والصدق وعدم التمويه تمامًا كما يحدث في علاقة الصحبة التي تقوم بين الأطفال، سيما في مرحلة الطفولة المتأخرة.
ويتفق كثير من الباحثين على أنه حتى تنشأ علاقة صداقة بين شخصين أو أكثر لا بُد من توفر ثلاثة شروط رئيسية: أن يلتقي هؤلاء الأشخاص في فضاء معين، وأن يحدث تواصل فيما بينهم، وأن يكون لهذا التواصل مضمون وجداني.
ونستخلص من هذه الشروط أن قيام صداقة بين شخصين أو أكثر يفترض حدوث بين هؤلاء الأشخاص تقارب: مكاني، ووجداني، واجتماعي.
وعندما نربط علاقة صداقة بشخص ما فإننا نحاول- من خلال هذا الصديق- أن نقترب من النموذج المثالي الذي نطمح إليه والذي تتحدد مواصفاته في ضوء القيم الأخلاقية والاجتماعية السائدة في المجتمع الذي نعيش فيه. ولذلك فإننا نشعر بأن الصديق يكملنا، أو كأنه جزء منا يحدث حضوره فينا حالة ارتياح أقرب إلى الامتلاء والتطابق.
وظيفة نفسية
ويتفق المهتمون بدراسة السلوك الإنساني على أن الصداقة تلعب دورًا مهمًّا في تحقيق التوازن النفسي للأفراد خاصة إذا كانت جماعة الأصدقاء متكيفة اجتماعيًا. وقلما يصاب الأفراد الذين يتوفرون على علاقات صداقة مع أشخاص عديدين باضطرابات نفسية وعقلية.
وأبرزت عدة دراسات الدور الإيجابي الذي يمكن أن يلعبه الأصدقاء في تجاوز الظروف الصعبة التي قد تواجه الإنسان من حين لآخر. وتوصلت بعض هذه الدراسات إلى أن علاقات الصحبة تخفف كثيرًا من معاناة كبار السن والأرامل والمطلقين.
وفي حالات التوتر الشديد التي قد تعتري أحيانا سلوك الإنسان يشعر الفرد بحاجة ماسة للتنفيس عن هذا التوتر بلجوئه إلى أساليب مختلفة (غضب، أحلام يقظة، ممارسة نشاط ترفيهي، لوم الآخرين، الاستغراق في العمل) إلا أن الأسلوب الأمثل الذي ينصح باللجوء إليه في مثل هذه الحالة هو الإفصاح عما تشعر به لصديق حميم لك يستمع إليك ويشاركك ما تعاني فيه.
ولعل أبلغ ما قاله الأقدمون في الوظيفة النفسية للصداقة ما رواه أبو حيان التوحيدي عن أبي سفيان قوله: “الصديق لا يُراد ليُؤْخَذ منه شيء، أو ليعطي شيئا، ولكن ليُسكَن إليه، ويُعتمد عليه، ويُستأنس به، ويُستفاد منه، ويُستشار في الملم وينهض في المهم، ويُتزين به إذا حضر، ويُتشوق إليه إذا سفر…”.
وكذلك قول ابن المقفع: “… اِعلم أن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة في المعاش والمعاد، فلا تفرط في اكتسابهم وابتغاء الوصلان والأسباب إليهم”.
إن الصداقة لها دور كبير في حياة الإنسان، فهي تؤثر في تصرّفاته وسلوكياته، فتراه يتحلّى بأخلاق من يقترن بهم من الأصدقاء، سواءً أكانت حسنة أم سيئة، لذا قال النبي- صلّى الله عليه وسلّم-: “الرَّجلُ على دِينِ خليلِه، فلْينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِلْ” (أبو داود).
وعلى المسلم اختيار الصديق له ولأبنائه، حتى يعود عليه بثمرات النفع والفائدة العظيمة في الدنيا والآخرة، لأن الصّديق صاحب الخلق الحميد يُعين على طاعة الله -سبحانه- واجتناب نواهيه، ويحثّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يكون سببًا للتقرب من العلم النافع وطلبه. بل يسعى إلى النصح الدائم لصاحبه طلبا للأجر من الله -سبحانه وتعالى-.