رغم بريق الحضارة الأوروبية في العصر الحديث والمحاولات المستميتة لطمس الهوية الإسلامية، فإن بعض العلماء لم يُفتنوا بها، ومنهم الشيخ طنطاوي جوهري الذي رأى في عزة دينه سبيل الخلاص من المستعمر وأذنابه، وسطّر بصحائف من نور تاريخًا مشرفًا من المقاومة على جميع الأصعدة والمجالات.
لقد كان الشيخ طنطاوي أحد الذين أجلوا حقيقة الإسلام واضحة أمام الناس، وأنه دين شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، بل كان أحد هؤلاء العلماء المصلحين الذين تركوا بصمات كثيرة بلغت به أن حاربه بعض العلماء الذين أوقفوا الدين عند جانب واحد منه فقط، وكان أول عربي يُرشح لنيل جائزة نوبل، إلا أن المنية وافته قبل الحصول عليها.
نشأة طنطاوي جوهري وتعليمه
وُلد طنطاوي جوهري في قرية “كفر عوض الله حجازي” بمحافظة الشرقية عام 1862م، الموافق 1287هـ، وكان جده لأمه هو الشيخ عوض الله حجازي، ووالده كان يعمل بالزراعة. وكان لعمه الشيخ محمد شلبي- وهو أحد علماء عصره- دورٌ عظيمٌ في توجيهه إلى التعليم، فعمل جاهدًا على تربية الشيخ طنطاوي تربيةً إسلامية.
التحق الشيخ طنطاوي في مطلع حياته بكتَّاب القرية، وأتم فيه حفظ القرآن، وبعد أن أتم الحفظ ظهر ولعُه بالعلم، فالتحق بالجامع الأزهر عام 1877م، وفي هذه الفترة ظهر نبوغه كما ظهر ذكاؤه الحادّ، فأجاد علوم اللغة العربية والفقه الإسلامي، وألمَّ بمذهب الإمام الشافعي.
غير أنه انقطع عن الأزهر؛ بسبب مرض خطير ألمَّ به وبوالده الفقير، الذي لم يستطع النفقة عليه وعلى تعليمه، فترك التعليم وعمل بالزراعة مع الفلاحين لمساعدة والده، وكان ذلك دافعًا له للنظر في الطبيعة واكتشاف ولايتها للخالق، وإدراك وجود الله؛ يقول: “لما كنت في الأزهر كنت أحسُّ بميلي الشديد إلى الكواكب والنجوم، وكم قضيتها أحلِّق معجبًا بجمالها، وأحسست في نفسي بحزن عميق لجهلي بهذه الأكوان”.
وساعده عمه الشيخ محمد شلبي على تحصيل علم الحديث الشريف في الجامع الصغير الموجود بالقرية، حتى إنه قال في نفسه: “ما لي أرى من ابن أخي ما لا أسمعه من أساتذة العلماء؟!”، ثم خاطبه: “يا ابن أخي، ستقصُّ قصصي معك في المستقبل حين يظهر أمرك”.
انتقل “طنطاوي” إلى مدرسة دار العلوم والتحق بها عام 1889م، وظل يدرس فيها حتى تخرَّج عام 1894م، درس خلالها الحساب والهندسة والجبر والفلك والطبيعة والكيمياء، كما أنه درس الفقه الحنفي.
عرفه أقرانه بميله الشديد إلى جمال الطبيعة والنظر إلى الكون، فكانوا يقولون له: كيف تحب ما لا فائدة منه؟! فكان يجيبهم بقوله:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
طنطاوي جوهري والعمل في التدريس
وتخرج الشيخ طنطاوي جوهري في مدرسة دار العلوم وعُيِّن مدرسًا بمدرسة دمنهور الابتدائية، ثم نُقِلَ إلى مدرسة الناصرية الابتدائية بالجيزة، ثم المدرسة الخديوية بدرب الجماميز؛ حيث بقي فيها من 1900م حتى عام 1910م، وفي أثناء وجوده بها عكف على تعلم اللغة الإنجليزية، حتى أتقنها وأصبح يتحدث بها بطلاقة تامة.
وفي عام 1911م، اختاره أحمد باشا حشمت ناظرَ المعارف العمومية لتدريس التفسير والحديث بمدرسة دار العلوم، واختِير ضمن هيئة التدريس بالجامعة المصرية القديمة، وبسبب هذا النجاح الذي أكرمه الله به وآرائه المستنيرة، ناوأه بعض العلماء والمتفيهقين، وافترَوا عليه كذبًا وروَّجوا حوله الأقاويل، حتى استطاعوا أن يبعدوه عن الجامعة المصرية.
استمرت المحن تلاحق الشيخ طنطاوي، فرفضه كلُّ نظار المدارس حتى محمود فهمي النقراشي- رئيس وزراء مصر فيما بعد- لم يقبله في مدرسته، ولم يقبله إلا رجل فرنسي، وهو ناظر المدرسة الخديوية.
وبعد إعلان الحرب العالمية الأولى عام 1914م أخرجه الإنجليز من دار العلوم، فانتقل إلى مدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، وفي أكتوبر 1917 دُعِيَ للتدريس بالمدرسة الخديوية ثانيةً، وفي عام 1922م بلغ الشيخ سن المعاش، فوهب نفسه لتأليف الكتب وتربية الشباب تربيةً إسلامية.
في ذلك الحين كان الشيخ طنطاوي قد أخذ على نفسه عهدًا، وقال: “إنني عاهدت ربي أن أعلم الناس ما علمت وأني إن وقفت على حقيقة نشرتها بين العالم الإسلامي، وإن لم أنشر ذلك بين الملأ كنت كافرًا بنعمة ربي ناقضًا لعهده”.
جهوده في الإصلاح والتربية
إذا ذكرنا النهضة الحديثة نجد الشيخ طنطاوي جوهري من أبرز أعلامها الخفَّاقة وعقولها المفكرة، وإذا ذكرنا الحركة الإصلاحية في المعاهد ودور التعليم فهو واضعُ أساسِها، وهو فيلسوفٌ ومصلحٌ دينيٌّ مجددٌ وكاتبٌ مجيدٌ.
لم يكن الشيخ طنطاوي عالمًا كسائر العلماء، بل تميَّز في كل نواحي العلوم؛ فكان العالم الديني الوطني، كما كان العالم الاجتماعي العالمي، جمع بين الثقافتين الدينية والطبيعية والإنسانية، فمزج المسائل الدينية بالآراء الاجتماعية والسياسية.
وجاهد الشيخ بقلمه ورأيه لرفعة شأن الإسلام، وكان يرمي إلى أن العلم إذا حسُن فهمُه كان أداةً صالحةً لتفهُّم روح الدين، وفي ذلك يقول: “أيها الإخوان، أيها الأبناء من الأمم الإسلامية.. اليوم أحدثكم حديث الرحمة، تلك الرحمة التي بها قامت السموات والأرض وما بينهما، بالرحمة أُسِّست العوالم كلها.
ولقد كان الشيخ طنطاوي سياسيًّا بارعًا، فكان عضوًا في الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم مصطفى كامل، حتى إنه لفت نظر الزعيم إلى نشاطه ووطنيته، فقال فيه: “بمثلك يا شيخ ترتقي الأمة”، وكان أول من سماه بأنه “حكيم الإسلام”.
ولما كان من أخلص المخلصين لقضية البلاد واستقلالها، فقد أطلق العنان لقلمه ليناصر قضية بلده، فوضع كتاب “نهضة الأمة وحياتها” ونشره في جريدة (اللواء) التي كان يصدرها الحزب الوطني؛ ندَّد فيه بالدول التي تؤسس وجودها على أسنَّة الحراب وأصوات المدافع وتخريب البلاد ودك الحصون.
وأثناء وجوده في المدرسة العباسية بالإسكندرية أسس جمعيةً من الطلاب أسماها “الجمعية الجوهرية” كان لها أثرها في بث الوعي بين الشباب السكندري. وجاهد بقلمه الاستعمار، فكانت مقالاته بركانًا زلزل أركان الاستعمار، والتي كانت تُنشَر في جريدة (اللواء)، وكانت تتحدث عن الأمم المستعبدة والأمم المستضعفة ووسائل الإصلاح.
وأسس “جماعة الأخوَّة الإسلامية” التي كانت تضم طلاب مسلمين من بلاد الشرق الأوسط والأقصى، الذين وفدوا إلى مصر ليتعلموا فيها ويحصلوا على التعليم الديني منها، وظلت هذه الجمعية قائمة حتى عام 1950م، وقد رأسها الدكتور عبد الوهاب عزام عميد كلية الآداب.
ولم تقف جهود الشيخ عند ذلك فحسب، بل كان عضوًا في جمعية البر والإحسان، وعضوًا في جمعية الشبان المسلمين، وعضوًا بارزًا بدائرة القاهرة الروحية، وتولى رئاسة جمعية المواساة الإسلامية، وكان أحد مؤسسيها، كما كان رئيسًا لتحرير مجلة (الإخوان المسلمين) الأسبوعية في الثلاثينيات، حيث انضم الشيخ للجماعة فور علمه بها ومقابله للشيخ حسن البنا- رحمه الله-.
وكان بعد أن اقتنع الشيخ طنطاوي بدعوة الإخوان أن قال له الشيخ البنا: “يا سيدي الأستاذ.. إنك أستاذنا وأستاذ الجميع، وأنت حكيم الإسلام، وأراك أحق بمنصب الإرشاد لهذه الدعوة مني، وهذه يدي أبايعك.. فقال الشيخ: لا يا أخي.. أنت صاحب الدعوة، وأنت أقدر عليها، وأنت أجدر بها، وأنا أبايعك على ذلك، ومدَّ يده فبايعه، ولم ينكث -رحمه الله- بيعته إلى أن لقي ربه”.
وقد تميز المنهج الإصلاحي للشيخ طنطاوي بعدة دعائم، هي:
- أن يسرع قادة الشعوب في تعميم مزج علوم الحياة بالدين.
- أن تعمم آداب الدين الإسلامي.
- أن يشجِّع قادة الأمة الصناعة والصنَّاع بترويج ما صنعوا وإطرائه والإقبال عليه.
ولقد اعتنى ببلاد العالم الإسلامي وشؤونهم، والدفاع عن حريتهم؛ فكتب في جريدة (الأخبار) يوم 8 سبتمبر 1924 نداءً جاء فيه: “نداء.. من حضرة صاحب الفضيلة الشيخ طَنْطَاوِي جُوهَري إلى الملوك والسّادة الأشراف والأمراء والأعيان، وكل ذي حمية دينية إسلامية ببلاد الملايو وسنغافورة وجزر الهند الشرقية، يستنهض فيهم الهمم العالية لإحياء العلوم الدينية”.
وكان من أثر ذلك أن التركستانيين قد تأثروا بفكر الشيخ جوهري وشخصيته، وبعد استقلالهم وقيام جمهوريتهم الإسلامية أنشأوا المدارس والجامعات وأطلقوا عليها اسم الشيخ طنطاوي جوهري، فسموها جامعة طنطاوية ومدارس جوهرية.
وكان للشيخ طنطاوي مؤلفاته غزيرة أثرت المكتبة الإسلامية في مختلف العلوم فكان لها أثرها العظيم على البشرية، ومن هذه المؤلفات:
- الزهرة في نظام العالم والأمم؛ حيث تحدث فيها عن عجائب الزهور.
- التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم، وهو عبارة عن مقدمة للتفسير، وترجم هذا الكتاب إلى التركية والفارسية والروسية.
- نهضة الأمة وحياتها.
- النظام والإسلام.
- جواهر العلوم.
- أين الإنسان؟
- (الجواهر) في تفسير القرآن، وكتبه في 36 مجلدًا، وفي هذا التفسير طبَّق القرآن على النظريات الحديثة، واستخرج النظريات العلمية من نصوص القرآن، وانتشر هذا التفسير في بلاد الشرق الأقصى وتُرجِم لعدة لغات.
هذا غير المؤلفات الكثيرة التي لم يتسع المقام لذكرها، والمقالات التي امتلأت بها الصحف.
وكتب الشيخ الجليل عن صور فساد الشباب مقالاً تحت عنوان: “يا شباب مصر” يبين فيه مظاهر تدمير الشباب فقال: “ذلك أني حينما أسير في شوارع القاهرة وأرى المقاهي مكتظة بفلذات أكبادنا ومهج خلاصة المصريين وعظماء الأمة.. هؤلاء الطبقة المتعلمة شبان المدارس.. يحزنني والله أن أرى رعية بلا راع لها، وشبانًا لا قائد لهم.. وذلك أني منذ سنين كنت مارًا ليلاً إذ سمعت ضوضاء وجلبة في حان بالقرب من ميدان “فُم الخليج” وسمعت العمال يتقاتلون على فتاة يسمونها “خضرة” بعد أن ثملوا وشربوا من سم قتال، وكانوا نحو عشرين شابًا”.
الترشح لجائزة نوبل
لقد دعا الشيخ طنطاوي جوهري إلى السلام العام، وألَّف من أجل ذلك كتابيه: “أين الإنسان؟!” و”أحلام في السياسة.. وكيف يتحقق السلام العام؟”، وهذان الكتابان يستخرجان السلام العام على أساس الفطرة الإنسانية، ودعا فيهما إلى مفهوم الإنسانية الحق، التي يقوم فيها السلام العام على أساس الفطرة الإنسانية، وعلى المحبة وتبادل المنافع.
وتقدم الشيخ بنفسه إلى لجنة نوبل بالبرلمان النرويجي لنيل هذه الجائزة غير أن القدَر لم يمْهل الشيخ لنيل الجائزة، فتوفاه الله قبل أن تعلن.
حتى إن الأستاذ العلامة كريستيان جب، قد حضر من لكسمبورج إلى مصر سنة 1938م ليلتقى بالعالم الفيلسوف الشيخ طنطاوي، ويتعرف إليه شخصيًّا بعدما عرفه من كتبه التي ترجم منها كتابيه: «أين الإنسان؟»و «أحلام في السياسية».
وقال “جب” في محاضرة له بهذه المناسبة في جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة: «إني أعلن أن خير كتاب أخرج للناس في هذا الشأن هو كتاب (أين الإنسان؟) الذي يرسم للعالم بأسلوب فلسفي عميق طريقه المستقيم إلى السلام الدائم الذي رسمه الله في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾[الحجرات: 13].
وفي صباح الجمعة 3 من ذي الحجة 1358ﻫ، الموافق 12 يناير 1940 فاضت روح الشيخ طنطاوي جوهري إلى بارئها، بعد رحلة طويلة من خدمة الإسلام والعلم، وما كاد المسلمون يسمعون بوفاته حتى أقبل إليه خلق عظيم لتوديعه الوداع الأخير، وحضر ممثلو الجماعات والهيئات الإسلامية، وبعد أن واراه التراب تبادل الخطباء المراثي التي أدمت القلوب وأفاضت الدموع.
واهتم الباحثون الغربيون اهتماما كبيرا بالشيخ طنطاوي وتحدثوا عن مؤلفاته وآثاره؛ فذكره البارون “كراديفو” في كتابه “مفكرو الإسلام”، ووصفه بأنه واحد من المصلحين الذين ربطوا بين جوهر الإسلام وبين النهضة الحديثة. ويقول “كراديفو”: إن الأزهر أظهر ثلاثة مصابيح: محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطنطاوي جوهري”.
وقال عنه الأستاذ عبد العزيز عطية- عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين-: “عرفنا شيخنا بعد أن ارتوى من معين العربية والفقه الأكبر والمنطق، حتى قصده الكثيرون من نواحي العالم، يستمعون لآرائه، وكان أكبر همه أن يذيع رسالة السلام عن طريق تعاليم الإسلام”.
وقالت فيه بنت الشاطئ: “وقدم الشيخ طنطاوي تفسيره (الجواهر)، فوجدت فيه الجماهير ما يريحها من مهانة الإحساس الباهظ بالتخلف”.
المصادر والمراجع:
- عبد العزيز جادو: الشيخ طنطاوي جوهري… دراسة نصوص، دار المعارف، القاهرة، 1980م، صـ 11- 13.
- علي الجمبلاطي: ذكرى طنطاوي جوهري، سلسلة اخترنا للطالب، 7 فبراير 1962م، صـ 15 ، 16
- عبد العزيز جادو: مرجع سابق، صـ14.
- عبد العزيز جادو: مرجع سابق، صـ92. وانظر:طنطاوي جوهري.. الحكيم داعية السلام.
- عبد العزيز جادو: مرجع سابق، صـ33.
- عبد العزيز جادو: مرجع سابق، صـ41.
- ياسر حجازي: طنطاوي جوهري.. الحكيم داعية السلام، إسلام أون لاين.
- رجاء النقاش: تفسير القرآن العظيم بالخرائط والصور، مجلة “المصور” بتاريخ 3 نوفمبر عام 1972م.
- عبدالعزيز جادو: مرجع سابق.
- عبد العزيز جادو: مرجع سابق، صـ40.
- جريدة ” المقطم ” : العدد 8، الموافق يناير 1938م، ذو القعدة 1356هـ.
- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، الجزء الأول، دار الدعوة، 1999م، صـ186.
- محمود عبد الحليم: مرجع سابق، صـ187.
- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الثاني، طـ1، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2003م، ص ـ 78، 174.
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2000م، صـ 183.
- محمد عبد الحميد أحمد: ذكرياتي، طـ 1، دار البشير للثقافة والعلوم الإسلامية، 1993م، صـ 24.