تُعَدّ عملية اكتشاف ميول وقدرات الأبناء مرحلةً أساسيةً من مراحل توجيههم إلى أداء المهمة التي خلقهم الله -سبحانه وتعالى- من أجلها، وهي إعمار الكون وفق مراده. قال الله تعالى: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61).
ولابُدّ أن تكون هذه العملية واقعية، بحيث تربط بين الميول والرغبات من ناحية، وواقعية القدرات من ناحية أخرى، كما تحتاج هذه العملية إلى زمنٍ ومجهود، يكتشف فيها المربّي (الشيخ، المعلم، الوالدين) الميول والقدرات، ويقارن بينها ويمايز حتى يدرك أكبر مساحة تتقاطع فيها الميول مع القدرات؛ حينئذ، يُدرك المجال الذي سيتوجه إليه الفرد كبابٍ من أبواب أداء مهمته في الحياة، ومصدرٍ لسعادته في الدنيا وسبيلٍ لإرضاء الله -تعالى- في الآخرة.
مفهوم الشغف
الشغف هو القوة الكامنة في أعماق الإنسان، التي تُحرِّكه نحو إنجاز ما يحب ويتوافق مع قدراته، مثيرةً حماسته وعزيمته لينجز ما يرنو إليه من دون كللٍ أو ملل، وهذا المفهوم يختلف عن الحلم، إذ قد يرتبط الحلم بالعاطفة والوجدان أكثر من ارتباطه بالواقع العملي.
ويُستند في هذا المفهوم إلى أن الله -تعالى- خلق البشر مختلفين وأنعم عليهم بالقدرات والرغبات؛ قال -تعالى-: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118)، حتى يتكاملوا ويتعاونوا في إتمام الغاية الكبرى، وهي إعمار الكون.
وحق الشكر لتلك النعم والقدرات التي أسبغها الله علينا هو استفراغ الوُسْع في استغلالها، إذ إن الله -تعالى- حدد التكليف باستفراغ الوُسْع، قال -تعالى-: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286).
أهمية اكتشاف شغف الأبناء
تكمن أهمية عملية اكتشاف ميول وقدرات الابن في أنها مرحلة أساسية تسبق توجيهه نحو مجالي الدراسة والعمل، وكذلك مجال العطاء الذي قد يساهم من خلاله في خدمة دينه ودعوته، ويمكن اعتبار أن توجيه الابن بما يتناسب مع شغفه يضاعف من عطائه في الحياة، في حين أن إهمال هذه العملية قد يؤثر سلباً عليه من الناحية النفسية والعملية، وتكمن أهمية هذه العملية في عنصرين رئيسيين، وبإدراكهما نستوعب خطورة إهمالها:
أ. أهمية وجدانية:
- تعزيز ثقة الابن بنفسه: عندما يعمل ويدرس الابن في مجال يحبه، يزداد تفوقه ويحرص على الإنجاز، مما يعزز ثقته بنفسه ويشعره بقدرته على التأثير والإبداع، على العكس من ذلك، عندما يُجبر على الانشغال بأمور لا يستمتع بها، يتباطأ أداؤه ويشعر بضعف تأثيره، مما يقلل من ثقته بنفسه.
- تحفيز الابن نحو التعلم والإنجاز: يدفع الإنجاز الطفل لمواصلة العمل ويشجعه على تكرار التجارب، خاصةً عندما تكون في مجال شغفه، إذ ينقله النجاح من مستوى إلى آخر، ويجعل الفشل درساً للتعلم لا سبباً للإحباط؛ أما الانشغال في مجالات لا يفضلها، فقد يؤدي به إلى الاستسلام عند أول عقبة.
- الشعور بتقدير الآخرين: يساهم إنجاز الابن وإتقانه لما يقوم به في تعزيز إعجاب الآخرين به وتقديرهم له، خاصةً إذا كان هذا التقدير من معلميه أو والديه، فيحفز هذا الدعم الطفل على الاستمرار في الأداء المتميز وتحقيق الإنجازات.
ب. أهمية عملية:
- تحديد مسار حياة الابن المهني: يُسهم وعي المربّي بقدرات الابن واهتماماته في توجيهه لمسار تعليمي ومهني متوافق مع شغفه، مما يوفّر عليه الوقت والجهد؛ فكثيراً ما نشاهد من يدرس في مجالات لا يهواها ثم يغيّر مساره المهني لاحقاً، فيضيع عليه سنوات كان بالإمكان استثمارها في تعلّم ما يحب.
- تطوير مهارات الابن الإبداعية والقيادية: يُمكّن الإدراك المبكر لشغف الابن الأهل والمعلمين من التركيز على تطوير مهاراته الإبداعية والقيادية في هذا المجال، حيث يُستقبل الابن المعلومات بسهولة وسرعة أكبر، مما يسهل عملية تطوير مهاراته المختلفة.
- تحقيق الإنجازات بكفاءة وسرعة: يكون الأداء في مجال الشغف أكثر كفاءة وسرعة، ما يجعل الطفل قادراً على تحقيق إنجازات متعددة خلال فترات قصيرة، ويعزز من حماسه للعمل على أهداف أكبر وأكثر تحدياً.
- الاستغلال الأمثل للعمر والوقت: ذكرنا سابقاً أن إهمال عملية اكتشاف الشغف قد يُفقد الابن سنواتٍ من عمره في تعلّم ما لا يفضله، مما يدفعه لاحقاً إلى تغيير مجاله المهني والشعور بالندم على ضياع تلك السنوات.
وسائل اكتشاف الشغف عند الأبناء
تُعدّ عملية اكتشاف ميول وقدرات الابن من أهم مهام المربي، سواء كان معلمًا، أو شيخًا، أو والدًا، وتستند هذه المسؤولية إلى التكليف الإلهي، كما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري). وعليه، يمكن الإشارة إلى مجموعة من الوسائل التي يُحسن بالمربي استخدامها في عملية اكتشاف ميول وقدرات الأبناء:
أولاً: إعطاء مساحة للابن للاشتباك مع تجارب متنوعة
إن تنوّع تجارب الابن واشتباكه مع مساحات مختلفة يُسهم بشكل كبير في اكتشاف ميوله وقدراته. ومن أمثلة هذه المساحات:
- مساحات علمية ومعرفية، مثل المشاركة في المسابقات العلمية.
- مساحات مهارية وقيادية، من خلال المهام الجماعية مع زملائه.
- مساحات رياضية، عبر ممارسة الرياضة بأنواعها.
- مساحات للإبداع والنقد، في أنشطة مثل الرسم والكتابة وغيرها.
ثانياً: الملاحظة الدقيقة للابن خلال تجاربه
يُلاحظ المربي نقاط القوة والضعف، بالإضافة إلى مهارات الابن وتوجهاته النفسية والعملية، من خلال مراقبة تفاعلاته مع المساحات المتنوعة. ويُستحسن أن يُسجّل المربي نتائج هذه الملاحظات بدقة لتكوين فهم أعمق حول قدرات الابن وميوله.
ثالثاً: المكافأة عند النجاح والتوجيه عند التعثر
تُعَدّ المكافأة عند نجاح الابن في إحدى المهام، وتوجيهه نحو المثابرة عند تعثّره، من الوسائل المهمة التي تساعده على الاستمرار في التجارب، مما يُعزز من فرص اكتشاف مهاراته وقدراته وميوله.
رابعاً: استخدام الاختبارات العلمية لاكتشاف القدرات
تتوفر العديد من الاختبارات العلمية التي تساعد في اكتشاف شغف الأبناء، ومنها:
- اختبار ستانفورد-بينيه للذكاء (Stanford-Binet Intelligence Scales): يقيس الذكاء العام من خلال اختبارات تشمل الفهم اللفظي، القدرات المنطقية، القدرات المكانية، والذاكرة، مما يُساعد في تحديد مجالات القوة العقلية.
- اختبار وكسلر لذكاء الأطفال (Wechsler Intelligence Scale for Children – WISC): يقيس القدرات المعرفية، مثل التفكير الإدراكي، الذاكرة العاملة، وسرعة المعالجة، ويُساعد في تحديد جوانب القوة والضعف.
- استبيان جاردنر للذكاءات المتعددة (Gardner’s Multiple Intelligences Test): يقيس أنواع الذكاءات المتعددة، مثل الذكاء اللغوي، المنطقي-الرياضي، الموسيقي، الاجتماعي، الجسدي-الحركي، والبصري-المكاني، ويحدد نوع الذكاء الذي يتمتع به الطفل.
وغيرها من الاختبارات التي أصبحت متاحة عبر الإنترنت. ويُستحسن أن يدرك المربي كيفية التعامل مع هذه النتائج والاستفادة منها.
خامساً: التقييم الدائم والمراجعة للنتائج
مع كل مرحلة، يُجري المربي مقارنة بين نتائج الملاحظات والاختبارات وتقييم كافة التجارب في المساحات المختلفة، وذلك لتحديد الخطوات المطلوبة بعد ذلك
نماذج عملية
- الصحابي عبدالله بن عباس شُغف بالعلم والتفسير:
عبدالله بن عباس -رضي الله عنه-، ابن عم النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان شغوفًا بالعلم منذ صغره، وقد لُقّب بـ “حبر الأمة” نظراً لمعرفته الواسعة في التفسير والفقه. بفضل شغفه وتوجيهه، أصبح أحد كبار علماء الصحابة ومرجعًا في تفسير القرآن الكريم.
- ابن الهيثم شُغف بالعلوم الطبيعية والبصريات:
العالِم المسلم الحسن بن الهيثم كان شغوفًا بالعلوم الطبيعية والبصريات منذ صغره، ويُعتبر من روّاد علم البصريات. له إسهامات كبيرة في تطوير علم الضوء، وكتابه “المناظر” وضع الأسس للعديد من الاختراعات والابتكارات في مجال البصريات.
- الإمام الشافعي شُغف بالعلم والفقه:
الإمام الشافعي، أحد الأئمة الأربعة في الفقه الإسلامي، أظهر شغفًا كبيرًا بالعلم منذ سن مبكرة، حيث حفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة، وبدأ دراسة الفقه واللغة العربية في مكة. بفضل شغفه بالدراسة وسعيه المستمر للعلم، أسّس الشافعي مذهبًا فقهيًا أصبح من أكثر المذاهب الإسلامية تأثيرًا.
إن التوجيه المناسب للقدرات والميول هو سُنّة نبوية، فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجّه أصحابه وفقاً لقدراتهم، إذ لم يكن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- كأبي هريرة -رضي الله عنه-، فالأول تفوّق في الجهاد، بينما الثاني برع في الحديث. كما أن حسان بن ثابت -رضي الله عنه- شاعر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يختلف عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه-، الذي أتقن لغات القوم. ويجدر بالمربّي الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا، وأن يدرك أهمية التوجيه المناسب ويمتلك المهارات الشخصية والأدوات العلمية اللازمة لذلك.
إن عملية اكتشاف شغف الأطفال عملية مستمرة وليست وقتية، فهي تحتاج إلى التقييم والتحسين الدائمين، مع الإرشاد والصبر والمثابرة، لكنها تترك أثرًا عظيمًا على شخصية الابن ومستوى عطائه لدينه وأمته.