نسمع كثيرًا أنّ شخصًا يتهم غيره باللجوء إلى الشخصنة في موضوع ما، بل ربما يُحوّل المرء بعض القضايا أو المسائل أو الموضوعات لأمور شخصية وكأنها تخصه فقط، وليس حوارًا شفافًا للوصول إلى أفضل السبل والعلاج.
ويرى المختصّون في مجالات علم النفس أنّ شخصنة الأمور لا تعود بالنفع على صاحبها، بل إنها تُغلق الأبواب أمام الحيادية، لكونها مظهرًا من المظاهر السلبية للثقافة، وتُؤدي إلى اتساع فجوة الشقاق بين الأفراد والمجتمعات.
مفهوم الشخصنة
الشخصنة بمفهومها داء يُصيب المرء أو الجماعات أو المؤسسات ويخرج به عن الحيادية المطلوبة في الوصول إلى حلول عملية واقعية.
وَوَرد في المعاجم العربية: شَخْصَنَ يُشَخْصِن، شَخْصَنةً، فهو مُشخصِن، والمفعول: مُشخصَن. وشخصنَ المسألة أي جعلها ذات صيغة شخصية.
ومنها شخصنة الفكرة أو الرأي بتحويلها من رأي أو فكرة مجردة إلى فكرة مُجسّدة تتمحور في شخص معين سواء سلبًا أو إيجابًا، أو ربط الفكرة بأمور شخصية خارجة عن موضوعها ومنهجيتها وأصولها وأدلتها، مثل: العواطف الإنسانية، والمصالح السياسية، والرؤى المذهبية.
لذا تُعرّف شَخْصَنة الأمور على أنها: الحكم على الآخرين، أو على أفكارهم، ووجهات نظرهم، وتصرفاتهم، من مُنطلق شخصي أو رؤية شخصية (1).
الشخصنة في نظر الإسلام
لقد عالج الإسلام الشخصنة عند المسلمين وحثّهم على الحيادية في أفكارهم ونقاشاتهم ومعاملتهم وحياتهم، وخير مثالٍ في القرآن الكريم هو ما وَرَدَ في قصة قابيل وهابيل حينما شخصن قابيل القضية وحوّلها لعداءٍ شخصي مع أخيه، وسعى لتدميره بكل طاقته حتى قتله.
ونرى ذلك – أيضا- عند قريش، حينما شخصن البعض فيها نزول الوحي على رسول الله محمد – صلى الله
عليه وسلم- دون غيره من القبائل العربية القرشية، وقال أبو جهل “والله إني لأعلم أنه لَنبيٌّ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعًا”، فأوضحها الله بقوله: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
وهو ما أكده في آية أخرى بقوله: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31].
يقول القرطبي: “والرسالة الإسلامية لم يكن اسمها (المحمدية) – على نسق المسيحية مثلا- بل سميت باسم الفكرة ذاتها وهي (الإسلام)، فهذا فصل كامل بين العقيدة (الفكرة) وبين حامليها من الناس والرسل وغيرهم من “الأشخاص” على رفعة قدرهم”.
بل أعظم درس الذي ضربه النبي – صلى الله عليه وسلم- حينما ترك رأيه للرأي الصواب، سواء في بدر حينما انتقد الحباب بن المنذر المكان الذي عسكروا فيه وأسار على النبي بتغيره فنزل النبي على رأيه ولم يغضب، وفي الخندق حينما نزل على رأى سلمان الفارسي وساهم في حفر الخندق.. وهكذا الإسلام عالج شخصنة القضايا والأفكار (2).
منهجية الحوار
إن الجهل بأسس الحوار أو عرض الأفكار والآراء، أو التعريف بالأحداث ومسبباتها والقائمين عليها، يقود دائمًا إلى الشخصنة في كل ما يحيط بها، ومع نهضة الإعلام وتشعبه؛ أخذت تلك الحالة تتوضح بأبعادها المختلفة- الاجتماعية والسياسية والفكرية والاقتصادية- بصورة أكبر، وتتضح كيفية تتبع ميول الأفراد ورغباتهم، وهي تفشي نيّاتهم المتعلقة بتسويق أو تشويه أشخاص بعينهم، لصلة دينية أو فكرية أو عشائرية أو جغرافية، أو تتعلق بالجنس بين ذكر وأنثى أو صداقة وغيرها، حيث يتم الدفع بفكرة معينة تبعًا لصاحبها، وما يتمتع به من قرب أو قبول أو نفوذ مالي أو اجتماعي أو إداري أو سياسي، وتصبح ذات قيمة يجب إبرازها أو العكس حيث يتم تجاهلها استنادًا إلى ذلك.
فشخْصَنة الأمور تعتمد مسار الابتعاد عن المضمون، والذهاب نحو الرغبات المتعلقة بالشخص، وتحليل انتماءاته ورغباته وارتباطاته (3).
شخصنة الفكرة
إن من يلجأ إلى الشخصنة في النقاش أو الحوار في كل مناحي الحياة هو شخص فاقد للحجة والإثبات.
يُقال في اللغة العربية شَخْصَن الفكرة؛ أي شرحها من وجهة نظره الشخصيّة، أو أعطى الأمر صبغة شخصية؛ فتراه يحكم على أحد بالفساد، لا لأنه رأى الفساد ظاهرًا ومقترنًا به ووفق حقائق مادية ملموسة، بل لأنّه ارتأى الحكم عليه لسبب يتعلق بأفكاره الخاصة، وتُعد هروبا جبانًا من المناقشة وتقديم الحجج، حيث لا تلقى رواجًا إلا لدى الأشخاص المُصابين بحب التعالي أو نبذ الحقائق (4).
ويضيف حازم ماهر – الباحث الشرعي- ملمحا جيدا في هذا المعنى بقوله: “وشخصنة الفكرة قد تكون بربطها بشخص طبيعي (إنسان)، أو شخص معنوي (حركة، جماعة، حزب، مؤسسة، شعب، عِرق… إلخ”، ولا يُشترط أن يكون الشخص الطبيعي – الذي تتمحور حوله الفكرة- حيًا، أو أن يكون الشخص المعنوي موجودًا بل على العكس من ذلك؛ فقد يكون موت الإنسان (وبالذات استشهاده) سببًا في تقديس أفكاره وجعله معيارًا عليها.
ويُعد المخالف لرأيه فيها أو لمنهجه بشأنها خارجًا على الفكر الصحيح نفسه وكارهًا بل ومحاربًا لهذا الإنسان، أو عكس ذلك كله إذا كان صاحب الفكرة من المغضوب عليهم أو الضالين –في نظر المشخصين- فتُحتقَر أو تُبخَس أفكاره الغث منها والثمين (5).
شخصنة الرأي
يحرص الناس على مناقشة الآراء وتبادلها والوصول إلى أفضل السبل التي تنعم بها البشرية، وساعد على زيادتها شبكات التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحة لمناقشة وتبادل الآراء في مختلف المواضيع سواءً كانت سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو رياضية وغيرها.
لكن ما يلحظ على تلك النقاشات هو خوض بعض المتحدثين في الشخصنة مع الطرف الآخر، وتحديدا التطرق إلى مذهبه، أو شكله، أو لونه، أو تجاربه السابقة؛ ما يؤدي إلى حدوث موجة من الاتهامات الشخصية، وبالتالي يطرأ على ذلك الحديث جانبا من استحواذ شخصنة المواقف والأفكار.
ومن المعروف أن الاختلاف في الرأي طبيعي من أجل إثراء النقاشات، لكن الخطر في التعصب للرأي وشخصنته وعدم احترام آراء الآخرين وتحقيرها وهو مكمن الخطر على الفرد والجماعات والأمم (6).
أسباب شخْصَنة الأمور
يعتقد الذي يفكر في الأمور متبعًا أسلوب الشخصنة – واهمًا- أن أفكاره وأقواله غير خاطئة وأن آراءه في معظمها صائبة، ويعتمد فيها على الحدس وهي ما تبعده عن الحيادية، لذا فمن أسباب هذه الآفة:
- غياب الدليل الملموس وهو ما يعجز المشخصِن عن إيجاده.
- نقص المعلومة، حيث قلة العلم ونقص المعلومة من آفات الكلام دون علم.
- غياب الحجة العقلية القاطعة.
- ضعف القدرة على الحوار.
- الغيرة والحقد وضعف الثقة بالنفس.
- نفاق البعض للمشخصِن حتى يظن أنه على صواب، مصداقًا لحديث النبي – صلى الله عليه وسلم-: “وينطِقُ فيها الرُّويْبِضَةُ. قِيلَ: وما الرُّويْبِضةُ؟ قال: الرجُلُ التّافِهُ يتَكلَّمُ في أمرِ العامةِ] (صحيح الجامع) (7).
مظاهر شَخْصَنة الأمور
الشخصنة لا ترتبط بشخص دون آخر، أو أمة دون غيرها، أو حضارة دون أخرى، بل يعاني منها الناس في العالم أجمع ولكن بنسب متفاوتة، فهذا يتعالى على غيره بمركزه، والغرب وفكرة الرجل الأبيض، فيعتبرون أنفسهم السادة دون غيرهم من الشعوب، واليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار.
إذا، جميع مظاهر وسلوكيات التعصب للرأي والعنصرية والتمييز بسبب اللون أو المذهب أو الدين أو العرق أو الجنس أو الجنسية هي أشكال مختلفة من شخصنة الأمور، ومن أسبابها:
- الجمود والتقيد بالقديم والخوف من محاولة التجديد، والتعصب للآراء والتهيب من مخالفة تلك الآراء.
- الانشغال والانبهار بالأشخاص على حساب الفكرة أو الحكمة، فنظل ندور حول أفكار الشخص وكأنها لا تتبدل ولا تتغير.
- غياب الفكر المؤسسي، بحيث لا تعيش الفكرة إلا إذا عاش صاحبها فقط، وكثير من الدعوات ماتت بموت صاحبها، أو تبعثرت لعدم وجود مؤسسية تعمل على الحفاظ عليها كفقه الإمام الليث بن سعد الذي لم يحفظه أصحابه أو تلاميذه، فقال فيه الإمام الشافعي: “اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ” (8).
سلبيات شخصنة الأمور
لقد أفقدتنا الشخصنة الحجة والمصداقية وأخذتنا إلى طريق التجريح والجدل والتهكم على الآخرين، وترك الشروخ والسلبيات، ومنها:
- تلغي التمحور حول الفكرة والعمل على الارتقاء بها، إلى تبادل التهم والتراشق بالاتهام والتحقير والتشكيك.
- تعمد إلى إهدار الجهود المبذولة من أجل الوصول إلى الفكرة السديدة والعمل الذي ينشده الجميع.
- تؤدي إلى تشرذم الشعوب واندلاع الصراعات والانقسامات فيما بينها، وإلى فرق وشيع.
- تقتل روح الإبداع والابتكار والتفكير والعمل الجماعي والانفتاح على الآخرين.
- تُبعد صاحبها عن الحقائق، وتُعمي بصيرته عن الواقع.
- تطمس الحق وتقوي الباطل؛ لأنها قائمة على أساس الأشخاص وليس على أساس المبادئ السليمة.
- تطيل عمر معركة البحث عن الوعي المجتمعي والفكري، وتحرير الأفكار من قيود الجهل والتخلف.
- في العمل الدعوي يكون بربط الدعوة بشخص الداعية، وعدم الفصل بينهما في المواقف والآراء والأقوال والحركة (9).
معالجة شخصنة القضايا تربويا
الشخصنة داء يتملك كل إنسان أو غيره بشكل من الأشكال، أو في موقف من المواقف، فهو ليس متجذرا، وأسبابه كثيرة ومظاهره، فلينظر كل إنسان إلى نفسه ومتى يصاب بهذا الداء، فلا بد من أن يتعرف إلى سبب ذلك لديه ويعالجه ويبعد عنه، ونضع بعض العلاج العام الذي قد يساعد ومنه:
- تربية الأفراد على التمييز بين الأشخاص والفكرة، بعدم تقديس الأشخاص أو التعصب لآرائهم، فالشافعي يقول: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”.
- تنقية الصدور مما يصيبها من أمراض قلبية كالغيرة والحقد والبغض لغير الله، والانتصار فقط للحق، قال تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[المائدة:8].
- دعم النفس والثقة فيها، لكن دون عجب أو غرور أو كبرياء أو بطر للحق أو غمط الناس.
- تربية النفس على فقه الاختلاف، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، مع الإحسان إلى المخالف وإعذاره.
- الابتعاد عن التعصب لأنه بيت الداء في كل شيء، فالتحيز والتعصب غريزة في الإنسان لا ينتصر عليها إلا قليل، والتعصب يكون نصرة للحق وغضبة لدين الله وحرماته(10).
أخيرًا
إن التغطية على الأفكار، من خلال شخصنة الأمور، يبعد عن الحيادية والاتزان في تقويمها، وهو سلوك مدمر للكثير من الطاقات والحقائق.
وتقويم الأفكار أو الأعمال أو الأحداث، وقبولها أو رفضها، بناء على النظرة إلى أصحابها هو من أبواب الشخصنة التي يجب على المسلم تجنبها.
المصادر والمراجع:
- هاشم التويجر: ما مفهوم الشخصنة؟، 26 مارس 2019،
- أحمد نصار: الفارق بين العبادة والقيادة، 30 أغسطس 2015،
- الشخصنة: 24 نوفمبر 2019،
- فاطمة مشعلة: مفهوم الشخصنة، 11 سبتمبر 2018،
- حازم ماهر: شخصنة الفكرة وفكرة الشخصنة، مجلة الوعي الإسلامي، العدد 523، ربيع الأول 1430هـ، مارس 2009، صـ14.
- عبدالعزيز الراشد: «شخصنة الحوار».. تفرّقنا!، العدد 16851، الأربعاء 17 شوال 1435 هـ – 13 أغسطس 2014م،
- عصمت حوسو: الشخصنة سلوك قزم، 10 أكتوبر 2018،
- حازم ماهر: شخصنة الفكرة وفكرة الشخصنة، مرجع سابق، صـ 15.
- هاشم التويجر: ما مفهوم الشخصنة؟، مرجع سابق.
- حازم ماهر: شخصنة الفكرة وفكرة الشخصنة، مرجع سابق، صـ 18.