إنّ الإسلام دين التّوازن، فلا يمنع المسلم من السهر اليَسير الذي يقيم فيه ليلا أو يصل فيه رحمًا أو يُسامر فيه أهلًا أو يُحادث فيه صاحبًا أو يقضيه بمدارسة ومطالعة أو تفكير بعمل مثمرٍ ومشروع ينفع فيه نفسه أو يخدم فيه وطنه وأمته.
لكن الإسلام يأبى أن ينقضي الوقت في العبث والفوضوية وارتكاب المنكرات واتباع الشهوات، لأن كل ذلك يُؤدّي إهمال الطاعات، وينتج عنه عبث بالأخلاق، وتعطيل مصالح البلاد، وضعف الإنتاجية وقلة العطاء، وسوء التعامل مع الناس.
حكم السهر في الإسلام
واختلف العلماء في حكم السهر والسمر في الإسلام، وساق كل فريق أدلته من القرآن والسنة، فالذي رأى أنه ممنوع وغير مباح استند إلى قول الله تعالى: (فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ) [الأنعام: 96]، وقوله سبحانه وتعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [يونس: 67]، وقوله عز وجل: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) [الفرقان: 47].
وعن أبي برزة- رضي الله عنه- “أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها”. (البخاري ومسلم)، قال ابن رجب- رحمه الله-: “باب ما يكره من السمر بعد العشاء: روى الأعمش ومنصور وأبو حصين عن أبي وائل عن سليمان ابن ربيعة قال: جدب لنا عمر السمر”، ومعنى جدب: عابه وذمه، قاله أبو عبيدة وغيره.
وذكر الإمام مسلم نحوه في كتاب (التمييز) وزاد: أن المغيرة رواه عن أبي وائل عن حذيفة من قوله: وقد رويت كراهة السّمر بعد العشاء عن عمر وحذيفة وعائشة وغيرهم، منهم من علل خشية الامتناع عن قيام الليل، روي ذلك عن عمر، ومنهم من علّل بأن الصلاة ينبغي أن تكون خاتمة الأعمال، فيستحب النوم عقبها حتى ينام على ذكر ولا ينام على لغو.
ومن أسباب النهي والمنع من السمر والسّهر، الخوف من فوات صلاة الفجر، ومخالفة سنة الله في خلقه، والكسل وتضييع المصالح والحقوق، ونوم أول النهار وتضييع بركة البكور، وكراهة أن ينام على لغو، والعطلة وقلة الإنتاج، بالإضافة إلى الآثار الصحية والطبية السلبية.
غير أن بعض العلماء أباح السمر الذي يكون في مصلحة، وذلك لما رواه الترمذي عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ- رضِيَ اللهُ عنه- قال: “كان رسولُ اللهِ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يَسمُرُ مع أبي بَكْرٍ في الأَمْرِ من أَمْرِ المُسلِمينَ وأنا معهما”.
والسّمر مباح لمصلحة سفر أو صلاة، لما ورد عن ابن مسعود: أنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “لا سمر إلا لمصل أو مسافر” (رواه أحمد والترمذي). قال عنه الألباني في السلسلة الصحيحة: حسن صحيح، وله شاهد عن عائشة مرفوعا بلفظ: “لا سمر إلا لثلاثة مصل أو مسافر أو عروس” وإسناده حسن. وذلك أنّ المُسافر يحتاج إلى ما يدفع النوم عنه، ليسير ويقطع الطريق فأبِيح له السّمر، وكذا المُصلّي يحتاجه أحيانا حتى لا ينام ويكمل صلاته، والعروس للأنس والترويح والملاطفة.
والسّهر لعبادة وطاعة مباح، قال الله تعالى: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:6]. وقال: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ) [الإسراء:79]. وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: “كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دَخَل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشدّ المئزر” (متفق عليه).
والسّهر لمدارسة العلم وحفظه مباح، فقد وَرَدَ في الصحيحين عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قَالَ: “كَانَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ في رَمَضَانَ حِيْنَ يَلْقَاهُ جِبْريلُ، وَكَانَ جِبْريلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ” (متفق عليه).
ويُباح السّمر لمؤانسة الضيف أو الأهل، وقد بوّب بهذا البخاري- رحمه الله- في صحيحه، وذكر حديث ضيف أبي بكر، وما وقع له معهم، وما بارك الله في طعامه حتى ربا وكثر. ويدل عليه أيضا ما ثبت في الصحيحين من حديث أُمِّ المُؤْمِنِينَ صَفِيَّةَ بنتِ حُيَيٍّ- رَضيَ اللهُ عَنها-، قالتْ: “كان النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- مُعْتَكِفًا، فَأَتَيْتُهُ أزُورُهُ لَيْلاً، فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِي لِيَقْلِبَنِي… الحديث).
أضرار السهر
ومع أن السهر مباح في بعض الأوقات، فإن له مخاطر مهلكة وعواقب وخيمة، إذا كان مذمومًا أو محرمًا، أبرزها ما يلي:
- ضياع العمر بغير فائدة أو بفائدة لا تذكر: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ” (متفق عليه).
- القلق والاضطراب النفسي: لأنّ الغالب في السهر المذموم، الوقوع في المعاصي والسيئات، كما يشهد بذلك الواقع، وأشار إلى هذا المعنى بعض الحكماء إذ قال: (من الفراغ تكون الصبوة) وتكون النتيجة موت القلب وغفلته.
- الذل والهوان في الدنيا: فالذي يسهر سهرًا مذموما في ما لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة إنما هو واقف في محله، أو يتحرك حركةً بطيئةً، لا تسمن ولا تغني من جوع، في الوقت الذي لا يكف فيه الباطل، ولا يفتر عن العمل لحظة واحدة، ومثل هذا في الغالب لا ينجح لا في الدنيا ولا في الآخرة.
- الحسرة والندامة يوم القيامة: قال الله- سبحانه تعالى-: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) [الزمر: 56].
- ضياع الأجور العظيمة: فالشريعة رتبت على النوم مبكرًا- إلا لسبب معتبر- فضائل كثيرة منها: الوضوء قبل النوم، أذكار النوم، صفة النوم على الشق الأيمن، التهيؤ لقيام الليل، صلاة الفجر جماعة، قراءة الورد من القرآن والأذكار بعد صلاة الفجر، والذي يسهر في الباطل في الغالب يضيع هذه الأجور.
السهر بعد صلاة العشاء ممنوع إلا إذا كان في الأمور النافعة، وأما إذا كان في الأمور التافهة كمتابعة الأفلام والمسلسلات وفي غيرها من الأمور المنكرة فهو محرم. كما أنّ السمر الذي يؤدي إلى ضياع صلاة الفجر محرم لأن ما أدى إلى الحرام فهو حرام، وإذا حصل أن بعض الناس لا يستطيع أن ينام مبكرا ولا بُد له من السّهر فعليه أن ينتفع بوقته في الأمور النافعة، وعليه أن يعمل بالأسباب التي تعينه على أداء صلاة الفجر في وقتها.
مصادر ومراجع:
- ابن قيم الجوزية: زاد المعاد 4/239.
- الطبري: تفسير الطبري 10 /53-54.
- ابن رجب الحنبلي: فتح الباري شرح صحيح البخاري 5/157.
- أبو بكر ابن العربي: أحكام القرآن 3/132.
- النووي: رياض الصالحين 4/246.
- المناوي: فيض القدير 6/288.
- إبراهيم بن محمد الحقيل: سهر الليل.