يُعدّ السلوك الإنساني هو المحور الأساسي للدراسات والعلوم النفسية، التي تسلط الضوء عليه بجميع أشكاله المقبولة وغير المقبولة، ووضع له علم النَّفس تعاريف عديدة منها أنه حالة التفاعل بين الكائن الحي وبيئته وعالمه الخارجي، وفي أغلب الأحيان يَظهر على هيئة استجابات سلوكية مكتسبة عبر التعلّم بالتدريبِ والملاحظة واكتساب الخبرات الحياتية، كما أنه مجموعة استجابات تَصدر عن الفرد تجاه المثيرات البيئية المختلفة.
ويرى البعض أنّ سُلُوك الفرد هو كل ما يصدر عنه من نشاط سواء كان قويًّا يلاحظه الآخرون، أو ضعيفًا لا يلاحظه أحد. وذهب أكثر علماء النفس إلى أنه هو النشاط الإنساني الذي يصدر عن الإنسان من قولٍ أو فعلٍ أو عملٍ، سواء كان إراديًّا أو غير إراديّ، ظاهرًا أو باطنًا.
ويُحاول الباحث الدكتور مصطفى رجب، في دراسة له، إبراز سلوك الشخصية التي تُريدها التربية الإسلامية.
عوامل يتأثر بها السلوك الإنساني في القرآن
بيّنت الدراسات النفسية الحديثة أنّ السلوك الإنساني يتأثر بعاملي الوراثة والبيئة، والقرآن الكريم أورد ذلك لكن لا يراها العامل الحاسم والمطلق، ومما يدل على عدم التأثير المطلق لعاملي الوراثة والبيئة:
قصة نوح عليه السلام مع ابنه الكافر، الذي وصفه القرآن الكريم بأنه ليس من أهل نوح، بل الأحرى أن يُعلن براءته منه، قال تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (هود: من الآية 46)، فلو كان لعامل الوراثة دور حاسم في سُلُوك أي إنسان لكان ابن نوح عليه السلام من الذين آمنوا مع أبيه.
وفي قصة امرأة فرعون المؤمنة التي كانت تعيش في بيئة فاسدة ومنحرفة، لكنها سلكت سلوك الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الجَنَّةِ ونَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وعَمَلِهِ ونَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم: 11)، وهي نموذج عالٍ في التجرّد لله من كل هذه المؤثرات والمعوقات.
ولا يفهم من الآية الكريمة أن يذهب الإنسان إلى البيئة الفاسدة، فالإسلام يحرص على أن يتجنبها الإنسان، بل ويدعوه إلى إصلاحها.
والتفكير أحد العوامل المؤثرة في سُلُوك الإنسان، وهو يكون فيما يعرض للإنسان من أمور في الحياة حتى يحقق الهدف المنشود بعيدًا عن تحكيم الأهواء والعواطف، قال تعالى: {ولَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ والإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ولَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ولَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) فالتفكير له أثر بالغ في سلوك الناس.
أقسام السلوك الإنساني في القرآن
يمكن تقسيم السلوك الإنساني الوارد في القرآن الكريم إلى عدة أقسام، وهذه الأقسام تتداخل مع بعضها، ولا يُمكن فصلها عن بعض، وفيما يأتي أقسام السلوكيات الواردة في القرآن:
- السُّلوك الفطري: وهو المرتبط بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)، فالفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق. والفطرة تخص نوع الإنسان وهي ما خلقه الله عليه جسدًا وعقلًا، فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها، والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية.
- السُّلوك المكتسب: وهي الخبرات والمعارف التي يتعلمها الإنسان بالممارسة بعد مولده، ويدل عليه قول الله تعالى: {واللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} (النحل: من الآية 7).
السُّلُوك الظاهر: وهو الذي يباشره الإنسان ويظهر للآخرين، مثل: الصحة، والحج، والصوم، والجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الأنفال:3)، وقال سبحانه: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآنَ الفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الإسراء: 78).
- السُّلُوك الباطن: وهو الذي يباشره الإنسان ولا يظهر للآخرين، وقد يستدل على آثاره بشكل مباشر أو غير مباشر، مثل سلوك الذكر، والتفكر.
السُّلُوك العقلي: وهو يستند إلى العقل، وهذا ما يميز الإنسان على سائر المخلوقات، لأنه مناط التكليف، والقرآن الكريم حثّ على استخدام العقل، ومن ذلك قوله تعالى: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الحديد: من الآية 17)، وقوله: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3).
- السُّلوك الانفعالي: وهو ناشئ عن المشاعر والأحاسيس والانفعالات، ويمكن ملاحظته وقد لا يلاحظ. ومن ذلك سلوك الخوف عند موسى عليه السلام حين رأى الأفعى وهي تهتز، قال تعالى: {وأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ ولَّى مُدْبِرًا ولَمْ يَعْقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ ولا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} (القصص: 31).
السُّلوك الفردي: وهو يقوم به فرد، ومن ذلك قوله تعالى: {وجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ} (يس: 20).
- السُّلوك الجماعي: وهو سلوك تقوم به جماعة إما في وقت واحد أو أفراد في أوقات مختلفة، ومن ذلك قوله تعالى: {قَالُوا إنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ولَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (يس: 18)، فالآية الكريمة تتحدث عن سلوك أصحاب القرية في مخاطبة الأنبياء وهو سلوك جماعي.
أسباب انحراف السلوكيات
الإنسان مفطور على الإسلام، فهو دين الخير والفضيلة، لكن الإنسان يقبل على الشر والرذيلة أحيانًا، ويكون ذلك بالاكتساب من البيئة التي يعيش فيها، سيّما إذا كانت تتيح له ممارسة سلوكيات منحرفة دون أن تزجره وتنهاه عنها، ومن أسباب انحراف السلوك الإنساني عن الطريق المستقيم كما ورد في القرآن الكريم:
- الابتعاد عن الإيمان الصحيح: إذا ابتعد الإنسان عن العقيدة الإسلامية؛ انحرف سلوكه، وابتعد عن الطريق المستقيم، وإذا صحت العقيدة حسنت العبادة.
- انحراف الفطرة: الفطرة المنحرفة سبب لوقوع مختلف السلوكيات الخاطئة، ومن مظاهر انحراف الفطرة الكفر والشرك بالله تعالى.
- غياب المنهج الإلهي عن الواقع العملي: إن غياب المنهج الرباني عن واقع التطبيق العملي في حياة الأفراد والجماعات، يُؤدي إلى انحراف في سلوك الأفراد وانتشار الفساد، فمنهج الإسلام يُعد ضابطا لسلوك الإنسان، فهو يحوي العقوبات والمعززات ومظاهر السُّلُوك الحسن والقبيح وغيابه يُنذر بسوء عاقبة في الدنيا والآخرة.
- ضعف الإيمان: ومما يثبت أن ضعف الإيمان سبب في انحراف سلوك الإنسان، حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حيث قال: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن” (صحيح البخاري)، لكن من أهم أسباب زيادة الإيمان: العلم؛ فالاستزادة منه سبب في زيادة اليقين والمعرفة، والعمل الصالح يقوى الإيمان، وذكر الله سبحانه وتعالى وتلاوة كلامه وآياته، والنظر في آياته ومعجزاته.
- فساد المرئيات: وهي كل ما يُعرض على التلفزيون والإنترنت من محرمات، والعاصم من ذلك طاعة الله تبارك وتعالى الذي قال في كتابه الكريم: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 30، 31).
حماية السلوك من الانحراف
وتتمثل التدابير الوقائية لحماية وضبط السلوك الإنساني من الانحراف وفق تعاليم التربية الإسلامية، في الآتي:
- بناء الأسرة: التي هي خط الوقاية الأول لحماية سلوك الطفل من الانحراف، وضبطه عن الخطأ، ولا يُمكن أن يتحقق هذا إلا بوعي الوالدين، وتحمل مسؤوليتهما للقيام به.
- تعلم الآداب والالتزام بها: إن الإسلام دين يقوم على الخلق العظيم والأدب الكريم، ويجعل ذلك من صميم رسالته، بل هو قوامها وعنوانها وثمرتها، وكل العبادات في الإسلام تلتقي عند هذه الغاية، فقد حدّد الرسول – صلى الله عليه وسلم- مهمة رسالته في قوله الكريم: “إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق” (السلسلة الصحيحة).
- تنمية الدوافع نحو السلوك الصواب: جاءت التربية الإسلامية بالدعوة إلى التوازن في إشباع الدوافع، فلا إفراط ولا تفريط، فهي دعوة وسط، تنظم الدوافع وتنميها ولا تطلقها، وتحفظها وتسيطر عليها ولا تكبتها.
- المحاسبة: وهي المراقبة الذاتية ومراعاة الضمير الإنساني.
أثر الصيام على سلوك البشر
ويعد الصيام مدرسة كبيرة لتعديل السلوك البشري إلى الأفضل، حيث يعمل على ضبط التصرفات، وإصلاح أخطاء الناس، إضافة إلى عدد من الآثار الإيجابية في النفس، ومنها:
- تعميق المراقبة لله تعالى، في كل الحركات والسكنات، والمراقبة سر من أسرار الإسلام لا تعرفه الأمم ولا تستعمله لضبط سلوك المجتمع والأفراد، وفي حديث جبريل المشهور الذي رواه الشيخان أنه سأل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فقال: “… ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك …” (صحيح البخاري).
- التحكم في الشهوات وتقوية الإرادة، وهذا أمر مهم جاء به الإسلام العظيم، فهذا الدين الجليل لم يجعل الوصول إلى رضا الله تعالى عن طريق الامتناع عن الملذات والشهوات كما زعم أحبار النصارى ورهبانهم، إنما أباح ذلك للمسلم بضوابط، وحثه على التحكم في شهواته، ومرادات نفسه.
- تحرير الروح والسمو بالعبادة، فالصوم يصنع أجواءً روحيةً ونفسيةً تساعد على تغيير النفس البشرية وإصلاحها، وتعبيدها لخالقها.
- زيادة رقة المشاعر وحب الخير لدى الفرد والشعور بحال الفقراء والمساكين، فالمرء مهما كان غنيًّا مترفًا مرفهًا فلا بُد له من الصيام، حتى يذوق آلام الجوع والعطش والامتناع عن سائر الشهوات، وهو عندما يتقلب في مشاعر الحرمان هذه لا بد أنه سيذكر إخوانه المسلمين ومعاناتهم فيرق قلبه لهم.
المصادر
- منى خضر الحبش: كتاب المشكلات التربوية والسلوكية.
- علي السلمي: السلوك الإنساني في الإدارة.
- حسين أحمد عبد الرحمن التهامي، كتاب المدخل إلى دراسة السلوك الإنساني “مقدمة في العلوم السلوكية”.
- فخري الدباغ، كتاب السلوك الإنساني “الحقيقة والخيال“.