فَرَضَ الله – عز وجل – الزكاة على المسلمين في السنة الثانية من الهجرة بعد زَكَاةِ الفِطر، وهي الركن الثالث من أركان الإسلام، الذي لا يكتمل إسلام المرء إلا بها، لما فيها من رحمة وتكافل بين المسلمين، بل تعد الرباط الذي يحكم المجتمع ويجعله متماسكًا، وخاليًا من أحقاد الفقراء وتكبر الأغنياء إذا ما طبقت على النحو الذي بيّنه القرآن والسنة النبوية المطهرة.
وفي عدم الاعتراف بهذا الرّكن الركين إثم كبير، خصوصًا أن الهدف منها هو تطهير صاحبها من الشح وتحريرُه من عُبودية المال، وهما مَرضان خطيران على النفس، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِه فأولئك هُمُ المُفلِحُون} [سورة الحشر: 9]، وقال – صلى الله عليه وسلم -: “تَعِسَ عَبدُ الدِّرهَم، تَعِسَ عبد القَطيفَة..” (البخاري).
مفهوم الزكاة
الزكاة في اللغة تعني النماء والزيادة والبركة والثناء والصلاح، بل والطهارة لأنها تُطهِّر مُخرجها من الآثام، ويُطلق عليها الصدقة لأنها تدُل على صِدق المُسلم في عبوديّته وطاعته لله، وهي المعاني تتمثل في قول الله – جل وعلا – {خُذ مِن أَموالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكّيهِم بِها} [التوبة:103].
والزّكاةُ في الاصطلاح هي القَدر المخصُوص الواجب على المُسلم إِخراجه من مَالِه البالغِ للنِّصاب إلى الجِهات المُستحقَّة بشروطٍ معينة، وفي تعريفها قال الحنفية إنها هي تَمليك جُزء مَالٍ مخصُوص من مَالٍ مخصُوص لشخصٍ مخصُوص عيَّنه الشارع لِوجه الله – تعالى -“.
وقال المالكية عنها إنها إخراجُ جزءٍ من مالٍ مخصُوص بَلغ نِصابا لمُستحقّه إن تمَّ المِلك، وحَول غير مَعدنٍ وحَرث، أمَّا الشافعيّة فعرَّفوها بأنها اسمٌ لِما يُخرج من مالٍ أو بدن على وجهٍ مخصُوص، ثمّ قال الحنابلة إنها حقٌ واجبٌ في مالٍ مخصُوصٍ لطائفةٍ مخصُوصةٍ في وقتٍ مَخصُوصٍ.
بل لا تقتصر على الإسلام، فالدّيانات السماوية الأخرى يوجد فيها ما يُفيد معنى إخراج المال إلى الفقراء وغير القادرين، وهي غالبًا ما تسمى بالصدقة، التي يتقرب بها الإنسان إلى الله، كما أنها باب من أبواب الخير.
الزكاة في القرآن والسنة
دلّت آيات قرآنية كثيرة على فرض الزكاة، حيث جاءت مقترنة في مواضع كثيرة مع الصلاة، قال الله – عز وجل -: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43.
وقال تبارك وتعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكاة} [البقرة:83].
وفي سورة المعارج، ذكر الحق – جل وعلا -: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}.
كما قال – جل وعلا -: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكاة وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ} [البقرة:110].
وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكاة وَأَقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل:20].
وهي من الأعمال الصالحة التي تزيد المؤمن إيمانا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:277].
ونصّت أحاديث نبوية عديدة على فرض الزكاة، فعن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً” (البخاري ومسلم).
وعن ابن عباس – رضي الله عليه وسلم- قال: لما بَعَث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى نحو أهل اليمن قال له: إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس” (البخاري).
وفي التحذير من منع إخرج زكاته، روى عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “إنَّ الذي لا يؤدِّي زكاةَ مالِه يُمثِّلُ اللهُ عزَّ وجلَّ له مالَه يومَ القِيامةِ شُجاعًا أقرَعَ له زَبيبتانِ، ثمَّ يلزَمُه يُطوِّقُه، يقولُ: أنا كَنْزُكَ، أنا كَنْزُكَ” (مسند أحمد).
تحريم منع زكاة المال
جاء في شأن مانع الزكاة الذي يكنز المال ولا ينفقه في سبيل الله، تهديد ووعيد شديد بالعذاب يوم القيامة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 و35].
وكنز المال بخل عاقبته وخيمة يوم القيامة، فقال – عز وجل -: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [آل عمران: 180].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار…” (مسلم).
ولقد حارب أبو بكر مانعي الزكاة بعد وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم -، فعن أبي هريرة قال: لما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم، واستخلف أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: “يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟”، قال أبو بكر: “والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا” قال عمر: “فو الله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق” (البخاري).
تأجيل الزّكَاة
ورغم أهمية إخراج الزكاة وتشديد الإسلام عليها، فقد أجلها الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في عام الرمادة لأنه كان على تماس مع الرعية، ومتفاعلاً معهم يحسُّ تمامًا بمعاناتهم، ويقدر المحنة والبلاء الذي حل بهم.
وانطلاقًا من هذا الفهم فإنه لم يلزم من تجب عليه هذه الفريضة في عام الرمادة بدفع ما عليه على أن يدفعها في العام الذي يليه حصتين – بعد أن تتحسن أوضاعهم برفع البلاء عنهم – حصة توزع على المحتاجين وحصة ترسل إلى بيت مال المسلمين.
ذكر ابن سعد: عن حوشب بن بشر الفزاري عن أبيه قال: “رأيتنا عام الرمادة، وحصت السَّنة أموالنا.. فلم يبعث عمر تلك السنة السُّعاة. فلما كان قابل بعثهم فأخذوا عقالين فقسموا عقالاً وقدموا عليه بعقال. فما وُجد في بني فزارة كلها إلا ستين فريضة. فقُسم ثلاثون وقُدِم عليه بثلاثين. وكان عمر يبعث السُّعاة فيأمرهم أن يأتوا الناس حيث كانوا”.
وقال أيضًا: “إن عمر بعث مصدقًا عام الرمادة فقال: أعط من ابقت له السَّنة غنمًا وراعيًا ولا تعط من أبقت له السَّنة غنمين وراعيين”، وبذلك خفّف عن الفقراء فقرهم، ثم لم يرهق رعيته ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به.
وقد اتخذ ذلك سياسة له يسير عليها في حالة تكرار مثل هذه المواقف في عام مجاعةٍ. وتدل هذه الاجتهادات العمريّة في هذا الجانب على مرونة الشريعة الإسلامية وعدم جمود قواعد الفقه الإسلامي، حتى تسع الناس في كل عصر ومكان.
المصادر
- سعيد حوى: العبادات في الإسلام، ج 5، صـ 2356.
- وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، ج3، صـ 1788.
- عبدالله الطيار: الفقه الميسر، ج2، صـ 11.
- القضايا الفقهية المعاصرة في الزكاة والصيام والحج
- تأجيل الزكاة ووقف حد السرقة عام الرمادة.. تربويات الحاكم الفقيه
- هل يجوز شراء الأجهزة الطبية ومستلزمات المشافي من مال الزكاة؟