إن الرزق الحلال له تأثيرٌ عظيم على القلب وفي تزكية النفس وتربيتها، لذا اقتضت تعاليم الإسلام وجوب طلب الحلال وتحريه على المسلم، كي يسلم وينجو من عذاب الله تعالى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (البقرة: 168).
فكسب الأرزاق وطلب العيش أمر حث عليه الشرع، فالله جعل النهار معاشاً، وجعل للناس فيه سبحاً طويلاً، أمرهم بالسعي والمشي في مناكب الأرض ليأكلوا من رزقه، بل قرن الله – سبحانه – بين المجاهدين في سبيله، وبين الساعين في أرضه يبتغون من فضله لعظمة هذا الخلق، فقال تعالى: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المزمل: 20].
التأصيل الشرعي
لقد اقتضت تعاليم الإسلام والتربية القرآنية على المسلم أن يتحرى طلب الرزق الحلال، وفي القرآن الكريم تعاليم ربانية تحض المسلم (وغير المسلم) على تحري الحلال في مجال الكسب، حتى يستقيم المجتمع، وينجو المسلم من عذاب الله تعالى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] .
وقال تعالى: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 88].
وقال أيضا: {فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [النحل: 114].
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32].
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: [لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خيرٌ من أن يسأل أحدًا فيعطيه أو يمنعه] (رواه البخاري).
وقال صلى الله عليه وسلم: [يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء أمن الحلال أخذ أم من الحرام] (رواه البخاري).
وقال صلى الله عليه وسلم: [يا كعبُ بنَ عُجرةَ إنَّهُ لا يربو لحمٌ نبتَ من سحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أولى بِهِ] (رواه الترمذي).
وقال صلى الله عليه وسلم: [يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟] (رواه مسلم).
والتأصيل الشرعي لهذا الجانب كبير لتداخل آثاره على الفرد والمجتمع مع بعضها البعض.
السلف وتحري الحلال
ذكر الشيخ عبد الله بن ناصر السلمي -عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء قسم الفقه المقارن جامعة محمد بن سعود الإسلامية-: كان سلف هذه الأمة من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم يخافون أشد الخوف من أكل المال الحرام.
يقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه: “إن كنا لنترك تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام”.
وروى البخاري أن غلاماً لأبي بكر الصديق، جاء له بطعام فأكله أبو بكر، حتى إذا استقر شيء مما أكله في بطنه قال الغلام: يا أبا بكر! لم تسألني عن هذا الشيء مما هو؟ فتوقف أبو بكر. فقال الغلام: كنت قد تكهنت لإنسان في الجاهلية، فلقيني في بعض أزقة المدينة فأعطاني الذي ترى، قال: فأدخل أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في فيه فقال الغلام: مه مه أبا بكر؟ حتى خرج كل ما أكل، ثم قال: والله لو لم تخرج إلا بخروج روحي لأخرجتها.
وقد كانت المرأة من سلف هذه الأمة إذا خرج زوجها لطلب الرزق تأخذ بثوبه، وتقول له: يا عبد الله، اتق الله فينا، فوالله إنا لنصبر على الجوع، ولا نصبر على النار(1).
أهمية الكسب الحلال
إن ما عند الله – تعالى – من رزق حلال إنما يطلب بطاعة الله؛ ولا يدرك ما عند الله إلا بطاعته. والذي يأخذ الرشوة أو يأكل الربا أو يظلم الناس، إنما يطلب الكسب بمعصية الله، ومن غير طرقه المشروعة.
فعن حذيفة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال: [إن روح القدس نفث في روعي إنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله عز وجل، فإنه لا يدرك ما عند الله إلا بطاعته] (رواه البزار).
وجاء في الكلم الطيب أن تحري طلب الحلال، واجتناب الحرام، واتقاء الشبهات، في حياة المسلم، أهمية قصوى، حيث يتوقف على ذلك شرعية منهاجه، وسلوكه في الدنيا، ومصيره في الآخرة، ويتجلى مظهر الامتثال لأوامر الله تعالى ورسوله، والانتهاء عما نهى الله تعالى عنه ورسوله(2).
تربية النشء
يجب على الآباء والأمهات تعهد أبنائهم منذ الصغر بغرس معاني الحلال والحرام في نفوسهم، وتحري الحلال في الرزق يحتاج إلى وسائل في التربية والإقناع؛ كتذكير الأبناء بأن لكل شخص ملكان يسجلان ما يقول وما يفعل: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ (ق: 18).
واستخدام المعززات المادية والمعنوية التي يحبها الأبناء في تربيتهم على معاني تحري الحلال والحرام في الرزق، كقول: أحل الله جميع المال ما عدا مال الربا أو مال الرشوة أو مال السرقة، وجميعها إما بها إيذاء للآخرين، أو إيذاء للنفس.
وأيضا غرس معاني أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا رحمة ببني البشر، وحفاظا على صحتهم أو مالهم أو حياتهم(3).
و تأتي أهمية التربية الاقتصادية الإسلامية للنشء كما يذكرها الدكتور المفتي محمود فهد مهيدات -المختص في الاقتصاد والبنوك الإسلامية بجامعة اليرموك وبدائرة الإفتاء العامة بالأردن-:
- إنّها تنمي عند المسلم منذ الصغر الرقابة الذاتية، والخشية من الله تعالى والخوف من المساءلة في الآخرة، وهذا بدوره يجعله يلتزم بالحلال ويبتعد عن الحرام.
- تعمل على تنمية إدراك الأبناء لحقيقة المال وهي: أنّ المال مال الله ونحن مستخلفون فيه.
- تعمل على تنمية إدراك الأبناء لقيمة رأس المال على أنه وسيلة وليس غاية في حد ذاته، فهو وسيلة تحقيق أهداف تربوية أرقى تصل إلى عمارة الكون وإصلاحه وتحقيق استخلاف الله تعالى في هذا المجال.
- إن الطفل اليوم هو رجل أعمال الغد، وهو تاجر المستقبل، وهو العامل والمنتج وهي الأم والزوجة التي تنظم وتتحكم في اقتصاديات البيت مستقبلا. وذلك لابد من إقامة سلوك كل منهما على مبدأ أخذ الحلال وترك الحرام ليستطيع كل منهما عند بلوغه حد المسؤولية أدائها أداءً صحيحا.
- تعمل على إيجاد جيل اقتصادي نافع مكتمل التربية يمكنه من كسب المال واستثماره وإنفاقه ضمن منظومة كاملة من التشريعات الربانية الشاملة.
- تنمي لدى النشء منذ نموه وإدراكه أن ترجيح المصلحة العامة هو الأساس عند تقدير المصالح، حماية لمصالح الآخرين وكفالتهم، ودفع الضرر عنهم، فلا يلجأ الابن مثلا إلى كسب مادي فيه ضرر للمجتمع كاحتكار السلع ونحوها مما فيه ضرر للأفراد والمجتمع(4).
فوائد الرزق الحلال
مما ورد عن لقمان الحكيم في تربيته وغرسه تحري الحلال في نفس ابنه قوله: (يا بنيّ استعن بالكسب الحلال عن الفقر فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب مروءته). هذه التربية التي تستقيم بها النفس، ويتزن بها الصف، ويستقر بها المجتمع.
يقول محمد بن حسن المريخي (دكتوراه في السنة وعلوم الحديث وإمام وخطيب وعضو مجلس إدارة قطر الخيرية): في طلب المكاسب وصلاح الأموال سلامة الدين، وصون العرض، وجمال الوجه، ومقام العز، ومن أعظم ثمار الإيمان: طيب القلب، ونزاهة اليد، وسلامة اللسان، والطيبون للطيبات والطيبات للطيبين.
فطلب الحلال وتحريه أمر واجب، وحتم لازم، [لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟] (صححه الترمذي).
إن أكل الحرام يعمي البصيرة، ويوهن الدين ويضعفه ويقسي القلب، ويظلم الفكر، ويقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
وللمكاسب المحرمة آثارٌ سيئة على الفرد والجماعة؛ تنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث، أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، ومظالم وشحناء(5).
والنموذج التربوي الذي ضربته السيدة المصرية البسيطة التي تدعى أم سيد من بلدة ناهيا بالجيزة عن مدى تحريها الحلال في مأكلها لنموذج تربوي يجب أن يدرس للكبير والصغير، والتي عبرت بعفويتها وحسن تربيتها على الحلال والحرام (أهذا المال من حلال؟ لأني لم أشق به) يمكن رؤية الحوار كاملا على هذا الرابط ().
أخيرا
السعي للكسب أمر مطلوب شرعا، إلا أنّ هناك أُناسا يحرصون على الكسب السريع دون النظر إلى الطريقة، لأنه أصبح هو الغاية والهدف المنشود، وعليه إذا ما تأخر عنهم الرزق حملهم ذلك على طلبه بمعصية الله تعالى، فقد يسرق، يرتشي، يحتال، يُرابي، يغش، يحتكر وكل ذلك سيؤدي إلى فساد وانهيار الأسر والمجتمعات.
وهو ما يستوجب على الدعاة والتربويين العمل على غرس تحري الحلال والحرام في المكسب في نفوس الناس، ورعايتها لذلك ودعمهم بكل السبل حتى يتحقق فيهم العفة وطهارة اليد.
المصادر
- عبد الله بن ناصر السلمي: الرزق الحلال وآثاره،
- الترغيب في طلب الحلال:
- تربية الأبناء على حب الحلال وبغض الحرام: 1 سبتمبر 2020،
- محمود فهد مهيدات: التربية الاقتصادية الإسلامية ودورها في إقامة سلوك النشء على كسب الحلال وترك الحرام وأثره في تكوين الأسرة المسلمة، 13 يوليو 2017،
- محمد بن حسن المريخي: تحري الكسب الحلال، 21 مايو 2017، https://bit.ly/32Ld8A0