تبرز أهمية الدعوة الفردية في قصة عبد الله بن رواحة الذي كان يدعو أبا الدرداء رضي الله عنه إلى الإسلام، وكان أخا له في الجاهلية قبل الإسلام، لكن أبا الدرداء كان متعلقا بصنم له، فرآه عبد الله مرة قد خرج من بيته، فاتجه إلى بيته وسأل زوجته: أين أبو الدرداء؟ فقالت: خرج أخوك آنفا؛ فدخل بيته الذي كان فيه الصنم، ومعه القدوم فأنزله، وجعل يقدده (أي يكسره) وهو يقول: ألا كل ما يُدعى مع الله باطل، ثم خرج، وسمعت المرأة صوت القدوم، وهو يضرب ذلك الصنم فقالت: أهلكتني يا ابن رواحة.. حتى أقبل أبو الدرداء إلى منزله، فدخل فوجد المرأة قاعدة شفقا منه، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك عبد الله بن رواحة دخل علي فصنع ما ترى، فغضب غضبا شديدا، ثم فكر في نفسه فقال: لو كان عند هذا خير لدفع عن نفسه، فانطلق حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه ابن رواحة فأسلم. [المستدرك على الصحيحين (ج3 – ص380)].
إن الدعوة الفردية من أهم مجالات الدعوة إلى الله تعالى؛ حيث تكون العلاقة فيها مباشرة بين الداعي والمدعو؛ فيكون الطريق إلى قلب المدعو فيها أسرع، والتأثير فيه أقوى، وتكون نتيجتها أرجى من الدعوة الجماعية التي تختلط فيها الأنماط البشرية؛ وهو ما يجعل الأسلوب الواحد فيها غير مناسب لكل المدعوين.
وهي من الوسائل الهامة الناجعة في حياة الدعاة والمربين في غرس مفاهيم الإسلام الصحيح عن طريق التعايش والقرب من المدعو، وتعتبر الوسيلة الأولى التي مارسها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في بداية الدعوة.
مفهوم الدعوة الفردية
قال الله تعلى على لسان نوح عليه السلام: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} (نوح: 8-9).
قال ابن كثير: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً أَيْ: جَهْرَةً بَيْنَ النَّاسِ، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ، أَيْ: كَلَامًا ظَاهِرًا بِصَوْتٍ عَالٍ، وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً، أَيْ: فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فنوع عَلَيْهِمُ الدَّعْوَةَ لِتَكُونَ أَنْجَعَ فِيهِمْ.
فالأمة تحتاج إلى القاعدتين؛ قاعدة الدعوة العامة والتي قد تؤثر في بعض الأفراد، وقاعدة الدعوة الفردية والتي يكون تأثيرها أقوى للمعايشة والمتابعة التي تتميز بها عن الدعوة العامة سواء في المؤتمرات أو الندوات، قال الله تعالى: كان أنبياء الله عليهم السلام يسلكون كلا الطريقين في دعوتهم الناس إلى الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: [بلغوا عني ولو آية] (رواه البخاري).
والداعي إلى الله ينبغي أن يكون بصيرا بمن ينفعه هذا النوع، ومن ينفعه النوع الآخر، فمن الناس من يستجيب للدعوة العلنية العامة، ومنهم من تؤثر فيه الدعوة الفردية تأثيرا أكبر. يقول مصطفى ناصري: الدعوة الفردية هي ما يقوم به المسلم من الأنشطة الدعوية بجهوده الذاتية سواء أكانت هذه الأنشطة جاءت مصادفة أم مقصودة، وتتم عبر اللقاءات والاجتماعات وجلسات المجالس ومناقشات الزملاء.
وتتميز الدعوة الفردية بكثرة حدوثها، لأن المسلم لا يخلو من لقاءات يومية، كما تتميز بسهولتها، وإمكان الأخذ والعطاء، وتبادل الآراء فيها مع .
ويقول الدكتور بسام العموش: الدعوة الفردية هي ما كان الخطاب فيها موجهًا إلى شخص واحد.
مهمة الأنبياء
إن الدعوة الفردية كانت حاضرة أيضا في تحركات الأنبياء السابقين عليهم السلام، كما في مثال نوح عليه السلام الذي ذكرناه آنفا، وهذا إبراهيم عليه السلام يمارسها مع أبيه، قد وسطرها القرآن الكريم بين دفتيه بقوله: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا} (مريم: 42).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يعمد إلى محادثة كل فرد في قريش منفردا ومحاولا ترقيق قلبه للإسلام، فقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا الحكم إلى الإيمان بالله ورسوله. بل عمد إلى عمه أبي طالب يدعوه للإيمان به لينقذه من النار.
كما كانت الدعوة الفردية حاضرة في أصحاب الأنبياء رضوان الله عليهم؛ فهذا مصعب بن عمير يوفده النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد العقبة الأولى فيسلم على يديه كلًا من سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة وأسيد بن خضير، سادة الأوس والخزرج بعد دعوته لهم للإسلام.
وهذه أم شريك التي كانت رضي الله عنها تنتقل بين البيوت وتجلس مع النساء تبلغهن دعوة الحق، وتنقل إليهن نور الوحي، وتهديهن طريق النجاة مستخدمة في ذلك الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، فأثرت بأسلوبها في الكثير من النسوة القرشيات فأسلم بعضهن.
وقد اتسمت الدعوة الفردية بالسهولة واليسر، وحماية الداعية من الرياء والسمعة والتفاخر، والنتائج الطيبة فعن سهل بن سعد- رضى الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال لعلي: [فو الله لأن يهديَ اللَّه بك رجلًا واحدا خير لك من حمر النعم] (متفق عليه).
وما بين الأمس واليوم، يجد الناظر إلى واقع جزء من الدعاة إلى الله في واقعنا المعاصر، أنهم في الغالب يقومون بنوع واحد من الدعوة وهي الدعوة الجماعية، والقليل منهم يمارس الدعوة الفردية – رغم حاجة الأمة لها في مثل هذه الظروف التي تعيشها الآن – على رغم أهميتها وفاعليتها وثمارها الطيبة نتيجة التعايش بين الداعي والمدعو والاحتكاك العملي في كثير من حوادث الحياة التي تتجلى فيها الصفات على حقيقتها، كما تتجلى النفس على طبيعتها.
لقد أدى تدافع الأحداث وسرعتها إلى تعليب الدعاة للعمل الجماعي سواء السياسي أو الخدمي، وانصهر كثير من الشباب والدعاة – بل قل انغمسوا – في بوتقة العمل الجماهيري، مما أفرز أفرادًا ظنوا في أنفسهم القيادة الرشيدة وحسن التمثيل للدعوة الإسلامية، حتى إذا كانت المحن ظهروا على حقيقتهم، وخرجت القشور التي تربوا عليها، وبان عدم رسوخ القواعد التي أسسوا على بنيانها.
خصائصها الراسخة
قال الله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33).
وللدعوة الفردية أهمية وخصائص في تربية الأفراد تربية متكاملة، فلا تقتصر على جانب واحد.. يوضح الدكتور السيد نوح بعضا منها:
- فمن خصائصها متابعة الأفراد متابعة دقيقة، فلا تكتفي بإلقاء كلمتك والمُضيّ، وإنما تتعهد السامع باستمرار وتتابعه.
- كما أنها سهلة ميسرة، يقوم بها كل الناس، ولا تحتاج إلى مقومات الدعوة الجماعية مثل: المجهود الذهني، وترتيب الفكرة، وأسلوب الحوار.
- دوامها واستمرارها، لا سيما في أوقات الشدائد وساعات التضييق.
- تكسب صاحبها خبرة وممارسة للدعوة إلى الله التي هي من أوجب الواجبات.
- تدفع من يقوم بها إلى المزيد من التحصيل والزاد، كي يتمكن من حسن الأداء، وتحمله على مجاهدة نفسه حتى يكون أسوة وقدوة للمدعو.
مناقب الداعية
الدعوة إلى الله تتطلب أن تتسق أخلاقيات الداعية بأخلاق الإسلام قولا وفعلا، حيث يتأثر به المدعوون إذا صدق النية وأخلص العمل والتزم الشرع، ولذا وجب على الدعاة أن يتصفوا بـ:
1- الإخلاص: ليكن قيامك بهذا العمل خالصاً لله _عز وجل_.
2- الصلة بالله _تعالى_: بكثرة العبادة من قبل الداعية، والاستعانة به وطلب العون منه والتوفيق والسداد.
3- العلم: فلابد من العلم في الدعوة؛ لتكون على بصيرة، وحتى لا يكون ضررها أكبر من نفعها.
4- الصبر: لابد من الصبر على الأذى والعقبات.
5- الحكمة: بأن تُنزل الأشياء منازلها، فليس من الحكمة أن تريد من المدعو أن ينقلب عن حاله في يوم وليلة.
6- بالأخلاق الفاضلة حتى يكون قوله أقرب إلى القبول: لابد أن يكون صادقاً لا يكذب، متواضعاً بعيداً عن الكبر.
7- أن يكون قدوة صالحة في كل شيء حتى في الأعمال الدنيوية المباحة، فالاجتهاد في الدراسة مطلوب، وينبغي أن تكون قدوة في هذا المجال.
8- الرفق: ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، لابد للداعية أن يرفق بمن يدعوه حتى يتقبل منه الحق.
أثر بالغ
إن المؤهلين للدعوة قد يكونون كثرة بينما القائمون بها قلة، وهو ما يبرز في أخلاقيات العاملين بين صفوف الدعوة بصدق، غير أن أثر الدعوة الفردية كبير على الداعي والمدعو سواء، وله مردود على المجتمع والذي يبدأ بالفرد المسلم وينتهي بالمجتمع المسلم القائم على حدود الله وشرائعه.
- فللدعوة تأثير إيجابي على الداعي نفسه، قبل التأثير على المدعو، سواء من الناحية الدعوية أو الناحية التعبدية.
- ولها أثر عظيم في إعلاء كلمة الله في الأرض وتعريف الناس بحقيقة الإسلام وأخلاقياته عن قرب مما يدفع البعض للتأثر والاقتناع بالإسلام.
- عملت الدعوة إلى الله في الناس كعمل الماء في الأرض الجدباء؛ فبعد أن كانت أرضا مقفرة هجرتها الطيور وماتت فيها الزروع رواها الإيمان فأنبتت وأزهرت كل خير، فتحولت الوحشة فيها إلى أنس، والشدة والغلظة إلى رحمة ورأفة، وما كان في النفس البشرية من خواء تحول إلى عجلة وزحمة في السعي إلى الآخرة.
- كما تساهم الدعوة في تطهير المجتمع من المنكرات والسيئات، بتوجيه الناس نحو التحلي بالفضائل والتخلي من الرذائل.
- ومن آثارها اجتماع الكلمة التي ينتج عنها حصول القوة للمسلمين والانتصار على عدوهم.
- كما أن لها أثرا كبيرا في شيوع التراحم والتناصر في المجتمع.
أخيرا
إن الكلمة التي يلقيها الفرد ولا يلقي لها بالًا ربما ترفع صاحبها وتؤتي أكلها وتنقذ مسلما من النار، والدعوة الفردية لها أثرها في الفرد والمجتمع ولا تحتاج من المسلم لجهد كبير، بل تعتبر زادًا للداعية والمدعو.