لا تقتصر حاجات الصغار على الماديّات من طعام وشراب وكساء، بل تتعدى إلى ما هو أكثر ضرورة، وهو ما يطلق عليه الحوار مع الطفل بهدف التعليم والتربية السليمة، ليستطيع التعايش مع المجتمع بنفسية سليمة، فالحوار يكفل له الحديث مع الطرف الآخر سواء كان الأب أو الأم أو الأخ الأكبر أو المُربّي بطريقة ﻣﺘﻜﺎﻓﺌﺔ، دون أن يستأثر الكبير بالكلام دون استيعاب أفكار ورؤى الصغير.
ومع الأسف، باتت ثقافة الحوار تتقلص تدريجيًّا في بعض الأُسَر التي ترى أن الحوار من الأمور الثانوية، وأنه لا بُد من التركيز على أمور قد تبدو لها أهم بكثيرٍ، مثل الربح المادي للقيام بمسؤوليات البيت، ظنا منها أن الأطفال لا يحتاجون إلا للمال، والمفارقة أننا ننتظر أن ينشأ الأطفال في هذه الأسر على تربية حسنة، لكن التربية – كما هو معلوم- لا تحتاج إلى شخص واحد دون الآخر فهي متوقفة على كلا الأبوين.
الحوار مع الطفل
يرى الباحث حواس محمود، في دراسة له، أنّ الحوار مع الطفل مهارة عقلية وكلامية يحتاج إليها الصغير كحاجته إلى أي من متطلبات النمو العقلي والعاطفي، والحوار أسلوب تربوي ينمي لدى الأطفال قدرات فكرية ولغوية متنامية، فعلى الوالدين والمدرسين تدريب الطفل على آداب الحوار والنقاش جنبًا إلى جنب مع تدريبه على آداب الجلوس والأكل والنوم وما إلى ذلك.
وعلى الأم والأب أن يُراقبا من كثب حديث أبنائهِما فيما بينهم فيُوقفان المستبد بالكلام عند حدّه، ويُعلمان المتدخل فيهم متى يتدخل، ويُطلعان المستمع على ضرورة الإصغاء الكُلّي لما يقول المتكلم.
وكذلك المدرس والمدرسة عليهما أن يُوجها التلاميذ إلى ضرورة الحوار والمشاركة والأسئلة في تقديم المادة الدراسية، في أجواء تسودها الحوارية والتشاركية والتبادلية والتفاعلية بعيدا عن أجواء التلقين السلبي والحفظ الجامد الذي لا يؤدي إلا إلى الجمود والركود واللافاعلية، وهي طريقة في التدريس تقليدية، يجب الخروج منها إلى تطورات العصر بما يتضمنه من الارتقاء بالعملية التعليمية وأجواء التحاور والتبادل والتشارك والتفاعل.
ولا ننسَ عملية الحوار بين الوالدين والطفل، فيطلب من الوالدين التحاور مع الطفل بروح من المرح والابتسامة والتشجيع والدعابة وبث المعلومات المفيدة في عقله وروحه، والابتعاد عن الطرق السلبية في التحاور كالتّعامل معه بأسلوب التّسكيت، والتعامل معه بعبارات من قبيل “فكني”، “بعدين بعدين”، “أنا ماني فاضي لك”، “رح لأبيك”، “رح لأمك”، “خلاص خلاص”.
وقد تلاحظ أن الولد يمد يده حتى يدير وجه أمه إلى جهته كأنه يقول “أمي اسمعيني الله يخليك”، وهذا أسلوب خاطئ في التعامل مع الطفل، يضاف إلى ذلك أسلوب التعامل معه بطريقة التحقيق كأسلوب الشرطة ما يُربك الطفل ويُوقعه في حالة من الخجل وضعف الشخصية، وذلك بإطلاق العبارات من قبيل: أين كنت؟ وماذا عملت؟ ولماذا لم تخبرني؟.. بأسلوب غاضب بعيد عن أجواء اوالعقلي الذي بموجبه يمنح الطفل الثقة بنفسه وقدراته وقيمه وأخلاقه.
الحوار التربوي في الإسلام
لقد جعل الإسلام الحوار مع الطفل ومع الأبناء الركيزةَ الأساسية في التربية، ويتجلى ذلك في موقف النبي إبراهيم – عليه السلام- حينما حاور ابنه إسماعيل في أمر إلهي وهو يعرف أنه قاضيه لا محالة، لأنه وحي يُوحى وليس أمرًا بشريًّا، وإنما أراد بذلك إثبات أهمية الحوار والمناقشة وجعل ابنه إسماعيل – عليه السلام- يفهم لِمَ عليه أن يقوم بما أمر به؟ فقد قال – سبحانه وتعالى- عن إبراهيم وإسماعيل: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الصافات: 102].
وحاور إبراهيم ابنه إسماعيل؛ ففهم منه ما طلب منه وامتثل لأمر والده وقبله لأنه أمر الله تعالى، فكان أن غيّر الله الأضحية بكبش بدل إسماعيل – عليه السلام-، وكان يمكن أن يغير الله وحيه لإبراهيم قبل حتى أن يحاور ابنه، ولكن لله حكمة في ذلك، أولها: أن يرى طاعة نبيه له، وثانيها: أن يُبرز لنا قيمة الحوار والمناقشة وأن لها ثمارًا أبلغ بكثير من العند والعنف- والله أعلم-، فحتى وهو ينوي ذبح ابنه امتثالًا لوحي الله تعالى كان إبراهيم – عليه السلام- رحيمًا في شرحه وقد كان بإمكانه أن يفعل دون أن يستشيره في أمر هو فاعله كيفما كان رده.
وتُؤكد السنة النبوية هذا المعنى التربوي، فحين جاء إلى النبي – صلى الله عليه وسلم- ذلك الشاب الذي يستأذنه في الزنى؛ رد عليه معلم البشرية – صلى الله عليه وسلم-: “ادنه”، وجعل النبي- عليه الصلاة والسلام- يحاوره ويقول له: “أتحبه لأمك؟” قال الفتى: لا والله، جعلني الله فداك. قال: “ولا الناس يحبونه لأمهاتهم. قال: أفتحبه لابنتك؟” قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: “ولا الناس يحبونه لبناتهم”، قال: “أفتحبه لأختك؟” قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: “ولا الناس يحبونه لأخواتهم”، قال: أتحبه لعمتك؟، قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: “ولا الناس يحبونه لعماتهم”، قال: أتحبه لخالتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداك، قال: “ولا الناس يحبونه لخالاتهم”، قال: فوضع يده عليه وقال: “اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه”، قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء. فاعتمد النبي صلى الله عليه وسلم على أسلوب الإقناع والحوار في معالجة مشكلة الشاب.
أسس الحوار مع الطفل
اعتمدت الدكتورة إلهام عبد الحميد – أستاذ المناهج وطرق التدريس- بعض الأسس التي تُحقق الحوار الجيد، ومنها:
- المناقشة: يستند الحوار الجيد إلى فكرة المناقشة التي تعني رفض الجمود عند حالة واحدة أو طرف واحد، بل تعني التحرك من حالة إلى حالة ومن طرف إلى طرف.
- الحرية: لا يتحول الحوار إلى حوار حقيقي دون إعطاء كل طرف حق الحوار والتعبير عن رأيه واحترام الرأي الآخر، وأن يتخلص الإنسان من مخاوفه، فإذا شعر الإنسان بحرية أمكنه أن يطلق العنان لتنمية قدراته وتفجير طاقته الإبداعية.
- النضج العقلي والانفعالي: لا يُمكن أن يتحول الحوار إلى مسألة ذات أهمية إن لم يستند إلى عقلية مدركة واعية ومرنة وغير متعصبة لأفكار سابقة، ويجب أن يكون لدى المتحاورين سعة أفق ورحابة صدر، ومعلومات كافية عن الموضوع المطروح للحوار.
- الواقعية والموضوعية: من أهم سمات الحوار الجيد التفكير العلمي والرؤية الموضوعية، والقدرة على ربط الأسباب بالمسببات، والابتعاد عن العواطف والمشاعر والانفعالات، والقدرة على النقد الموضوعي البناء.
- التواضع والحب والألفة: إن الحوار الجيد يتطلب الحب والتواضع والألفة، فلا يُمكن لأي حوار – مهما كان ساخنًا- أن يؤدي إلى جو من اليأس أو عدم احترام الآخر أو عدم الثقة بقدرة الإنسان على الابتكار، فالخصومة الفكرية لا تعني الكراهية أو عدم احترام الآخر، لذلك فإن الحوار الجيد ينبغي أن يُولد وينمو ويتطور في ظل مناخ يحترم آراء الجميع ولا يسخر منها، ويحافظ على جو من الهدوء والبعد عن العنف والافتعال والمجاملة والأساليب الإنشائية الطنانة.
- التسامح الفكري: الثقة بالتسامح الفكري ترتبط بشكل أساسي بالثقة بالمساواة بين البشر، وبحق كل إنسان مهما اختلف لونه أو جنسيته أو ديانته في الحرية والعدل، وبذلك يصبح التسامح واجبًا أخلاقيًّا.
أهداف الحوار بين الآباء والأبناء
إذا كان الحوار أمرًا فطريًّا عفويًّا لصيق الصلة بالإنسان، منذ لحظة وجوده، وهو أمر طبيعي داخل نطاق الأسرة بين الوالدين والأطفال، فإن الفوائد التربوية التي يمكن تحقيقها من خلال الحوار مع الطفل من الأهمية بحيث يجب أن يتنبه الوالدان للغايات المرجوة منها، وعلى رأسها:
- إقامة علاقة قوية عميقة مع الطفل وهو أمر ليس بالهيّن، لأنه يُعد القاعدة الأساسية للبناء، حيث يترتب على عمق هذه العلاقة مدى استجابة الطفل للتوجيهات أو التحذيرات، لذلك لا تندهش عندما يستجيب أحد الأطفال لوالديه ببساطة، بينما لا يبدو على طفل آخر أي بوادر استجابة أو حتى اهتمام بما يقوله والداه، فوراء الطفل الأول علاقة عميقة كان أساسها الحوار، بينما يقف وراء فتور الطفل الآخر علاقة يشوبها الإهمال والجفاف وضعف الحوار.
- وسيلة للتوجيه: فمن خلال الحوار مع الطفل نستطيع توجيهه لما هو مطلوب منه، في أمر دينه ودنياه، فمثلا عندما يحين موعد عيد الأضحى تسأل الأم ابنها: هل تعرف لماذا اشترى والدك هذا الكبش؟ فتنبه الطفل عن طريق السؤال، وقد تتلقى الأم إجابة ما، أو يجيبها بالنفي، فتكون لديها الفرصة لشرح الأمر، وقد يسألها الطفل أو يستزيدها، كي يعرف أكثر عن قصة الذبيح، وفي نهاية الحوار ستقوم الأم الذكية باستخلاص أهم الدروس، وتجعل الطفل يشاركها في استخلاص هذه الدروس، وينزلها على واقعه.
- إزالة الشبهات والمشكلات: قد يعاني الطفل من شبهة ما، وبخاصة في البلاد التي يسكنها أغلبية من غير المسلمين، أو قد يعاني من مشكلات في المدرسة، أو مع جماعة الرفاق، وقد تُسبب هذه الشبهات أو المشكلات أزمة نفسية شديدة عند الطفل، فإذا كانت تقنية الحوار مفعلة، فلن يكون هناك مشكلة، وسيطرح شبهته أو مشكلته ببساطة على طاولة الحوار.
- فض الشجار: من أهم المشكلات التي يعاني منها الوالدان كثرة الشجار بين الأبناء، بحيث يتحول جو البيت الهادئ إلى صراخ وصياح، وكل منهم يلقي بالسبب على الآخر.. هنا تعمل تقنية الحوار كفتيل لحل الأزمة، عن طريق إجراء حوار فوري مع الجميع، يوضح فيه كل طرف وجهة نظره، ويلتزم بآداب الحوار، وأهمها الاستماع للطرف الآخر وعدم مقاطعته، ثم منح كل منهم فرصة للتعقيب، حتى يتم الوصول لوجهة نظر مقبولة، وأهم درس يتعلمه الأبناء أن الحوار وسيلة فعالة لتحقيق الأهداف، وليس الشجار.
عقبات تمنع إجراء حوار صحي مع الأبناء
العقبة الأولى: هي آفة العصر الحديث، ألا وهي انشغال الوالدين في العمل والحياة العامة، وبالتالي لا يمتلكان الطاقة النفسية لإجراء حوار بنّاء مع الأبناء.
العقبة الثانية: هي الجهل بمنهجية الحوار البناء، فالكثير من الآباء يستعيرون نمط التربية الذي عايشوه بحلوه ومره، وفي كثير من الأوقات ما يكون التسلط وإصدار الأوامر الفوقية، وعدم الرغبة في الحوار واعتباره أمرا عبثيا، وإهدارًا للوقت هي مكونات أساسية بارزة في هذه التربية التي كانت سببا وربما نتيجة لحالة التردي الحضاري الذي عايشته أمتنا، وربما لا تزال تعايشه على نحو ما.
العقبة الثالثة: هي لغة الحوار الباردة التي تخلو من العواطف الدافئة والتعاطف الصادق مع من يقوله الأبناء، ففي كثير من الأحيان يكون الابن بحاجة لمن يُقدر مشاعره، أكثر ممن يحل مشاكله بأفكار منطقية، ذلك لأن في أعماق الأطفال الصغار عموما حاجة ملحة إلى أن يكونوا محل حب الآخرين وعطفهم، وهذا ما يتغذون عليه نفسيًّا بهذه المحبة التي يجب أن ينعموا بها من أمهاتهم وآبائهم على السواء.
أصول الحوار
إن الحوار مع الطفل أو مع أي شخص له أصولٌ يجب أن يضعها المحاور في كينونة نفسه وقت أن يقدم على التفاوض والتحاور، ومنها:
- أن يكون الحوار مبتغاه وجه الله سبحانه وإظهار الحق وبريئًا من التعصب.
- لابد للمحاور أن يكون عالمًا بالمسألة التي يريد أن يحاور فيها، والتسلح بالحجج والبراهين المؤيدة له.
- العدل والإنصاف، يجب على المحاور أن يكون منصفا، وأن يُبدي إعجابه بالأفكار الصحيحة والأدلة الجيدة والمعلومات الجديدة التي يوردها محاوره.
- الحوار الإيجابي الصحي هو الحوار الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت، ويرى العقبات ويرى – أيضًا- إمكانيات التغلب عليها، وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها وهو الحوار المتكافئ الذي يعطي لكلا الطرفين فرصة التعبير.
المصادر:
- العراقي: تخريج الإحياء، 2/411.
- سلمان خلف الله، الحوار وبناء شخصية الطفل.
- بدر حسين، الحوار مع الطفل.