فرض الله- عز وجل- الحج إلى بيته الحرام لمَن استطاع إليه سبيلا، لِمَا له من آثار على النفس، فهو باب للتزود بالتقوى والتوبة والرجوع إلى الله، ومراقبته في كل الأحوال، والتربية على ذكر الله في جميع الأوقات، والتعوّد على تمثّل الأخلاق الحسنة، والصبر والتحمل والثبات في مواجهة الشدائد، والإيثار والتضحية والإحسان إلى المسلمين، والتواضع والانكسار بين يدي الله، والمسابقة إلى فعل الخير.
قال الله عز وجل: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا…﴾ [آل عمران: 97]، وفي الصحيحين: “بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا”، (متفق عليه)، ومَنْ تأمل مناسك هذه الشعيرة وَجَدَها في جملتها تُربي في المسلم مكارم الأخلاق وجلائل الخصال، وتعمّق فيه نوازع البر والتقوى وتزرع فيه وازع الدِّين.
دروس تربوية من الحج في الإسلام
هناك دروس وعبر مستفادة من شعيرة الحج في الإسلام، فهو الركن الخامس وتجتمع فيه مختلف العبادات البدنية والمالية، فيَحج الحاج بنفسه ويؤدي العبادة من طواف وسعي ووقوف بعرفة ومبيت بمزدلفة ورمي للجِمار وغير ذلك، ويدفع الحاج ماله من أجل ذلك كما يدفعه لذبح الهدي إن كان متمتعا أو قارنا، وقد استخرج الدكتور نهار العتيبي، أبرز هذه الدروس والعبر فيما يلي:
- تحقيق تقوى الله عز وجل بتوحيده: فالمسلم بأدائه هذا الركن العظيم يحقق التقوى التي أمره الله تعالى بالتزود منها بعدما نهى عباده عن فعل المعاصي والآثام وأمرهم باجتِناب الرفث والفسوق والجدال في الحج فقال سبحانه وتعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197).
- يحقق وحدة المسلمين وقوتهم: فإن الحجاج إلى بيت الله الحرام تختلف بلدانهم ولغاتهم وألوانهم لكن يجمعهم شيء واحد هو الإسلام، وهذا يغيظ الشيطان.
- يبرز الأخوة الإسلامية: فإن الأخوة بين المسلمين تبرز بشكل واضح في الحج وتختفي الفوارق بينهم ويرى بشكل واضح التعاون والتآلف والمحبة في أروع صورها، يقول صلى الله عليه وسلم-: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر” (رواه مسلم).
- الإحرام يذكر بالكفن: فإنه كما هو معلوم يُحرم الرجل المسلم في إزار ورداء ويسن أن يكونا أبيضين ويجب عليه قبل الإحرام أن يخلع المخيط فلا يلبس إلا هذا الرداء وذلك الإزار ويستحب له الاغتسال والتطيب في بدنه قبل لبس ملابس الإحرام.
- يذكر بيوم القيامة: فإن مسير الحجاج من مِنى إلى عرفات ومن عرفات إلى مزدلفة ثم إلى منى وهم يسيرون في وقت واحد وفي اتجاه واحد يذكر المسلم بيوم القيامة، فلقد شبه الله تعالى مسير الناس يوم القيامة بأنهم كأنهم يسيرون إلى علم أو راية، فقال سبحانه: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۚ ذَٰلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [سورة المعارج: 43-44].
- التأكيد على مخالفة المشركين: لم يقتصر أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على تحقيق التوحيد في التلبية فقط بل تعدى إلى الأمر بمخالفة المشركين فيما كانوا يفعلونه عند حجهم. فلقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تلبية المشركين بما كانوا يزيدونه في التلبية بقولهم: “لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك”. وخالفهم عليه الصلاة والسلام في عدة مواضع منها أنه تجاوز الوقوف بمزدلفة ووقف في عرفات مع الناس بأمر من ربه عز وجل، قالت عائشة رضي الله عنها: “كانَت قريشٌ ومن دانَ دينَها يقِفونَ بالمزدلفةِ وَكانوا يسمَّونَ الحُمسَ وَكانَ سائرُ العربِ يقِفونَ بعرفةَ قالت: فلمَّا جاءَ الإسلامُ أمرَ اللَّهُ تعالى نبيَّهُ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ أن يأتيَ عرفاتٍ فيقفَ بِها، ثمَّ يُفيضُ منْها فذلِكَ قولُهُ تعالى: {ثُمَّ أَفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [ سورة البقرة: 199].
- يعلم الصبر على طاعة الله: لكي يؤدي الحاج حجه فإنه يعرض له الكثير من المشقة والتعب ويواجهه الكثير من الزحام والبقاء مدة طويلة في الانتظار وهذا يعودّه على الصبر على طاعة الله عز وجل الذي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
- يعوّد المسلم على الدعاء: فإن الله قريب يجيب دعاء السائلين ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن فضل الله تعالى كبير وأنه سبحانه وتعالى يستجيب دعاء السائلين ويعتق عباده في يوم عرفة أكثر مما يعتقهم فيما سواه من الأيام فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: “ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: ما أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟” (رواه مسلم).
- يكفر الذنوب ويوجب دخول الجنة: يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: “تابِعوا بينَ الحجِّ والعمرة، فإنَّ متابعةً بينهما تنفي الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ” (رواه ابن ماجة).
الاستفادة من شعيرة الحج في تربية الأبناء
يرتبط عيد الأضحى المبارك، ونسك الحج والنحر، بأبي الأنبياء إبراهيم الخليل وآله صلى الله عليهم وبارك، لذا فإن سرد قصصهم بطريقة مؤثرة وشيقة مليئة بالمعلومات والعاطفة الصادقة في هذه الأيام الطيبة يربط لدى الطفل بين المعاني الإيمانية في قصصهم وبين هذه الشعيرة والنحر والعيد وأيام العشر، فتكون أشد تأثيرًا في فؤاده.
وهناك وسائل مختلفة وطرق عديدة لإيصال هذه المعاني للأطفال، مثل:
- الحديث والقصة المباشرة.
- أو إهداء الطفل مجموعات قصصية.
- مشاهدة أفلام كارتونية أو برامج إلكترونية عن الشعيرة.
- حديث الأبوين مع الصغار وسرد القصة بتأثر.
- اجتماع الأسرة في لقاء يومي جذاب للقصة والمسابقة.
- التركيز على يقين إبراهيم، عبر قصة الذبح، وكيف أنه عليه السلام صدّق الرؤيا ولم يوهن الشيطان عزمه وتصديقه، ومضى إلى أمر ربه لم يتطرق له الشك، وعن طريق القصة نربط الرجم في الحجّ بيقين إبراهيم وقوته في الحق.
- تعرض المربي لمسيرة إبراهيم عليه السلام حتى وصوله إلى اليقين وسلامة القلب، كقصة إيمانه واهتدائه، ومُحَاجَّتِهِ لقومه، وكيف نجّاه الله من النار، وقصته مع الطير وكيف أحياها الله له ليطمئن قلبه.
- تسليم إسماعيل: يصور المربي في قصته للطفل كيف أن إسماعيل عليه السلام كان صغير السن، إلا أن قلبه كان مليئًا بحب الله والتسليم له، فهو نموذج للطفل المسلم المستسلم لربه، والذي استحق أن يفديه الله جل في علاه، ويبقى ذكره وذكر إيمانه حتى قيام الساعة.
- توكل هاجر: وهو من المعاني العظيمة التي ترتبط بمكة المكرمة والصفا والمروة ومناسك العمرة والحجّ، فارتباط الطفل بقصة هاجر عليها السلام وصدق توكلها يقوي لدى الطفل الثقة بالله وحسن عاقبة المتوكل، فهذه بئر زمزم لم تزل ينبوعًا صافيًا، طعام طعم، وشفاء سقم، إكرامًا لهذه السيدة العظيمة.
- ويمكن الاستفادة من تجربة حجّ المحاكاة، حيث ابتكرت العديد من المدارس ودور التربية طريقة وطبقتها لتعليم الأطفال مناسك الحجّ وغرس هذه العبادة العظيمة في نفوسهم، من خلال تمثيل هذه الشعيرة بشكل عملي. لكن يُراعى في تعليم الطفل الحجّ عبر المحاكاة، تهيئته نفسيا وروحيا قبل البدء في تقليد المناسك، بالحديث عن فضل الشعيرة ومكانتها في الإسلام. وتوفير ملابس إحرام للأطفال أو على الأقل ملابس بيضاء لما في ذلك من إضفاء جو روحاني تعبدي، وعمل المجسمات المناسبة للمناسك.
تربية الضمير
كل المناسك في الإسلام لها مستهدفات تربوية عامة وخاصة، والحج أيضا كما كل المناسك، دوره واضح في تربية الضمير والوجدان، في الذكر والدعاء والتضرع إلى الله تعالى بصدق وإخلاص، وفي التلبية التي يجار بها العبد في مناسكه، كل هذا وسيلة من وسائل تربية الوجدان وإعلاء قيمته وهو يصقل النفس ويزكيها، بما فيه من إظهار العبودية لله تعالى وصدق اللجوء إليه.
كما أن فيه رقابة ذاتية صارمة على المخالفات؛ فعندما يدخل المسلم في مناسك الحجّ ويشعر أنه في عبادة لله، يفرض على نفسه رقابة سلوكية صارمة، تحاسبه أشد الحساب على كل مخالفة تصدر منه كبيرة كانت هذه المخالفة أو صغيرة يسيرة.
وفي الطواف وسيلة لتربية الضمير؛ فإذا نظرت إلى سائر المناسك وجدتها أيضا وسيلة قوية لتربية هذه الرقابة الذاتية للضمير، فالحاج يطوف حول الكعبة، ويطوف حولها نسوة وقد يكون في الطواف شيء من الزحام مما قد يقع فيه البصر على ما لا يجوز إليه من النساء الأجنبيات، وقد لا يكون هناك رقابة خارجية صارمة تضبط كل مخالفة من كل واحد من هذه الألوف من الطائفين حول البيت؛ ومع هذا كله لم يحرم الإسلام طواف الرجال والنساء في وقت واحد، أو لم يجعل لهن مطافا خاصا.. ولعل في هذا أكثر الأثر في تربية الضمير.
لا ضرر ولا ضرار
ونظرية الضرر في الشريعة الإسلامية بناء مُحكم، وعمل منظم، وطرق عملية تعمل كلها وفق منظومة متكاملة لرفع الضرر.
وإن كان الله- تعالى- حرم علينا الضرر بصفة عامة فهو في باب العبادات أوجب، لأن الله لا يتقرب إليه بالمعاصي، ولكن بالطاعات حتى تكون مقبولة عنده سبحانه وتعالى، ويمكننا ذكر بعض الأمثلة التي تقع أثناء فريضة الحج إلى بيت الله، أو قبلها وبعدها:
أولا: الحصول على التأشيرات عن طريق الرشوة وأخذ حقوق الناس، فكثير من الناس تدفعهم الرغبة في أداء الفريضة، أو تكرار الحجّ والعمرة إلى الحصول على التأشيرات بغير وجه حق، وينسى هذا المسكين قول الله تعالى: {يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
ثانيا: التدافع والتزاحم عند أداء الفريضة، وهذا يكون الدافع له أيضا الحرص الزائد، وعدم الفقه بأحكام الحج، وعدم ترتيب الأولويات، وفهم الرخص التي شرعها له رحمة بعبادة.
ثالثا: في ظل ما نسمعه عن انتشار الأمراض المعدية كإنفلونزا الخنازير وغيرها، فعلى المسلم أن يأخذ بكل الأسباب التي تمنع من الإصابة بالمرض أو نقله للغير، ومن تعاليم الإسلام أنه حثنا على عدم إلقاء النفس للتهلكة، ومنها نعلم أن الوقاية خير من العلاج، وكما تقول الحكمة الصائبة: “درهم وقاية خير من قنطار علاج”.
رابعا: بعض المسلمين لا يعتني بموضوع النظافة، فيلقي بالمهملات في أي مكان، ويأكل ويشرب بالطريقة التي تؤذي الآخرين، ويلوث أماكن الوضوء وقضاء الحاجة، والإسلام الحنيف يدعو إلى الطهارة ويحث عليها.
خامسا: قد يسوء خلق بعض الناس خاصة في الزحام الشديد، ونتيجة للتعب أثناء مناسك الحج، فيؤذي المسلمين حتى صَحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما بُعثتُ لأتممَ صَالِحَ الأخلاقِ).
فضائل الحجّ وجوائزه
وفضائل الحج عديدة للمسلم، منها:
- أنه من أفضل وأشرف الأعمال في الإسلام وله العديد من المنافع.
- شهود المنافع الدنيوية والأخروية التي ذكرها الله: {لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ …}.
- تكفير الذنوب.
- الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
- رواج أنواع التجارات المتعلقة بالحجّ.
- يستفيد الفقراء بلحوم الأضاحي والصدقات.
- تنمية شعور الحجاج بالانتماء إلى الأمة الإسلامية.
- تحقيق مبدأ الأخوة الإيمانية والوحدة الإسلامية.
- يسقط عن المسلم السؤال والحساب يوم القيامة عن هذه الفريضة الواجبة.
- يحوي بداخله جميع العبادات كالصيام والصلاة والزكاة وترديد الشهادة.
- يباهي الله سبحانه ملائكته بعباده الحجاج.
لقد شرع الله- سبحانه وتعالى- الحج إلى بيته الحرام لمَن استطاع إليه سبيلا، وفيه تتربى النفوس على الإيمان وتنغرس فيها العقيدة السليمة، فهي شعيرة تمثل مدرسة كبيرة لتعليم الأخلاق وتهذيب النفس وتعويدها على التضحية والصبر طاعة لله وامتثالا لأوامره.