يميل الجدال في كثيرٍ من الأحيان إلى الخصومة في الكلام، ويحرص كل واحد من المتجادلين على غلبة خصمه وإفحامه وإلزامه الحجة وبيان خطئه، ونتيجة لهذا فإنّ من المألوف أن يقع خلال الجَدَل بعض الظُلم والادعاء والكذب والتطاول واستخفاف أحد المتجادلين بالآخر، لذا وجهنا المولى- سبحانه وتعالى- إلى أن نُجادل المجادلة المقيدة بالأدب الإسلامي الرفيع.
والجدل غير المحمود من فضول الكلام الذي يُعاب عليه صاحبه، والذي يدعو إلى التشفّي من الآخرين، ويُذكّي العداوة، ويُورّث الشقاق بين أفراد المجتمع، ويقود صاحبه إلى الكذب، بينما تركه يُساعد على الشعور بالهدوء والسكينة، والتركيز على الأمور المهمة في الحياة، وتحصيل الأجر الجزيل.
مفهوم الجدال
وتدور كلمة الجدال في اللغة حول استحكام الشيء وانتظامه؛ ومنه: جدلت البناء: أحكمته، ودرع مجدولة: المحكمة العمل، وامتداد الخصومة، واللدد فيها، مع القدرة عليها، والمفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، والصرعة والقوة والشدة، يقال: جدل الغلام يجدل جدولًا يعنى اشتدّ، ومنه إسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة.
وفي الاصطلاح عرّفه العلماء بعدة تعريفات منها: “المراء الذي يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها”، و”التخاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب”، و”هو القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات لإلزام الخصم غالبًا، وإظهار صحة المذهب وسلامته”.
وهو “مقابلة الحجة بالحجة؛ فإن كان في الوقوف على الحق كان محمودًا، وإن كان في مدافعة الحق كان مذمومًا”، و”إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة، أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة”.
أنواع الجدال في القرآن والسنة
والمتأمل لآيات القرآن الكريم المتعلقة بموضوع الجدال والمماراة يجد أنّها تدور حول نوعين، الأول محمود، ويقصد به إظهار الحق وتأييده بالأدلة والبراهين، والدعوة إليه بالحسنى، واستكشاف الأحوال، والعلم بالأمور المجهولة، وتعليم الآخرين العلم، أو تبيين الباطل ودحضه والتحذير منه. قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18].
وقدّم الأنبياء نماذج رائعة في الجِدَال الإيجابي؛ لبيان الحق، ودعوة الناس إليه، ودحض ما عليه أهل الباطل والإلحاد، سالكين أفضل السبل في تحقيق ذلك. قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة:258].
والجدل المحمود يعني القوة في قول الحق، والجرأة في نقض الباطل، بغض النظر عن طبيعة المخالفين ومكانتهم، قال- عز وجل-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الأنبياء: 51-54].
وجدل الأنبياء يحمل في طياته معاني المحبة والمودة والسماحة، يقول الله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) [هود: 25-28].
وخلاف هذه الصورة، فهناك جدال مذموم ومنه جادل أهل الكفر والضلال في الإيمان والتوحيد؛ فنجدهم ينكرون وجوب التعبد لله- عز وجل- أو يعبدون آلهة من دون الله بلا سلطان ولا دليل، ويطلبون منها الظفر والنصر، أو يتخذونها واسطة للتقرب إلى الله. قال تبارك وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ) [الحج: 8].
ويُبيّن القرآن أنّ من أهم الأسباب المؤدية بصاحبها إلى المجادلة في الله- عز وجل- اتباع الهوى؛ والناس في ذلك صنفان: من يتبع هواه على علم، قال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية: 23]. ومنهم من يتبع هواه بغير علم، قال تعالى: (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) [الروم: 29].
وصرح القرآن الكريم بأن الإنسان بطبعه مجادل برغم وجود الحجج والبراهين الدامغة والآيات الساطعة والأمثلة المتعددة، قال تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف:54].
وهذه الآفة قلَّ من يسلم منها، فهي دأب كثير من الناس في أحاديثهم ومجالسهم ومنتدياتهم، لذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: “ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”. ثم تلا قوله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) [الزخرف:58]. (ابن ماجة وحسنه الألباني).
وهذا النوع من الناس لا يحبه الله تعالى، قال- صلى الله عليه وسلم-: “إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الْخَصِم” (البخاري). وهذا الصنف الذي يُجادل بالباطل يعرض نفسه لسخط الجبار جل وعلا: “ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع” (أبو داود وصححه الألباني).
ولأنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- يعلم أنّ ترك هذا النوع من الجدال شاق على النّفوس التي اعتادته فقد بشّر من تركه بهذه البشارة العظيمة: “أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا” (أبو داود وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة).
والجدل يُفوّت على النّاس الخير، فعن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: خرج النبي- صلى الله عليه وسلم- ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى “تخاصم وتنازع وتشاتم” رجلان من المسلمين فقال: “خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرًا، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة” (البخاري).
ومن أقبح صوره الجِدَال والمراء لانتزاع حقوق الناس واغتصابها، قال النبي- صلى الله عليه وسلم- محذرا من هذا ومتوعدا أهله: “إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار” (رواه البخاري).
ولأن الجدال بالباطل أو بغير دليل يؤدي إلى مفاسد فقد رأينا صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يجتنبونه، فعن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- قال: “لا تمار أخاك فإنّ المراء لا تفهم حكمته، ولا تؤمن غائلته” .
وعن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: “من استحقاق حقيقة الإيمان ترك المراء والمرء صادق”، وقال أبو الدرداء: “كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً”.
وقال ابن عمر- رضي الله عنهما-: “ولن يصيب رجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو يعلم أنه صادق ويترك الكذب في المزاحة”.
وروي عن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- أنه قال: “إذا أحببت رجلا فلا تمارِه- أي: لا تجادله- ولا تشارِه- أي: لا توقع به شرا- ولا تسأل عنه أحدا فعسى أن توافي له عدوا فيخبرك بما ليس فيه فيفرق ما بينك وبينه”. وقال مالك بن أنس: “المراء يقسّي القلوب، ويورث الضّغائن”.
فضل ترك الجدل
- وعلى الرغم من أن الجدال المحمود مباح، فإن تركه أولى وأفضل، فعن أبي أمامة الباهلي، عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، قال: “أنا زعيمٌ ببيتِ في رَبَضِ الجنةِ (أي نواحِيها وأطرافِها) لمَن تَرَكَ المِراءَ وإن كان مُحِقًّا، وببيتِ في وسطِ الجنةِ لمَن تركَ الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنةِ لمَن حَسُنَ خُلُقُه” (صحيح أبي داود).
- وترك الجدل والمراء يحافظ على الود والصداقة: قال محمد بن حسين بن علي: الخصومة تمحق الدين وتنبت الشحناء في صدور الرجال. وقيل لعبد الله بن الحسن بن الحسين: ما تقوله في المراء؟ قال: يفسد الصداقة القديمة، ويحل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن يكون دريئة للمغالبة، والمغالبة أمتن أسباب القطيعة.
- ومن يترك الجدل يحافظ على لين قلبه، لأن المراء يقسي القلب كما يقول الشافعي: المراء في الدين يقسِّي القلب ويورث الضغائن.
- والذي يترك المراء يجني الخير وينتفع بالطاعات، لذا نهى الله عنه، فقال: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) [البقرة:197].
- ومن فوائد ترك المراء، القرب من النبي- صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، روى جابر بن عبدالله- عن النبي- صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا، وإنَّ مِن أبغضِكُم إليَّ وأبعدِكُم منِّي يومَ القيامةِ الثَّرثارونَ والمتشدِّقونَ والمتفَيهِقونَ، قالوا: يا رسولَ اللَّهِ، قد علِمنا الثَّرثارينَ والمتشدِّقينَ فما المتفَيهقونَ؟ قالَ: المتَكَبِّرونَ” (صحيح الترمذي).
- وترك الجِدَال يحفظ اللسان من الكذب والغيبة والفحش، والقلب من الغل والحقد والضغينة، ويحفظ الوقت من الضياع فيما لا فائدة فيه، كما يحافظ على العلاقات الاجتماعية، ويُحقق الراحة النفسية والهدوء، وينال به صاحبه رضا الله تعالى، فعلى كل مسلم أن يبتعد عنه وإذا اضطر إليه يكون بغرض إظهار الحق وإبطال الباطل، ويكون بالتي هي أحسن وللدعوة إلى الله تعالى، ولدفع الظلم عن النفس أو عن الغير.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 1/ 387-388.
- ابن سيدة: المحكم والمحيط الأعظم ٧/322-326.
- ابن منظور: لسان العرب 11/ 103.
- الزبيدي: تاج العروس 28/ 193-197.
- الجرجاني: التعريفات ص 78.
- المناوي: التوقيف، ص 233.
- الجويني: الكافية في الجدل، ص21.
- محمد سلامة الغنيمي: كفوا عن الجدال.
- هناد بن سري: الزهد 2/557.
- أحمد بن حنبل: الزهد، ص 269.
- الغزالي: إحياء علوم الدين 3/117.
- ابن مفلح: الآداب الشرعية 1/201.