لا شكّ أنّ ضبط ميزان الثواب والعقاب في تربية الطفل وتنشئته يحتاج إلى مجهودٍ كبيرٍ، سيّما أن دوافع الآباء في التربية نبيلة، وتصرفات الأبناء بريئة، لذا فإن الصراع بينهما ليس إلا صدامًا بين تلك الدوافع وهذه التصرفات، لكن فض النزاع يتوقف على فهم الآباء للطفولة ومراحلها المختلفة، وما يمكن توقعه من الصغار في مراحل نموهم المختلفة.
ويختلف الآباء في تربية أبنائهم؛ فبعضهم يتبع أسلوب العقاب فقط، معتقدًا أنّ الصحيح هو إظهار القوة أمام الأطفال، والبعض الآخر لا يستطيع أن يتحكم في عاطفته ويستسلم أمام عناد طفله وينفّذ رغباته. وأسلوب هذا وذاك خطأ كبير، فالأول يُنشئ طفلا بلا ثقة في نفسه ولا يستطيع التحكم في انفعالاته، والثاني ينشىء طفلا يُمارس الذي اعتاد عليه في أسرته، فينصدم بالواقع المختلف ويتعرض للإحباط.
الثواب في تربية الطفل
إنّ دور الثواب في تربية الطفل أكبر بكثيرٍ في تهذيب سلوكه وترويض غرائزه من دور العقاب، ويكفي أن يُثاب الصغير على كل فعلٍ حسنٍ يقوم به حتى تتحول أفعاله وتصرفاته إلى السلوك القويم المراد اكتسابه.
ويُفضّل كثيرٌ من التربويين أسلوب الثواب في التربية على العقاب، رغم تصرفات الصغار التي يصفها البعض بـ”الشيطانية”، لأنها في النهاية لها مبررات كثيرة، أهمها جذب اهتمام الوالدين والمحيطين والبحث عن الشعور بالأمان والحب.
ولعل أكثر نوبات غضب الصغار وصراخهم راجعة إلى عدم اهتمام الوالدين أو أحدهما بهم، فالصغير في حاجة إلى اهتمام طول الوقت وإلى مداعبة وملاطفة معظم الوقت، ولا يسمح له سنه الصغير باستيعاب حجم المسؤوليات المنوطة بالكبار.
ووفقا لقول الدكتور عبد الرحمن النمر، فإنه يجب أن نلفت الانتباه هنا إلى أنّ الطفل الذي يبكي طول الوقت كوسيلة لجذب الانتباه إليه في الشهور الثماني عشرة الأولى من العمر، يكون بكاء الطفل وسيلته الوحيدة للتعبير، فيبكي عندما يجوع، ويبكي عندما يحتاج إلى اهتمام أمه.
لكن بعد ذلك العمر، يكون البكاء حيلة من الطفل يستخدمها لأغراض كثيرة، على رأسها جذب الاهتمام، والطفل الذي يبكي باستمرار يجب تعليمه وسيلة أخرى لجذب الاهتمام بدلا من البكاء والصراخ، والطريقة ببساطة هي تجاهل بكاء الصغير حتى يسكت من تلقاء نفسه، دون أن يكون في ذلك تعريض الصغير لخطر من أي نوع، وإذا تكرر إهمال الوالدين لبكاء صغيرهما المستمر، فإنّ ذلك سيكون مدعاة لسكوته عن البكاء، وانتهاج سبيل آخر للتعبير عن رغبته في اهتمام الآخرين به.
والصغير لا يتميز فحسب برغبته القوية في جذب الاهتمام إليه، ولكنه يتميز كذلك بقوة غريزة حب التملك: لذلك ينفجر الصغير غاضبًا في نوبة بكاء عنيفة، كلما انتهكت تلك الغريزة بصورة أو بأخرى! فمثلا: استئثار أخ أو أخت باهتمام الوالدين، سيدفع الصغير لا محالة للبكاء بعنف. وهذا التصرف الذي يوصف بأنه غيرة من الصغير، ليس في الواقع إلا تعبيرًا عن غريزة حب التملك، ومثل ذلك يُقال عن أخذ لعبة أثيرة لدى الصغير من بين يديه، إلى غير ذلك من الأسباب.
هنا يأتي دور الثواب لتعليم الصغير كيف يكبح جماح غرائزه ويكتسب سلوكًا مهذبًا لائقًا، فمثلا يجب أن يُثاب الصغير عندما يقتسم حلواه المفضلة مع شقيقه أو شقيقته، أو عندما يتخلى طائعًا عن لعبته المفضلة ليلعب بها أخوه أو أخته بعض الوقت.
والثواب يجب أن يكون فوريًّا ومن جنس شيء يحبه الصغير ويهواه، أحيانًا يكفي أن تضم الأم صغيرها إليها وتقبله ليعرف الصغير أنه قام بعمل حميد، والثواب من شأنه أن يرسخ السلوك المراد اكتسابه في نفس الطفل، ويقوي بواعث الصغير لمعاودة السلوك ذاته.
العقاب في تربية الطفل
أما العقاب في تربية الطفل فيمكن أن يحل الحزم محله، وفي أحيان كثيرة يكفي تجاهل الصغير، وتجاهل الخطأ الذي ارتكبه، ليدرك الطفل مِن تلقاء نفسه فداحة ما أقدم عليه، أما تصيد أخطاء الصغير والوقوف له بالمرصاد، ومعاقبته على كل خطأ يبدر منه، فهي سياسة خاطئة بكل تأكيد، حسبما يؤكد طب الأطفال النفسي، بل أكثر من ذلك، فإن مشاهدات علم السلوك تؤكد أن عقاب الصغار المتكرر يؤدي إلى عنادهم وإصرارهم على معاودة العمل نفسه الذي عوقبوا عليه!
وعلى ذلك، يجب أن يكون العقاب حلًّا أخيرًا يلجأ إليه الآباء عند الضرورة القصوى، وحتى في هذه الحالة يجب أن يكون العقاب معقولًا ومقبولًا ويمكن أن يؤدي إلى النتيجة المطلوبة.
بينما تخويف الطفل بأنه سيحبس في غرفة مظلمة بمفرده مع الفئران، أو أنّ أباه سوف يستدعي رجل الشرطة، أو أن أمه ستأخذه إلى الطبيب ليخزه بالإبرة، كل هذا يدخل في إطار العقاب العقيم، حيث سرعان ما سيدرك الصغير أنّ كل تلك التهديدات غير جادة، وأن شيئًا منها لن يحدث! فضلا عن أنّ تخويف الطفل بهذه الأشياء يخلق عنده مخاوف وحساسيات تؤثر على حياته في المستقبل.
وكثيرٌ من البالغين ما زال يخاف الفئران ويخشى سطوتها، بسبب تخويفه المستمر بها في طفولته الباكرة! كذلك يكره أكثر الأطفال عيادات الأطباء بسبب الخوف من وخز الإبرة!
إنّ أقصى عقوبة توقع على الصغير هي الحرمان مما يحبه ويهواه، إلا أن هذه العقوبة لا يجب اللجوء إليها بين حين وآخر، ولمعاقبة الصغير على أخطاء تافهة، فالحرمان المتكرر له عواقب وخيمة على نمو الطفل النفسي والعقلي! لذلك نعاود التنبيه على أنّ هذه العقوبة لا يجب فرضها على الصغير إلا في الحالات النادرة التي يصعب فيها تقويم سلوك الصغير بالأساليب الأخرى التي سلف بيانها، وأهمها تجاهل الصغير بعض الوقت.
ويأتي الضرب كسبب رئيسي من أسباب العناد، لكنه يقتل كرامة الصغير ويؤذي نفسه، لذلك يجب عدم اللجوء إلى هذا النوع من العقاب إلا للضرورة البالغة، وفي هذه الحالة يكفي ضرب الصغير على كف يده مرة أو مرتين برفق، حيث الهدف من الضرب التأديب وليس تكسير عظام الطفل!
ولكي يؤتي الثواب والعقاب ثمرته المطلوبة، يجب ألا يعاقب الطفل على تصرف، ثمّ يثاب عليه في اليوم التالي أو العكس، فيجب أن يكون الاتجاه ثابتًا حتى لا يقع الصغير في حيرة، وحتى يستطيع اكتساب السلوك المراد.
فبعض الآباء يصفق لصغيره ويضمه في فرحة بالغة عندما يسب أحد أقرانه في اللعب، فإذا عاد الصغير وسب شقيقه، مثلا، فإنه يُعاقب بأشد صنوف العقاب! وهذا تصرف لا حكمة ولا إنصاف فيه، لأنه كوفئ مرة على سلوك ثمّ عوقب على السلوك نفسه في مرة أخرى.
التربية بالحب والحزم
لقد توصّلت دراسة تربوية بريطانية أعدتها مؤسسة (ديموس) للأبحاث عن تربية الطفل بالحب والحزم إلى: “أنّ تربية الأطفال انطلاقًا من مبدأ الحب والحنان المقترن بالحزم والصرامة يجعلهم ناجحين في حياتهم في المستقبل أكثر من غيرهم”.
ووفقًا للدراسة، التي جاءت بعنوان (بناء الشخصية)، والتي استندت إلى تحليل معلومات ومعطيات أُخذت من أكثر من تسعة آلاف أسرة في بريطانيا، فإنّ الأسرة التي تمسك العصا من الوسط، وتفرز طلبات طفلها بـ(نعم) و(لا)، هي بيئة مناسبة للتربية الناجحة أكثر من التي تُلبي جميع حاجات طفلها دون قيود أو مراجعة أو محاسبة، وكذلك الأسرة التي تُوكِلُ بعض المهام المناسبة إلى طفلها بحبٍّ وحزمٍ أفضلُ من التي تكرر: ما زال صغيرًا، أو التي تكلفه بما لا طاقة له به بحجة تعليمه الرجولة.
وأشارت الدراسة إلى أنّ الموازنة بين مشاعر الحب والحنان والانضباط والحزم، تنمِّي في الطفل العديد من مهارات التواصل الاجتماعي مقارنة مع التربية الحازمة فقط، أو تلك التي تتركه ينمو ويكبر من دون انضباط.
فالتربية المعتدلة البعيدة عن التدليل الزائد واللين المفرط، والبعيدة عن التوبيخ والتعنيف والقسوة، تُعوِّدُ الأطفال على الاحترام ومراعاة النظام، وتنمي فيهم النضوج والاعتماد والثقة بالنفس، والشعور بالمسؤولية، ومساعدة الآخرين، كما تُعزز فيهم روح المبادرة، والاستقرار والراحة والطمأنينة النفسية.
وقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يثيب أصحابه بخلع الألقاب والصفات المحببة عليهم، التي تعبر بصدق عن قدرة أو مهارة أو تميز في العبادات والطاعات؛ ومن ذلك قوله عن أبي بكر – رضي الله عنه: “لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الناس لرجح إيمان أبي بكر”، (إسحاق بن راهويه والبيهقي في الشعب بسند صحيح)، وقوله عن عمر رضي الله عنه: “لو كان نبيًا من بعدي لكان عمر”، (الإمام أحمد والترمذي). وقال – صلى الله عليه وسلم-، عن ابن مسعود – رضي الله عنه-: “مَن أراد أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد”، (مسند أحمد).
ومن أمثلة استخدامه العقاب في تربية أصحابه أمره – صلى الله عليه وسلم- بمقاطعة الثلاثة الذي تخلفوا عن الجهاد في سبيل الله في غزوة تبوك في التاسع من الهجرة، وقد استمرت هذه المقاطعة حتى تاب الله عليهم، وسجّل القرآن الكريم هذه الواقعة، وصور شدة ما عاناه هؤلاء الثلاثة جراء هذا العقاب، ويدل هذا على أن العقاب وإن كان في ظاهره العذاب فإن في باطنه الرحمة.
أسس استخدام الثواب والعقاب
ومن أسس استخدام الثواب والعقاب في تربية الطفل وتنشئته، البدء بالثواب أولًا، قبل العقاب بأن يكون الثواب مناسبًا لقيمة السلوك الإيجابي، ومناسبة العقاب لحجم السلوك السلبي؛ فلا يليق بالمعلم أن يُثيب تلميذًا أجاب عن سؤال مباشر إثابة أفضل من إثابة تلميذ أجاب عن سؤال إبداعي، وعقاب من تحدث مع زميله ليس كعقاب من شتم زميله.
ولا بُد من إثابة المتعلم فور السلوك الإيجابي، وعقابه فور السلوك السلبي؛ إذ أن ذلك يجعل أثر الثواب أو العقاب قويًا، كما يجب التنويع في صور كل من الثواب والعقاب؛ وقد أوضحنا أهمية ذلك سابقًا عندما تحدثنا عن تطبيق هذا الأسلوب في المدرسة.
من الضروري – أيضًا- تجنب تقديم الثواب بعد العقاب؛ لمصالحة المتعلم، أو تطيب خاطره، أو منحه العطف؛ فمن الأخطاء الشائعة لدى أولياء الأمور مصالحه الابن بعد العقاب، أو ضمه إلى الصدر، أو تقبيله، لأن الأبناء مفطورون على الاحتياج إلى عطف الأبوة أو الأمومة؛ فإذا أراد الابن أو البنت الحصول على هذا العطف، سلك سلوكًا أدى بهم إلى العقوبة؛ ومن ثم الحصول على العطف.
ويجب أن يُوضح المربي للتلميذ المعاقب السلوكيات الإيجابية البديلة عندما يعاقبه على سلوك سلبي، فقبل أن نعاقب المتعلم يجب أن نصور له الحسن؛ وبخاصة الأطفال؛ لأنّ إدراكهم للأمور ليس إدراكًا كاملًا؛ فربما يردد الطفل كلامًا غير لائق سمعه من أبناء الجيران ولاحظ استحسان الجهلاء لهذا السلوك السلبي، فكرّره دون أن يدرك خطورته.
ولا بُد من أن يكون الضرب آخر صور العقاب إذا لم يكن الخطأ فادحًا، مع مراعاة ضوابط الضرب؛ وأهمها: أن يكون بالعصا، وألا يكون في أماكن حساسة، وأن يؤلم دون أن يترك أثرًا، وأن يكون مناسبًا لحجم الخطأ، وألا يكون للتشفي.
المصادر
التربية بالثواب والعقاب
التربية عن طريق أسلوب الثواب والعقاب
الثواب والعقاب في تربية الأبناء