سورة العصر إن التواصي بالحق هو ثالث أصول النجاة الأربعة من الخسران التي حددها الله سبحانه وتعالى في سورة العصر، بعد أن صدَّر أصول النجاة بأصلي الإيمان والعمل الصالح، وهما الأصلان المهمان في النجاة، إلا أنهما لا يقومان ولا يستقيم العبد عليهما ويثبت إلا بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فمن عُدم عنده التواصي بالحق وعُدم عنده التواصي بالصبر، فإن إيمانه وعمله الصالح لا يتماسكان بل يزولان.
ومع إيماننا بأهمية التواصي في حق عموم أفراد الأمة، فإنه في حق الدعاة إلى الله العاملين لنصرة دينه وإقامة شرعه أهم وأولى. ولا يمكن للداعية أن يقيم حق التواصي إلا بعد إدراكه ومعرفته حق المعرفة وإدراك آدابه ولوازمه، ولذا في السطور القادمة سنقترب من إدراك معنى التواصي في ضوء قراءتنا لسورة العصر، ثم نعرج مستأنسين بآيات التواصي في كتاب الله تعالى، وبسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه وسلفه الصالح إلى أهمية تلك القيمة ولوازم القيام بها والمعينات عليها.
نظرات عن التواصي في ضوء سورة العصر
-
الحق ومراتبه في سورة العصر
الحق هو الإسلام في ذاته، أي هو الخير كله من توحيد الله وطاعته واتباع كتبه ورسله، والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. ويرى ابن القيم أن الحق هو قلب سورة العصر وجوهرها وموضوعها، وأنه له مراتب أربعة باستكمالها يحصل للشخص غاية كماله:
إحداها: معرفة الحق.
الثانية: العمل به.
الثالثة: تعليمه لمن لا يحسنه.
الرابعة: الصبر على تعلمه والعمل به وتعليمه.
فذكر تعالى المراتب الأربعة في هذه السورة، وأقسم سبحانه في هذه السورة بالعصر أن كل أحد في خسر {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} وهم الذين عرفوا الحق وصدقوا به، فهذه مرتبة، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وهم الذين عملوا بما علموه من الحق، فهذه مرتبة أخرى، {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} وصى به بعضهم بعضًا تعليمًا وإرشادًا، فهذه مرتبة ثالثة، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} وصبروا على الحق ووصى بعضهم بعضًا بالصبر عليه والثبات.
-
انفراد التواصي رغم أنه من جملة الإيمان والعمل الصالح
التواصي بالحق من أفضل الأعمال الصالحة، وهو يدخل دخولًا أوليًا في العمل الصالح، ولكن إفراده هنا من بين الأعمال الصالحة لبيان أهميته والتأكيد عليه، وذكره بعد العمل الصالح من باب ذكر الخاص بعد العام. وفي ذلك يقول الطاهر ابن عاشور في “التحرير والتنوير”: “وعطف على عمل الصالحات التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وإن كان ذلك من عمل الصالحات، عطف الخاص على العام للاهتمام به لأنه قد يغفل عنه ويُظن أن العمل الصالح هو ما أثره عمل المرء في خاصته، فوقع التنبيه على أن من العمل المأمور به إرشاد المسلم غيره ودعوته إلى الحق”.
والتواصي بين أهل الإيمان والعمل الصالح يكون بدافع حب الطاعة والحرص على نجاة الإخوان. وفي ذلك يقول الرازي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}: “فاعلم أنه تعالى لما بيَّن في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر، وصاروا أرباب السعادة من حيث إنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب، وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخلصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضًا سببًا لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين، فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل”.
-
التواصي والاجتماع على أمر الدعوة
إن ذكر التواصي في هذه السورة بصيغة الجمع {وَتَوَاصَوْا} يدل على أهمية الاجتماع في أمر الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يؤكد على ضرورة الائتلاف وعدم الافتراق، وأن الحق والدعوة إليه تحتاج إلى التواصي والتكاتف والتعاون، وأن هذا من صفات الجماعة الناجية. وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: “فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة – أو الجماعة – المتضامة المتضامنة، الأمة الخيرة الواعية القيمة، في الأرض على الحق والعدل والخير… وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة… وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام… هكذا يريدها أمة خيرة قوية قائمة على حراسة الحق والخير، متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون، تتضح فيها كلمة التواصي في القرآن”.
ويشهد لذلك الآيات الكثيرة في كتاب الله عز وجل التي تأمر بالاجتماع وتنهى عن الفرقة، مثل قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 104-105).
-
الحق ثقيل وفي التواصي بالصبر السلوى
الحق ثقيل، والمعوقات في طريقه كثيرة، فيُفهم من قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا} أن لزوم الحق علمًا وعملًا ودعوةً وتعليمًا من الأمور الشاقة التي تحتاج إلى التواصي والتعاون. وذلك لما يعترض طريق الحق من العقبات والمرارات والتحديات. وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: “والتواصي بالحق ضرورة؛ فالنهوض بالحق عسير، والمعوقات عن الحق كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة، وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين، والتواصي تذكير وتشجيع، وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة؛ فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معًا فتتضاعف؛ تضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه، ويقف معه ويحبه ولا يخذله”.
ويقول الرازي رحمه الله تعالى في مسائله حول الآية: “المسألة الثانية: دلت الآية على أن الحق ثقيل وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي”.
وعليه، اتبع الله سبحانه وتعالى التواصي بالحق بالتواصي بالصبر كأصل رابع من أصول النجاة من الخسران، إذ إن المؤمن الداعية لن يستطيع القيام بالحق علمًا وعملًا ودعوة إلا إذا تسلح بالصبر الجميل والقدرة على تجاوز العقبات وتحمل الأذى الناتج عن هذا الطريق الطويل.
-
الخسران عاقبة الانحراف عن لزوم التواصي بالحق
التواصي بالحق هو أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة والجهاد، وهو صمام الأمان للأفراد والمجتمعات. وبدونه يحل الخسران، ويشقى الناس، وتحل بهم المصائب والعقوبات والشقاء في الدنيا والآخرة. والواقع شاهد على ذلك؛ فما من مجتمع قل فيه التواصي بين أهله بالحق وضعفت فيه شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا حل الفساد والظلم والشقاء بينهم. ولذا فالمقصر فيه بسكوته عن الحق أو قوله للباطل قد قصر في أصل عظيم من أصول النجاة في الدنيا والآخرة له ولمجتمعه.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “فالساكت عن الحق شيطان أخرس، عاصٍ لله مراءٍ مداهن، إذا لم يخف على نفسه. والمتكلم بالباطل شيطان ناطق، عاصٍ لله، وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته، وأهل الوسط – وهم أهل الصراط المستقيم – كفوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة”.
ويوجه رحمه الله تعالى اللوم والتوبيخ إلى الساكتين عن الحق والتاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيقول: “وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق. وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبدل وجد واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء – مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم – قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم، كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل”.
ويكفينا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده؛ فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم» (رواه أحمد).
التواصي بالحق نهج القرآن وطريق النبي وخلق السلف
وسنة التواصي سنة إلهية نبوية، أوصانا الله بوصايا، وأوصانا نبيه -صلى الله عليه وسلم- بوصايا، وأمرنا تعالى أن نتواصى فيما بيننا، وأوصانا نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالتواصي كذلك. والوصية منهج قرآني {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحًۭا} (الشورى: 13). وربنا -عز وجل- وصى أنبياءه: {وَٱلَّذِىٓ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِۦٓ إِبْرَٰهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰٓ أَنْ أَقِيمُوا۟ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِيهِ} (الشورى: 13). والله تعالى وصى الأولين والآخرين والمتقدمين والمتأخرين كذلك، {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُوا۟ ٱلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ} (النساء: 131).
ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه نجده يقول لأبي ذر: “أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته، وإذا أسأت فأحسن” (رواه أحمد). وقال -رضي الله تعالى عنه-: “أوصاني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بسبع: ألا أخاف في الله لومة لائم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأوصاني بحب المساكين والدنو منهم، وأوصاني بأن أقول الحق وإن كان مرًا، وأوصاني بصلة الرحم وإن أدبرت، وأوصاني ألا أسأل الناس شيئًا، وأوصاني أن أستكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها كنز من كنوز الجنة” (رواه أحمد).
قالت أعرابية توصي ولدها المسافر -وما أحوجنا لبعض الوصايا للمبتعثين-: “أي بني اجلس أمنحك وصيتي، وبالله توفيقك، فإن الوصية أجدى عليك من كثير من عقلك. إياك والنميمة، فإنها تزرع الضغينة وتفرّق بين المحبين. وإياك والجود بدينك والبخل بمالك. الإنسان يمسك دينه لا يفرط منه بشيء، وأما المال فيبذله. واعلم أن المرء لا يرى عيب نفسه، فما استحسنت من غيرك فاعمل به، وما استقبحت من غيرك فاجتنبه، والغدر أقبح ما تعامل به الناس. ومن جمع الحلم والسخاء فقد أجاد الحلة”. فما أحوج الأمة اليوم، وفي القلب منها ركب الدعاة، أن يلتزموا نهج القرآن وسلوك النبي وسيرة السلف في التواصي فيما بينهم بالحق، فإن فيه النجاة.
آداب معينة على الإحسان في التواصي بين المؤمنين
التواصي بالحق بين المسلمين يتطلب سلوك أفضل السبل والوسائل لنقل المعلومات والمعاني والأحاسيس والآراء إلى أشخاص آخرين، والتأثير في أفكارهم وتوجهاتهم وإقناعهم بما تريد، سواء كان ذلك بطريقة لغوية أو غير لغوية. ويمكن الإشارة إلى مجموعة من الآداب والنصائح التي تعين على ذلك، ومنها:
- أصلح ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، لأن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، قال الله -تعالى-: {فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم} (الأنفال: 62-63).
- الصدق في الدعوة إلى الله هو السبيل الذي يفتح الله به قلوب الخلق. واستمع إلى ما قاله ابن القيم الجوزية في وصف منزلة الصدق: “هو الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه ولا واجه باطلًا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال ومحك الأحوال والحامل على اقتحام الأهوال والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال”.
- الالتزام بما توصِي به غيرك. يقول سيد قطب -رحمه الله-: “إن آفة رجال الدين – حين يصبح الدين حرفة وصناعة لا عقيدة حارة دافعة – أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى الخير ويهملونه، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويؤولون النصوص القاطعة خدمة للغرض والهوى. والدعوة إلى البر والمخالفة عنه في سلوك الداعين إليه هي الآفة التي تصيب النفوس بالشك، لا في الدعاة وحدهم، ولكن في الدعوات ذاتها”.
- أفشِ السلام واجعل الابتسامة رسولك إلى قلوب الآخرين، فهي مفتاحك لأبواب النفوس. قال -صلى الله عليه وسلم-: “تبسمك في وجه أخيك صدقة” (رواه الترمذي).
- اعرف نمط الإنسان الذي تتعامل معه واختر كلماتك بعناية، وكن وفيًا بالوعد صادقًا بالحديث، واحذر من جمود القسمات وغلظة الوجه.
- احتفظ بهدوئك ورباطة جأشك عند الاستفزاز من الطرف الآخر. وتذكر وصية المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: “لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب” (رواه البخاري).
- الهدية الجميلة، وإن صغرت، من وسائل كسب القلوب وبناء العلاقة مع الناس. قال -عليه الصلاة والسلام-: “تهادوا تحابوا” (رواه البخاري).
- احرص على نظافة البدن والفم والملبس والأناقة غير المبالغ فيها. وكن بسيطًا ولا تتكلف في التعامل، فهذا كله من أدب الإسلام.
التواصي بالحق نهج القرآن وسلوك النبي وطريق السلف في حفظ رابطة الأخوة ورعاية وحدة المسلمين، وهو شرط قيام الدعاة إلى الله بواجبات الدعوة إلى الحق. وهي ثقيلة وصعبة، لا يمكن القيام بها إلا بالتداعي والتواصي عليها، والصبر على مشاقها. وعلى الداعية أن يعرف لوازم القيام بهذا الأمر وحدوده، وأن يسعى لامتلاك المهارات المعينة على ذلك، فإن الإحسان في الأمر شرط القبول، والتواصي بالحق من أجل الأمور وأعظمها.
المصادر والمراجع:
- التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور.
- شخصية المسلم للدكتور محمد الهاشمي.
- في ظلال القرآن لسيد قطب.
- الدعوة الفردية لمحمد السيد الوكيل.
- كتب السنن.