يرتبط اختصار الوقت والجهد في أيّ مُؤسّسة، بمدى تطبيق مفهوم التنظيم الإداري الذي يضبط عمل الفرد والجماعة، وهو ما بدا واضحًا في دعوة الإسلام مُنذ أول يومٍ صعد فيه النبي، صلى الله عليه وسلم، فوق جبل الصفا، وأنذر عشيرته الأقربين ودعاهم إلى دين الله القويم، وصولا إلى تمكن الدولة الإسلامية، وانطلاق الصحابة والتابعين، حاملين راية الحقّ، إلى ربوع الأرض مُبشّرين بالدين الحنيف.
وإذا كان الإسلام قد اهتمّ بالتخطيط والفكر فقد أولى اهتمامًا، أيضا، بالأخذ بتنفيذ الخطط وتنظيمها إداريًّا، فمارسها النبي الأمين في كثيرٍ من مواقفه، وأوضحُ مثالٍ في رحلة الهجرة التي نظّمها تنظيما دقيقًا، ووضع جميع اللمسات وتابعها بنفسه، وغيرها الكثير من المواقف التي كانت منهجًا سار عليه القادة العِظام لبناء الدولة الإسلامية.
مفهوم التنظيم الإداري
ورغم أن مصطلح التنظيم الإداري استُخدم في العصور الحديثة، فإنّ مفهومه له جُذور في اللغة ومعانٍ قريبة من بعضها، يقول ابن منظور: النَّظم، التأليف، ونظمت اللؤلؤ، أي جمعته في السلك، ونظم الأمر على المثل، وكل شيءٍ قرنته بآخر وضممت بعضه على بعض، وكل خيط ينظم به اللؤلؤ أو غيره فهو نظام، وجمعه نُظْم (1).
وعرّفه مارشال ديموك، سياسي أمريكي، بأنه: “التجميع المنطقي للأجزاء المترابطة لتكوين كل موحد تُمارس من خلاله السلطة والتنسيق والرقابة لتحقيق غاية محددة”.
إلا أنّ الدكتور المزجاجي، عرّفه بشكل آخر، فقال: التنظيم هو وظيفة إداريّة لها طابعان: إنساني يركّز على التعاون بين الأفراد، ويُقاوم النّعرات الطائفية والصراعات الطبيعية المتوقعة بينهم، وفنِّي يهتم بتحديد النشاطات المباحة وتجميع مهامَّها، ثم تقسيمها على الأفراد، كل حسب اختصاصه وموقعه، مع بيان طُرُق الأداء والواجبات والصلاحيات اللازمة.
كما يعمل على استغلال الإمكانات المتاحة وفق أحكام وأنظمة مصدرها الشريعة الإسلامية من أجل تحقيق أهداف مشروعة مُحددة مُسبقا (2).
أهداف التنظيم الإداري ومبادئه
يسعى التخطيط إلى تحديد الأهداف وإعداد الإمكانيات اللازمة لتحقيقها، ومِن ثمّ فإنّ التنظيم الإداري بمثابة الوسيلة التي عن طريقها نُنجِز هذه الأهداف، لترتيب الجهود واستغلال الطاقات.
فالتنظيم يهدف إلى تحقيق التعاون والانسجام بين مختلف مُكونات المؤسسة أو فئات الشعب، كما يهدف إلى تحديد المسؤوليات وقنوات الاتصال بين جميع هياكل المؤسسة، بل يُحدد العلاقة بين المسؤولين والأفراد، ويحقق أفضل استخدام للطاقات البشرية والموارد المتاحة (3).
ولأجل تحقيق أهداف التنظيم بنجاح لا بُد من تحقيق بعض المبادئ، مثل:
- تحقيق مبدأ المرونة: بمعنى أن يكون التنظيم مرنًا، أي يسمح بقبول التعامل مع التغيّرات التي تحدث داخل المؤسسة أو المجتمع.
- مبدأ وحدة الصف والتخصص: حيث تُعد من الأمور المهمّة لنجاح التنظيم.
- مبدأ تكافؤ الفرص والمسؤولية والسلطة: بحيث لا يحصل فرد على مميزاتٍ أكبر، وفرص أفضل من غيرهِ، كما لا يحمل فرد أعباء أعمال المؤسسة في وقت يُترك فيه بعض المسؤولين عاطلين، بينما دورهم التنظير فقط.
- مبدأ تحديد الإشراف: فيكون لكل مسؤول عددٍ مُعيّن حسب قدرته، يُشرف عليهم ويتابعهم.
- مبدأ تقسيم العمل: ويعني تقسيم العمل المعيّن في أي مجموعة بين الأشخاص العاملين.
- مبدأ الكفاءة والتدرّج الوظيفي: وليس الاعتماد على مبدأ أهل الثّقة وهو مبدأ قد يُؤخّر أو يُدمّر المؤسسة أو الدولة، وهو المعنى الذي حذّر منه النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: [فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ، قالَ: كيفَ إضَاعَتُهَا؟ قالَ: إذَا وُسِّدَ الأمْرُ إلى غيرِ أهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ] (صحيح البخاري) (4).
النبي ومبدأ التنظيم الإداري
اهتمّ النبي- صلى الله عليه وسلم – بمبدأ حسن التنظيم والإدارة والتخطيط، وهو ما ظهر جليًّا في رحلة الهجرة، التي ضرب فيها أروع الأمثلة، فأوعز إلى أصحابه بالهجرة سرًّا إلى المدينة، ثمّ أعدّ العُدّة مع رفيقه وصاحبه أبو بكر الصديق، واستعان بعلي بن أبي طالب، وهو صبي، لينام في فراشه، ثمّ خرج إلى طريق غير مأهولٍ وغارٍ غير مسكون، فقضى أيامًا وليالي فيه، حتى اطمئنّ إلى أن قريش قد يَئِسَت، فسلك طريق البحر حتى لا يتفاجأ بأحدٍ في الطريق، واستعان بمن أخفى آثارهما وأحضر لهما الطعام خفية، ومع الطعام يعرف الأخبار وتحركات قريش وبناءً عليه يرسم الخطط، حتى بلغ المدينة في أروع تنظيم تنفيذي وإداري للخروج من محنةٍ وعدو متربّصٍ (5).
وفي بيعة العقبة الثانية، ضَرَبَ أروع الأمثلة في التنظيم العملي، حينما اختار منهم اثنى عشر نقيبًا، ليشرف كل نقيبٍ على عددٍ من الأفراد ويتابعهم (من قبيلتي الأوس والخزرج) في الدعوة إلى الإسلام ويحرص على تعليمهم ما تعملّوه من النبي- صلى الله عليه وسلم-، كما حرص من وراء ذلك أن يُوفر الجهد عليه بأن يجعل نطاق الإشراف قائمًا بين أصحابه.
بل في قصة إسلام أبو ذر الغفاري- رضي الله عنه- مشهد تنظيمي رائع، حيث أوكل النبي- صلى الله عليه وسلم – إلى علي بن أبي طالب، مهمّة رصد الغرباء وتحسس أخبارهم، فحينما علم أنّ أبا ذرّ لديه الرغبة في الإيمان قال له: “اتبعني فإنني إن علمت أن أحدًا يرصدنا أرقت الماء وإلا فاتبعني حتى تدخل على رسول الله”، وهو ما كان حتى أسلم. وفي القصة من الحنكة الإدارية الرائعة (6).
وفي الخندق، حينما قسّم النبي- صلى الله عليه وسلم- المساحة على أصحابه أفرادًا وجماعات، فكان أمرًا تنظيميًّا ساعد على سرعة إنجاز الحفر حتى تفاجأت قريش ووقفت مذهولة أمام الخندق، فتساءلوا: “كيف ومتى تم تجهيزه وحفره؟!”.
التطبيقات التربوية للتنظيم الإداري
وغاية المسلمين الأوائل من تطبيق مبدأ التنظيم الإداري والتخطيط، هي استقرار الدولة ونموّها وتقدّمها وتماسكها في مواجهة ما يعتريها من عقباتٍ، وهو ما جعل الإسلام صالحًا لكل زمانٍ ومكان، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- استمدّ من القرآن وطبّق عمليًّا، وسار على دربه أصحابه فدمجوا بين كلام الله وسنة نبيه، وارتكزوا على مفاهيم العقيدة الصحيحة.
والنُّظم الإدارية الحديثة ركّزت على بعض الجزيئات وتغاضت عن أخرى، فإذا بها تهتمّ بالفرد دون النظر إلى معتقداته، لذا خلقت صراعًا داخليًّا بين التزام الفرد بما وضعته المؤسسة التي يعمل فيها وبين متطالبات عقيدته التي يُؤمن بها. وهو ما عمل المنهج الإسلامي على علاجه، حيث اهتم بالمنفعة العامّة مع المحافظة على مصلحة الفرد ومراعاة احتياجاته.
ولقد جاءت أهداف الرسول- صلى الله عليه وسلم- من تعيين أُناس بعينهم، ليكونوا حكام الأقاليم، فوضع في أولوياته العمل على تعليم الناس أمور دينهم وإقامة الصلاة بينهم، والتعامل بالحسنى مع غير المسلمين، وأن يكون الحاكم أمينًا في جباية الزكاة وغيرها. وهي أمور تربويّة إدرايّة حرص الإسلام على توطيدها في نفوس المسلمين.
ورأينا كيف اهتمت النظم الإدارية في الإسلام بشؤون المسلمين، كبيرهم وصغيرهم، وبالقضاء على الطبقيّة، وتطبيق العدالة الاجتماعية، ومساعدة الإنسان على تحقيق الغاية المطلوبة منه، وهي العبودية لله، والاستخلاف في الأرض وإعمارها، والقضاء على العنصرية، وتحقيق المصالح العامة على حساب المصالح الشخصية (7).
وهو ما يُلقي بالعبء على العاملين في الحقل الإسلامي حاليًّا بالأخذ بالنظم الإسلامية في التنظيم الإداري ووضع أهدافه وأولوياته، وتفعيل دور المسجد إداريًّا لعِظَمِ تأثيره في الناس، واستعمال الكفاءات من المشهود لهم بالصدق والأمانة والتقوى.
نموذج من تنظيم وإدارة عمر بن الخطاب
اتّسعت رقعة الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حيث استحدث كثيرًا من النظم الإدارية التي نظّمت شؤون الدولة الإسلامية من شرقها إلى غربها، وتجلّى فقه الإدارة في عهده، حينما فرض الفروض ودوّن الدواوين وأعطى العطايا، وفَصَلَ السُّلطة التنفيذية عن التشريعية، وأكد استقلال القضاء، وأوضح مرونة التنظيم الإداري في الإسلام وهدفه التربوي في المقام الأول بإقامة العدل ونشر الإسلام بين الناس.
ورغم شخصيته الإدارية الفذّة، عمل بمبدأ تفويض السُّلطة للولاة الذي استشعر فيهم الصّدق والنّزاهة، ومع ذلك كان يتابع ويحاسب ويعتبر نفسه مسؤولًا عن كل شيء داخل الدولة الإسلامية (8).
أخيرا
على الرغم من حداثة مصطلح التنظيم الإداري، فالاختلاف واضح بين مضمونه وتطبيقاته حاليًّا وفي عصر الدولة الإسلامية، فالتنظيم في العصر الحالي، لتغليب مصلحة الفرد أو المؤسسة، بينما كان في عهد النبي، وجيل الصحابة، لتغليب المنفعة العامة مع الحفاظ على خصوصيات الفرد، وتحقيق البعدين المادي والمعنوي، والسعي لتحقيق الأهداف الدنيوية والأخروية، مع مراعاة الجانب الأخلاقي، وهو ما أشاع العدالة الاجتماعية، والإحسان إلى الفقير والمحروم، حتى وصل الأمر إلى أنّ الدولة لم يعد فيها فقير أو محروم، في عهد عمر بن عبدالعزيز.
لذا على المسلمين إعادة النظر في مبدأ التنظيم والتخطيط، الذي سار عليه السّلف الصالح، فانتعشت البلاد اقتصاديًّا وتقدّمت علميًّا وتماسكت اجتماعيًّا.
المصادر
1. ابن منظور: لسان العرب، دار الحديث ـ القاهرة، 1423هـ ـ 2003م، (مادة نظم).
2. أحمد بن داود المزجاجي الأشعري: مقدمة في الإدارة الإسلامية، دار الموسوعة للنشر والتوزيع، جدة، ط1، 2000م، صـ174.
3. جاسم محمد الذهبي ونجم عبدالله العزاوي: مبادئ الإدارة العامة منظور استراتيجي شامل، بغداد، 2005م، صـ128.
4. عماد أموري جليل الزاهدي: قراءة معاصرة للمنهج النبوي في تنمية مهارة التنظيم، مركز تحقيق المخطوطات بجامعة قناة السويس.
5. السيرة النبوية لابن هشام: تحقيق شلبي الإبياري، دار المعرفة، القاهرة، 2004م.
6. محمد أمحزون: منهج النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة من خلال السيرة الصحيحة، دار السلام، القاهرة، طـ5، 2010، صـ150.
7. لينا سليمان الخليوي وعزيزة محمد حماد: التنظيم الإداري في الإسلام وتطبيقاته التربوية، مجلة البحث العلمي في التربية، العدد 18 لسنة 2017، صـ8 – 10.
8. محمد سهيل طقوش: النظام الإداري في عهد عمر بن الخطاب، 17 سبتمبر 2017،