التملق بينه وبين الاحترام شعرة، وهى نية الشخص وسريرته بينه وبين ربه، فالتملق كما جاء في سُنن النسائي: “الْمَلَقُ: الزِّيَادَةُ فِي التَّوَدُّدِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي”.. وذلك لا يجوز لغير الله عزّ وجلّ، “والإمْلاق يعني: الإفساد، و(المَلِق) الذي يَعِدكَ ويُخْلِفك.. ويتزين بما ليس عنده” (لسان العرب)، “ورجل مَلِق: يعطي بلسانه ما ليس في قلبه” (القرطبي).
ويقول الدكتور خالد النجار: تكمن أزمتنا المعاصرة في تفشي تلك الظاهرة لدرجة كارثية من الكذب الصريح، والنفاق الداعر، والمجاملة الممجوجة، وطمس الوقائع، وتزيف الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه، حتى باتت تلك الظواهر لغة العصر وشعار الزمان إلا من رحم الله تعالى، الأمر الذي أدى إلى انحدار الكثير من القيم والأخلاق، وبسبب ذلك ساءت العديد من العلاقات الاجتماعية، وضاعت الكثير من الحقوق، واستشرى الظلم بأبشع صورة، وتعلمت الأجيال الخوف والجبن، وتجرعت ثقافة الخنوع والضعف والاستكانة وتسلط العدو وغيرها من المساوئ.
مظاهره
يقول الدكتور خالد صالح الحميدي: للتملق العديد من المظاهر التي قد يراها الجميع مثل: الخضوع، والتذلل، والمداهنة، والثناء الكاذب، والغيبة والنميمة.. يستعين بها المُتَمَلّق، للفت انتباه المُتَمَلَّق له وكسب رضاه، كوسيلة للتسلق الاجتماعي، وتحقيق المآرب الشخصية، متجاوزاً القيم الدينية والأخلاقية، مغلفاً الحقيقة بغلاف المجاملة المزيفة.
فالتملق ليس صدقا، والمتملق لا يفكر إلا في نفسه، والتملق ليس مجانيًا.
تجميل الوضع السيئ
وهو الذي وصفه ابن خلدون في [مقدمته] بقوله: “إن التعاون بين الناس لا يحصل إلا بإكراه البعض على التَمَلُّق، ممن يمتنعون من ذوي الأنفة والاستعلاء الفطري، وذلك من حكمة الله لبقاء النوع البشري”.
لكن الاحترام قائم على الصدق، وتغليب مصلحة الجميع دون التفكير في منافع شخصية، والشخص المحترم لا يحتاج إلى الثناء المفرط للغير، كما أن الاحترام لا يطلب شيئًا سوى ذاته، فالشخص الذي يحترمك لا يطلب منك شيئًا، إنه مكتفٍ بتقديرك وتبجيلك، والأهم أن الشخص الذي يحترمك يواجهك بعيوبك دون تزييف، وهدفه ليس التقليل منك أو احتقارك؛ لكن لتحسين نفسك وتدارك أخطائك وسلبياتك.
آفة العصر
إن أخطر أنواع التملق هو تملق السلاطين؛ لأن بأيديهم السلطة والقوة، وهي فتن تغر وتجعلهم أقرب للبطش والتجبر، كما أنهم أسهل وأسرع الناس زلقا في فخاخ الكبر والبطر، لذلك كان احتياجهم لعاقل ناصح أمين أشد من احتياجهم للهواء والماء، ورحم الله الحسن البصري الذي قال: “تولّى الحجاج العراق وهو عاقل كيّس، فما زال الناس يمدحونه حتى صار أحمقَ طائشاً سفيهاً”.
وفي مسند أحمد بسند عن عمر –رضي الله عنه- قال: “حذرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل منافق عليم اللسان”. وروى الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين – رضي الله عنه – قال: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان).
ويُذكر أن رجلا مدح رجلا عند ابن عمر فجعل ابن عمر يرفع التراب نحوه وقال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلَّم: ( إذا رأَيْتُم المدَّاحينَ فاحثُوا في وجوهِهم التُّرابَ) (صحيح ابن حبان).
غير أن الآفة التي استشرت أن هؤلاء نصبوا من الزعماء رموزا تصل إلى فوق المكانة النبوية أو لمرتبه الألوهية، فمشكلة المنافق أنه يعيش بالقناعة التي يريدها سيده، فإن سقط سيده سرعان ما انقلب عليه، وتملق سيدا آخر، لذلك فتبدل المواقف في حياته يسير وكثير، دون أي شعور بالخجل أو المراجعة أو الاعتذار، فقد حدث زلزال في مصر في العهد الفاطمي فتملق الشاعر بقوله:
ما زلزلت مصر من كيد ألمّ بها لكنها رقصت من عدلكم طربا
وأشد أنواع النفاق الاجتماعي والسياسي نلمسه في وسائل الإعلام التابعة للأنظمة المستبدة، حيث تعمل على تزييف الوعي والرأي لدى الناس، وتعيث خرابا في وفق مخططات مرسوم لها بعناية.. يقول المستشرق «هامِلْتُون ألكسندر روسكن جب»: “إن علينا كي نغير وجه الإسلام أن نسير في اتجاهين: الأول: بناء كوادر علمانية، والثاني: صناعة الرأي العام”.
التملق في الكيانات والمؤسسات
تعيش المجتمعات هذا الزمان آفات استشرت ونال أصحابها صعودًا سريعًا في مجالات عدة، حيث انقلبت الموازين غير مدركين سهولة وسرعة سقوطهم، بل وسقوط مجتمعاتهم التي قامت على أكتاف أمثال هؤلاء المتملقين.
وتنتشر هذه الظاهرة في كافة المؤسسات والكيانات، وقد لا يسلم منها حتى تلك الحركات التي تستند على خلفية إسلامية، كجزء من الشعوب والمجتمعات، فطبيعة الحال أنها ليست مجتمعا ملائكيا يحيا بأخلاق الملائكة أو الأنبياء، حيث يوجد بينهم أيضا متملقون ونفعيون ومتحاملون من أجل الوصول لمنفعة معينة سواء شخصية أو عامة. فقد كانت ظاهرة المنافقين موجودة في كل زمان ومكان، حيث إن مجتمع النبوة المطهرة لم يسلم من وجودهم فيه.
وهي ظاهرة تشكل خطرا شديدا داخل الحركات والكيانات، ومكمن الخطر هنا هو أنه يتم إفساح المجال لأن يتولى ويرتقى بعض الدرجات القيادية من هؤلاء المتملقين وأصحاب الثقة وليس أصحاب الخبرة والكفاءات المتقين، مما يعطل مسيرة هذه الحركات الكيانات أو ربما يؤدي لتدميرها بسبب عدم كفاءة هؤلاء للقيام بالأدوار المنوطة بهم.
يقول الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة دعوتنا تحت عنوان [أصناف أربعة]: “وأما شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة، وما يجره هذا البذل له من مغنم؛ فنقول له: حنانيك ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت، والجنة إن علم الله فيك خيرًا”.
ويجب على أصحاب الدعوات ألا يغرهم أهل الثقة على حساب أهل الخبرة لكن لو اجتمعت الصفتان في شخص واحد فهو أولى؛ لأنه جمع بين صدق العمل وكفاءة الفهم والإنتاج.
كيف النجاة؟
التملق صورة من صور النفاق التي نهى عنها الإسلام، حتى إن وعيد الله للمنافقين أشد من وعيد الكفار والمشركين حيث قال سبحانه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ (النساء: 145)، والدرك هي قاع النار وأشد مراحلها عذابا، ولقد حضنا الإسلام على التخلص من النفاق والتملق؛ حتى يستقيم الفرد وتستقيم معه المجتمعات، ومن سبل التخلص من التملق:
- تعظيم استشعار عظمة الله في النفس، فليس أحد أعظم من الله سبحانه للتملق له، فإنما تُقضى الحاجات باللجوء لله عز وجل ثم الأخذ بأسباب النجاح والتميز.
- تقديم الشخصيات الصالحة والناجحة وصاحبة الكفاءة.
- مرافقة الصالحين وأصحاب الهمم العالية والبعد عن صحبة الفاسدين والمنافقين، وقد أكد على ذلك الإمام علي رضي الله عنه بقوله:
وإذا الـصـديـق رأيتــه متملقا فـهـو العــدو يحق أن يتجنب
ويقول الشاعر صالح عبد القدوس:
لا خـيـــــر فــــي ود امرئٍ متملــــق حـلـو اللســان وقـلـبـــه يـتلهــب
يعطيك مـن طرف اللسان حلاوة ويـروغ مـنـك كما يروغ الثعلب
- معرفة عواقب التملق وخطره على الفرد في الدنيا والآخرة وأثره في المجتمعات.
- عدم المبالغة والتكلف في الود أسلم للمحافظة على من ترغب وتحب.
- معرفتك أن السعادة ليست في الجاه فقط، وأنها في خدمة الناس والنجاح الذاتي.
- إظهار النفور من المتملقين وتهميشهم حتى يعودوا لصوابهم، وعدم الاستجابة لتطلعاتهم ورغباتهم.
- ينبغي للممدوح إظهار كراهة المدح للمتملقين.
إن المُتَمَلِّق يسعى لإرضاء هذا أو ذاك من الناس، بالكلام المعسول الكاذب، ووصفهم بما هم ليسوا أهلاً له، فهو بذلك إنما يرضي الناس بسخط الله، والرسول – صلى الله عليه وسلم – يقول: “من أرضى الناس بسخط الله وَكَلَهُ الله إلى الناس، ومن أسخط الناس برضا الله كفاه الله مؤونة الناس” (الترمذي).