خَلَق الله- سبحانه وتعالى- الناس مختلفين في الطباع والصفات، لذا فإنّ التغافل عن أخطاء الغير ضرورة لا بُد من الانتباه إليها، حتى تستقيم الحياة، فعلى كل إنسان أن يَغض الطرفَ عن الهفواتِ، وألا يحصي السيئات، وأن يترفعَ عن الصغائر، ولا يُركز على اصطياد السلبيات.
وإذا كان هذا الخُلُق مطلوبًا من الناس جميعًا، فهو ألزم على المُربّي وولي الأمر المسؤول عن رعية، إذ يجب عليه التحلي بالصبر وعدم الوقوف عند أي مشكلة، لأنّ الأولاد ما زالوا يختبرون الحياة، ويجرِّبون قدراتهم، ويقلِّدون أصحابهم، وينقلون للمنزل ما يتعلمونه خارجه، وهنا تكثر الزّلات والسيئات، ولو وقف المُربي موقف المُحصي المتصيِّدِ للزلات والأخطاء، لتعِب وأتعَب.
مفهوم التغافل
إنّ التغافل خُلق كريم، وهو أدب السّادة والعظماء ويُقصد به: غض الطرف عن الهفوات وعدم إحصاء السيئات، والترفع عن الصغائر، وهو- أيضًا- تعمد الغفلة مع العلم والإدراك لما يتغافل عنه تكرمًا وترفعًا عن سفاسف الأمور.
وهو التّرفع عن الدنايا وسفاسف الأمور وهفواتها التي لا تغير الحقائق ولا تبدد الحقوق ولا تحط من الكرامة ولا تقر مُنكرًا ولا تنكر معروفًا ولا تؤصل لحق أو تدفع باطلًا.
وجاء في المعجم الوسيط: تغافل فلان: تظاهر بالغفلة أو تعمَّدَها؛ أي بالسَّهو وقلَّة التَّيقّظ. وهذا الرجلُ ليس مُغفَّلاً ولكنه يتغافل.
التغافل في الشرع
ولا شك أنّ التغافل فن من فنون التعامل مع الناس لا يتقنه إلا كل حليم، وهو المعنى الذي حث الله سبحانه نبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- وأتباعه بالتحلي به حينما قال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
وهو الأمر الذي أمره به فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقال أيضًا: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215].
وقال تعالى للمؤمنين:{فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 109].
وسُئِلت عائشة أم المؤمنين- رضي الله عنها- عن خُلُقِ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قالت: “لم يكن فاحشًا ولا مُتَفَحِّشًا ولا صَخَّابًا في الأسواقِ، ولا يَجْزِي بالسيئةِ السيئةَ، ولكن يَعْفُو ويَصْفَحُ” (رواه الترمذي).
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: “خدمتُ النبيَّ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- عشرَ سنينَ، فما قال لي أُفٍّ قطُّ، وما قال لي لشيٍء لِمَ أفعلْهُ: ألا كنتَ فعلتَه؟ ولا لشيٍء فعلتُه: لِمَ فعلتَه؟” (رواه الألباني بإسناد صحيح).
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر” (رواه الترمذي).
الفرق بين التجاهل والتّغافل
وبَيْن التغافل والتجاهل شعره قد لا يُدركها جميع الناس، فالتّغافل خُلُق قويم ومن الأخلاق الحسنة التي حثّ عليها الشرع الحنيف بخلاف التجاهل، وهو يحمل رسالة وُد واحترام كون الإنسان تظاهر بالغفلة أو تعمَّدَها، وهو غير التجاهل الذي يحمل إهمالًا وازدراءً وعدمَ اكتراث للآخر وكأنه لا يعرفه بل ويتنكر له.
والتّغافل يكون من شخص لشخص مُحب، أو ذي قرابة، كأن يرتكب خطأ فنتغافل عن ذلك كأنه لم يفعله، أما التجاهل يكون مع مَن نصادفهم في حياتنا العابرة، ممن أساء وأخطأ، فنتجاهله كأنه لا يعني لنا هذا الشخص شيئًا، وهو مطلوب في بعض الأحيان مع بعض الناس حتى يقفوا على قدرهم، وحتى لا يكرروا خطأهم ويستمرئوا الأمر.
والتّغَافل خُلق يصاحب الإنسان حتى يستمر الوُد، لكن التّجاهل قد يكون علاجًا حتى تتبدل أحوال الشخص وينصلح حاله ويعود إلى رُشده ويعتذر عمّا بدر منه من أخطاء، أو قد يكون تجاهلًا لبعض الذكريات المُؤلمة التي مرّ بها، أو كلمات مُسيئة قذف بها المرء قد يتجاهلها حتى لا يعطيها وزنها.
وقد ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في قوله عندما كان يشتمه كفار قريش وينادونه مذممًا، فما كان منه إلا أنه قال: “أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؛ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ” (البخاري).
ويقول ابن الجوزي: “ما يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فإنّ الناس مجبولون على الزلات والأخطاء، فإن اهتم المرء بكل زلة وخطيئة تعب وأتعب، والعاقل الذكي من لا يدقّق في كل صغيرة وكبيرة، مع أهله، أحبابه، أصحابه، جيرانه، وزملائه، كي تحلو مجالسته، وتصفو عشرته”.
تغافل المربين
إن كان التغافل لعامة الناس مهم فهو أهم للمربين والوالدين والمعلمين، فهم قدوة لمَن يُربّون، وصورة مشرقة أمام مَن يتعلمون منهم، لذا لا بُد للمربي والوالدين من التحلي بهذا الخلق، وبخاصة مع الأطفال لأنه في بداية حياتهم ويعتمدون على التجربة والتقليد وقد تكثر منهم الزلات والأخطاء- وهو أمر طبيعي-.
وعلينا أن ندرك أن بعض الأخطاء قد تكون عن غير عمد كتعثر الطفل في سجاد المنزل أو كسر شيء دون قصد وغيرها، وهنا لا بُد من تغافل الوالدين أو المربي عن الانفعال أو الغضب لمجرد فعل مثل هذه الأمور.
وممارسة التّغافل تُقلّل من انتقاداتنا لأولادنا وتغرس فيه قوة الشخصية وحرية التعبير ويسود الود بين الوالدين وأبنائهم، ولا تجعلهم يتجنّبون أو يخافون مِن والدهم أو يعزفون عن البوح بمشكلاتهم.
والتّغافل هو تجاهل لسلوك الابن المخطئ فقط حتى ينتهي، ومن ثم محاورته بلطف لمعالجة الموقف، وليس كل سلوك خاطئ يُفضّل تجاهله، فمواقف التعدي على الغير أو انتهاك حقوق الله تستلزم التدخل المباشر “الحكيم”.
صور التغافل وأهميته
والعلاقات بين البشر، مثلما تحتاج لقلوب واعية صافية نقية كي تنمو وتستمر، فكذلك تحتاج لعقول يقظة فطنة تدعم توجهات ومشاعر تلك القلوب، وورد عن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- أن العقل ثلثه فطنة، وثلثاه تغافل، ما يعني أن استخدام العقل عبر مهارات الكياسة والفطنة والتّغافل في تعزيز وتقوية العلاقات، هو أمر حيوي لا بُد منه.
غير أن التغافل له صور لا بُد من أن ندركها كونه تغافلًا محمودًا وآخر مذمومًا قد يدخل الإنسان في دائرة المعصية، فهناك:
- غفلة محمودة: وهي التي يتغافل بها الإنسان عن الزلات التي تحدث من الآخرين، ويهجر بها الأخطاء وصغائر الأمور ولا يُلقي لها بالًا وكأنها لم تكن.
- غفلة غير محمودة: وهي التي يُبتعد فيها عن أوامر الله ثمّ الشرع، وإذا ذُكر لم يلقَ لذلك اهتمامًا وعناية، والفرق بينهما كبير وعلى المسلم الأخذ بما هو محمود.
وبلا شك فإنّ خُلق التّغافل له فوائد كثيرة، سواء على الإنسان أو على المجتمع ومنها:
- أنّ الله- سبحانه وتعالى- مدح عباده المؤمنين بهذه الصفات في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}.
- يُكسب الإنسان طمأنينة له ولمَن حوله وراحة في البال.
- يساعد على غلق باب النكد والشقاء على صاحبه وهو ما عبر عنه الإمام علي كرم الله وجهه بقوله: “من لم يتغافل تنغصت عيشته”.
- يساعد على دوام العشرة والمودة، وبخاصة بين الأقارب والأصدقاء والمحيطين بنا فمعظم العلاقات انقطعت بسبب تتبع الأخطاء والعثرات.
- يطفئ الشر، لأن إحصاء كل صغيرة وكبيرة أمر لا يُطيقه الصغير قبل الكبير، فعدم التجاهل والتغاضي عن العديد من المواقف يشعل نار الغضب والشحناء والشر في القلوب.
- وهو يُكسب صاحبه الاحترام والتقدير، فالشخص الذي يتعامل به، ويغض الطرف عن الزلات، ويتجاهل عيوب الآخرين يعيش محبوبًا ممّن حوله.
- يجعل الإنسان يُفكّر ويعطيه المزيد من الوقت لكي يدرس المشكلة من جميع جوانبها.
- يُشعر الابن بهذا السلوك الجميل من والديه ويجله ويقدره ويبادر بالمصالحة والاعتذار لوالديه ولا يعود لخطأه مجددًا.
- يجعل الشخص المتغافل إيجابيًا، ويتبنى لغة التشجيع والترغيب، ويُسهم في الإصلاح، وتغيير المجتمع من حوله بفكره الإيجابي.
طرق اكتساب فن التغافل
التغافل من الصفات والمهارات التي ترتقي وتنمو بالتدريب والتعلم، ويمكن ذلك بالآتي:
- إدراك أننا مختلفون: وذلك من أهم الأمور التي تجعل الإنسان يتقبل الآخر وتصرفاته، فبعض الأمور التي نراها مُزعجة قد تكون لدى آخرين أمورًا عادية وهو المعنى الذي ذكرنا به الله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118].
- عليك أن تكون شخصًا واقعيًّا ولا تتوقع أن جميع الأفراد الذين قابلتهم أو الذين سوف تقابلهم يتمتعون بالشخصية المثالية.
- التركيز في الصفات الجيِّدة في الآخرين: كل إنسان يملك من الصفات السيِّئة والجيدة؛ لذا من المفيد أن تُحاول تجنُّب ذكر الصفات السيئة لدى الآخرين؛ بل حاول أن تستحضر كل صفة جيِّدة عند الإنسان الآخر وتُشجّعه عليها وتمدح وجودها عنده، تلك الطريقة ستجعل تعاملك معه أفضل.
- التحلي بالذكاء العاطفي وإدارة انفعالاتنا بشكل جيد والحكمة في التنازل عن بعض الأشياء بغية الحفاظ على علاقاتنا مع الآخرين.
- يجب أن تحسن اختيار معاركك جيدًّا: فالنجاح ليس أن تأخذ كل المعارك وتفوز بها وحدك، لأنّ كل المعارك ليست مهمة، بل في بعض الأحيان من الحكمة تجنب بعضها لاستمرار العلاقة وربما تغافلك سيحل المشكلة دون أن تشعر.
من الأهمية بمكان إدراك أن الغضب أو الانفعالات لن تأتي دائمًا بخير، لذا على المربي أن يتحلى بالتغافل والتجاهل، والهدوء والابتسام، والبعد عن الغضب والتوتر والترصد حتى تستقر الحياة، وتسير الأمور بسلام، ويمرر هذه المهارة بالقدوة والتوجيه للأولاد والمتربين.
المصادر والمراجع:
- محمد عبد الرحمن صادق: لا خاب من تغافل، 27 أبريل 2017.
- إسلام ويب: الـتــغــافـل والـتــجــاهـل: 27 سبتمبر 2018.
- عماد حجازي: التغافل كمهارة تربوية، 14 مارس 2017.
- أسماء أبو غنيمة: فن التغافل والتجاهل.
- إيمان الزغول: مفهوم خلق التغافل في الإسلام، 15 مارس 2022.
- جاسم بن محمد المطوع: التغاضي ضروري للحياة الزوجية، 5 أبريل 2017.
- موقع النجاح: فن التغافل.. فوائده وطرق اكتسابه: 15 مايو 2022.
1 comments
جزاكم الله خيرا. موضوع مفيد وحساس. شكر الله سعيكم.