ترتكز الأمة في بناء نهضتها وشهودها الحضاري على تراثها الذي خلّفته قرائح أبنائها عبر التاريخ، وأمتنا تملك تراثًا تربويًا كبيرًا، لابد من الإفادة منه، والبناء عليه بعد تحقيقه ودراسته وفرزه. وهناك مبادئ للتعامل مع هذا التراث وضعها المتخصصون في هذا المجال. كما يجب أن يكون الهدف من دراسة التراث التربوي الإسلامي واضحًا، في ظل فهم الاتجاهات والمدارس الفكرية داخل هذا التراث، والطرائق الممكنة لدراسته. والغاية من ذلك كله؛ بناء فكر تربوي معاصر، لا يتنكر للقديم ولا يرفض الجديد، الذي لا يتعارض مع ثوابت الأمة وقيمها.
مبادئ حاكمة للتعامل مع التراث
موضوع التراث التربوي الإسلامي هو أحد موضوعات التعليم والبحث العلمي التي تحتاج إلى العناية والاهتمام، وذلك ليكون وسيلة لبناء فكر تربوي إسلامي معاصر. يأخذ من التراث ما يلزم أخذه. في ضوء بعض المبادئ الحاكمة التي تتمثل في الآتي:
- لا ندرس التراث على أنه غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة، ويمكن أن يخضع للنقد والتمحيص أو التغيير.
- عدم الخلط بين ثوابت الأمة الموروثة (القرآن والسنة النبوية) ومتغيرات التراث التي هي من صنع البشر، حتى تنتفي عن التراث صفة الإبداع الإنساني.
- لا ينبغي اعتبار التراث مستقلًا عن الواقع، فهو جزء منه.
- التراث ليس كلًا لا يتجزأ، إنما يؤخذ منه ويُترك.
- ضرورة البعد عن التعصب للموروث دون مسوغ أو منطق، والحرص على الأخذ من الوافد بما يفيد الأمة، في ظل ثوابتها ومعتقداتها.
الفرق بين الفكر التربوي والتراث التربوي
يذهب الدكتور فتحي حسن ملكاوي، إلى أن الفكر التربوي يعني الآراء والمعتقدات والأهداف التي تحكم الممارسات التي تستهدف تنشئة الأبناء وإعدادهم لمسؤوليات الحياة، بعمليات وأساليب مقصودة تتم في الأسرة، وفي مؤسسات التعليم والتدريب والتوجيه والتثقيف والتوعية في المجتمع.
أما التراث التربوي الإسلامي- في هذا السياق- فهو ما كتبه العلماء والمفكرون المسلمون في موضوعات التربية والتعليم لتنمية أفراد الأمة صغارًا وكبارًا لما يلزمهم في حياتهم الدينية والدنيوية في هذه الحياة، ويقربهم من ثواب الله في الآخرة، من مصنفات فقهية، وكلامية، حديثية، وتاريخية، وأدبية، وصوفية، فلسفية وغيرها، بعد عصر الرسالة، حتى القرن الثالث عشر الهجري. على اعتبار أن ما كتبه العلماء والمفكرون المسلمون بعد القرن الثالث عشر كان متأثرًا- قليلًا أو كثيرًا- بما سمي الصدمة الحضارية والفكرية مع الغرب.
والتراث التربوي الإسلامي في أي مرحلة من مراحله هو بنية من ثلاثة عناصر: الفكر التربوي الذي كان موضوع التعليم، والممارسة التعليمية والتربوية نفسها، والسياق التاريخي مكانًا وزمانًا وأحوالًا؛ أي أن التراث التربوي فكر وتربية وتاريخ.
أهداف دراسة التراث التربوي الإسلامي
إن التراث التربوي الإسلامي يمثل منبعًا أصيلًا لحركة بناء الشخصية المسلمة وتطورها عبر الزمن، نظرًا لما يمثله من عناصر ثابتة وأصيلة في هذا البناء، وهو ما يرتبط بالهوية العقدية والثقافية، وما ترتبط به من أبعاد اجتماعية ونفسية ووجدانية وجمالية. من هنا كانت أهمية دراسة هذا التراث.
ومهما اختلفت الآراء بشأن هذا التراث وتحديده ومنهجيات تجديده، وطريقة تناوله، والهدف الذي من أجله يدرس التراث، فإن الشيء الأساسي الذي يجب التأكيد عليه بحيوية وإصرار هو أن هذا الاهتمام إنما ينصب عليه باعتباره صرحًا لحماية هوية الأمة الإسلامية يشدها إلى مقوماتها الأساسية التي إما أن تظل فاعلة فينا ونظل أوفياء لها فتعطينا الإرادة للمحافظة على وجودنا، وإما أن نضيعها فنضيع ونتوه كما تاه أقوام قبلنا وبعدنا. ويمكن أن نحدد أهداف دراسة التراث التربوي الإسلامي فيما يلي:
- تكوين الوعي بحقيقة التراث التربوي الإسلامي ومكوناته وقضاياه ودوره في صنع الماضي والحاضر الإيجابي والسلبي منه على السواء.
- تمييز الثابت من المتغير في هذا التراث، حتى يظل الثابت ثابتًا وإن اختلفت طريقة تناوله. وليفيد المتغير حركة الفكر وخطواته نحو آفاق أكثر رحابة.
- توضيح الإسهامات المتنوعة للمفكرين المسلمين وغير المسلمين في الفكر التربوي العربي الإسلامي ودورهم الفاعل في تناول قضايا التربية وإطارها الفكري والواقعي.
- توضيح أبعاد الفكر التربوي التراثي وخبرته في مواجهة مشكلات الواقع التربوي التي عاصرها فكرًا وتطبيقًا حتى تتضح المتغيرات التي لعبت دورها في صياغة هذا الفكر وبلورته.
- تقريب التراث التربوي من واقع الناس وأفهامهم في ظل الحياة المعاصرة. ويقتضي هذا أن يتوجه خطاب الدارسين له لكسر حلقة العزلة المفروضة على هذا التراث.
- توضيح أبعاد وأصول وسياقات الخبرة التربوية الدينية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية حتى لا يساء فهمها.
- استخلاص المفاهيم والمدركات الفكرية التربوية التراثية المقارنة أو المطابقة للمفاهيم والمدركات المستعملة والشائعة في الساحة الفكرية الإسلامية أو العالمية على أن لا يكون ذلك تهويمًا فكريًا للبحث عن موضوع للتراث في الفكر التربوي المعاصر؛ لأن الدراسة في هذه الحالة ستأتي غير موضوعية على الإطلاق.
الاتجاهات والمدارس الفكرية داخل تراثنا التربوي
تتعدد الاتجاهات والمدارس الفكرية داخل تراثنا التربوي؛ مما يدل على القوة والعافية التي أتاحت لكل تلك الاتجاهات والمدارس أن يكون لها إسهامات في مجال التربية خلال عصور الازدهار الإسلامي. ويمكن من خلال ما هو متاح حاليًا، وهو قليل، أن نرصد عدة اتجاهات ومدارس فكرية داخل هذا التراث المتاح، ولا شك أن معرفتنا سوف تزداد اتساعًا وعمقًا كلما درسنا هذا التراث أكثر، واكتشفنا الجديد فيه. وتتمثل أهم هذه الاتجاهات وتلك المدارس في: الاتجاه الفقهي والحديثي، والاتجاه الفلسفي في التربية، والاتجاه الصوفي في التربية، والاتجاه الكلامي في التربية، واتجاه المؤرخين في التربية.
وقد برزت اتجاهات جديدة يمكن رصدها من خلال دراسة ما استجد من معرفتنا بهذا التراث، وعلى سبيل المثال لا الحصر فنحن نستطيع أن نميز الآن بين: اتجاه اجتماعي في التربية، واتجاه أدبي في التربية، واتجاه شيعي في التربية، واتجاه علمي في التربية، و اتجاه حرفي ومهني في التربية… إلخ.
طرائق دراسة التراث التربوي الإسلامي
لدراسة التراث التربوي الإسلامي عدة طرائق، على مستويين:
أولًا: على مستوى التحقيق:
- المسح الشامل لكل كتب التراث التربوي الإسلامي، سواء في داخل العالم العربي أو العالم الإسلامي أو دول العالم الأخرى؛ بحيث نحدد بالضبط ما يوجد من مخطوطات عربية تتعلق بالتربية لدى الأفراد والمكتبات في داخل العالم العربي وخارجه، فإذا تم هذا المسح الشامل لتلك المخطوطات، وحصرنا أعدادها ومحتوياتها وأشهر المهتمين من الباحثين والناشرين بأمر تلك المخطوطات؛ انتقلنا للمرحلة التالية.
- مرحلة الجمع لتلك المخطوطات في مركز خاص بدراسات التراث التربوي العربي الإسلامي، وسيكون هذا الجمع لها عن طريق الشراء أو التصوير، ويقوم المركز بعد الحصول على المخطوطات بفهرسته وتحديد موضوعه المهم ورؤوس موضوعاته.
- مرحلة النشر والتحقيق والخدمة: فبعد توافر حصيلة من المخطوطات تبدأ عملية التحقيق والنشر بطريقة علمية تحليلية؛ إذ لا يكتفي المركز بنشر المخطوط، بل لا بد من التحقيق والتعليقات العلمية وتحليل ودراسة المحتوى الفكري لكل مخطوط.
ثانيًا: على مستوى الدراسات:
- دراسة أحد أعلام التربية الإسلامية والتعريف بهؤلاء الأعلام، مع عرض آرائهم التربوية في الإنسان والكون والمعرفة والأخلاق والمجتمع، وأهداف التربية، والمنهج، وطرق التدريس، وغير ذلك من الموضوعات التربوية التي تناولها التراث التربوي لهؤلاء الأعلام.
- الكشف عن الإسهامات التربوية للعلماء المسلمين في مجال التربية، سواء اتخذت تلك الدراسات الطريقة الطولية عبر العصور للحديث عن تلك الإسهامات، أم اتخذت الطريقة العرضية حسب موضوع تلك المساهمات.
- نشر نصوص مختارة من التراث التربوي الإسلامي.
ولكي يمكننا الاستفادة الكاملة من تراثنا التربوي والنفسي فإن المشتغلين بهذا الميدان لا بد لهم من الجمع بين الثقافة الإسلامية الواسعة بعلومها المختلفة وفروعها العديدة؛ حتى يمكنهم التعامل مع هذا التراث فهمًا وتحقيقًا واستيعابًا لكل قيمه ومعانيه ومدلولاته، وفي نفس الوقت فلا بد لهم من اتصال وثيق بالفكر التربوي والنفسي المعاصر، وبكل ما وصل إليه هذا الفكر من أبحاث وآراء ونظريات، ومراجعة التراث التربوي الإسلامي باعتباره نتاجًا بشريًا، فنأخذ منه وندع، للوصول في النهاية إلى بناء فكر تربوي معاصر، له تميزه في معالجة ما تحتاج إليه أمتنا المسلمة، وفق المصادر الثابتة: القرآن والسنة النبوية، وآراء علماء المسلمين.
المصادر والمراجع:
- الفكر التربوي الإسلامي: مفاهيمه، ومصادره، وخصائصه، وسبل علاجه . د. فتحي حسن ملكاوي. عمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي. 2019.
- منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي.. دراسة تحليلية . د. حسان عبد الله حسان. مجلة دراسات عربية في التربية وعلم النفس، يونيو 2015.
- منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي: طبيعته، محدداته، تقويمه. علي خليل أبو العينين. مجلة المسلم المعاصر. العدد 105- 1 سبتمبر 2002.
- منهجية التعامل مع التراث التربوي الإسلامي.. طبيعته وتقويمه. د. عبد الرحمن النقيب. مجلة المسلم المعاصر. العدد 99 – 14 يناير 2001.
- كيف نتعامل مع الموروث التربوي الإسلامي. د. سعيد إسماعيل علي. مجلة المسلم المعاصر. السنة السادسة والعشرون، العدد 104، يوليو 2002.