تهتم الشريعة الإسلامية بالتربية على الوسطية والاعتدال، لتجنب الانحراف عن الطريق المستقيم والتردي في متاهات الغيّ والضلال؛ فهي شريعة تنشد الاعتدال في كل ما يخص الرّوحانيات والأخلاق والتعاملات، دون تفريطٍ في الواجبات والمسؤوليات والفرائض، أو إفراط يحمل على المغالاة.
ولا شك أنّ هذه التربية تؤصل اعتزاز الإنسان بنفسه واعتداده بها، ورفضه للخنوع والاستسلام والذل والخضوع، كونها تُحافظ على كينونة الطبيعة الإنسانيّة التي تَحكمها الكرامة وعزّة النّفس ونَبذ القبيح وحُب الفضيلة والسّماحة، والأخذ بسُبل الحكمة والموعظة الحسنة التي يتقبّلها العقل ويخفق لها القلب.
مفهوم الوسطية وتأصيلها شرعا
ومفهوم الوسطية يأتي من (وسط) الواو والسين والطاء: بناء صحيح يدل على العدل والنصف، وأعدل الشيء: أوسطه ووسطه، وسطت القوم أسطهم وسطًا وسطة، أي: توسطتهم وفلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم- أي أفضلهم- نسبًا، والأصبع الوسطى، والتوسيط: أن تجعل الشيء في الوسط، والتوسيط: قطع الشيء نصفين، والتوسط بين الناس من الوساطة، والوسط من كل شيء: أعدله.
وأما عن المعنى الاصطلاحي، فتعني الاعتدال والتوازن، ويعنى بها: التعادل بين طرفين متقابلين أو متضادين دون إفراط أو تفريط، بحيث لا ينفرد أحدهما بالتأثير ويطرد الطرف المقابل، وبحيث لا يأخذ أحد الطرفين أكثر من حقه، ويطغى على مقابله ويحيف عليه، وهذه الوسطية هي العدل والطريق الأوسط الذي تجتمع عنده الفضيلة.
وأكد القرآن الكريم أهمية الاعتدال والتوسط، قال الله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة:١٤٣]. وفي قول للطبري أن التأويل جاء بأن الوسط العدل، وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم، ووصف الله- عز وجل- الإسلام بالوسط لتوسطهم بالدين، وقول الطبري هنا لدليل كبير على أن العدل من ملامح الوسطية.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ) [المائدة:٨]. دلت هذه الآية على العدل، الذي هو ملمح أساس من ملامح الوسَطيّة، ليس مع النفس والأقارب فحسب، بل مع الأعداء حيث حثنا على عدم ترك العدل وإيثار العدوان على الحق، فلقد أمر بالعدل مع العدو وإن أبغضناه، وألا نتجاوز بالعدوان، فاستعمال العدل مع كل أحد صديقًا كان أو عدوًا.
ولمّا كانت الوسطية جامعة لكثير من الخصال الطيبة، فقد ورد الحث عليها في السُّنة النّبوية، فالمؤمنون المنتسبون لهذه الأمة المحمدية يؤمنون برسل الله جميعِهم، ويُعزِّرونهم ويُوقِّرونهم، ويُحبُّونهم ويُوالونهم، ولم يعبدوهم من دون الله، ولم يتَّخذوهم أربابًا من دون الله تعالى، فهم بذلك وسط في جانب النبوة بين إفراط اليهود وتفريط النصارى، فعن ابنٍ عَبَّاسٍ- رضي الله عنهما-؛ أنه سَمِعَ عُمَرَ- رضي الله عنه- يقولُ- على الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ النبيَّ- صلى الله عليه وسلم- يقول: “لاَ تُطْرُونِي كما أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ” (البخاري).
وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَحْرِيفَ الْغَالِينَ” (البيهقي وصححه الألباني).
وعن أبي هريرة- رضي الله عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة” (البخاري).
مجالات الوسطية
وتتعدد مجالات الوسطية في الإسلام لتشمل الآتي:
- الإيمان: فالنبي- صلى الله عليه وسلم- وأتباعه المؤمنون يؤمنون بجميع الرسل والكتب المنزلة؛ كما أخبر الله تعالى عنهم في كتابه العزيز: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285]. وكما بيَّن النبيُّ- صلى الله عليه وسلم- في حدِّ الإيمان الواجب على الأمة: “أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ” (مسلم).
- أداء العبادات: فعن أَنَسَ بن مَالِكٍ- رضي الله عنه- قال: جاء ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ- صلى الله عليه وسلم-، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قَدْ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ! قال أَحَدُهُمْ: أَمَّا أنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وقال آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أُفْطِرُ. وقال آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقال: “أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا واللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي” (البخاري).
- السلوك الإنساني: وذلك بالتوفيق بين حظ الدين وحظ الدنيا، وبين حق النفس والعقل والبدن، وبين حق الله وحقوق العباد.. قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77]
- الدعوة: وهي تقوم على مبدأين: التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، وهذا أصله ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه-: “أنَّ النَّبيَّ- صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بعَثه ومُعاذَ بنَ جبلٍ إلى اليَمنِ فقال لهما: بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا”.
- التجديد والاجتهاد: وهذه تقوم على ركنين: ارتباط بالأصل، واتصال بالعصر، أما الارتباط بالأصل فهو الارتباط بهذه المرجعية الشرعية التي تقوم على الثوابت في المقاصد الكبرى: وهي الحفاظ على الدين، وعلى النفس، وعلى العقل، والمال، والنسل أو العرض.. والمحافظة على قطعيات الشريعة وأحكامها، وعلى الفرائض الركنية وعلى القيم الخلقية.
- الأحكام: وهي تقوم على تعظيم الأصول وتيسير الفروع؛ لأن تعظيم الأصول يدخل في قوله تعالى: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:32]، وهذا يقتضي أن من يتصدر للفتوى في الأحكام ينبغي عليه أن يكون متأهلا لها، ومن تكلم في الأحكام بلا رسوخ قدم فقد جازف، وربما أوقع الناس في الفتنة والبلبلة والاضطراب في قضايا الأمة العليا ومصالحها الكبرى.
- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهو من أسباب خيرية هذه الأمة بل هو أساسها: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)[آل عمران:110]. لكن لا بد من النظر إلى المآلات والآثار التي تترتب على الأمر والنهي، فإذا كانت المفاسد أكثر من المصالح لم يجز الإنكار.
- الزواج: حيث راعت الشريعة الإسلامية مصالح العباد في تشريعه، والفطرة البشرية، والتوازن النفسي والاجتماعي، والزواج ميثاق غليظ، مؤكَّد عليه في الشريعة، وتترتب عليه حقوق وواجبات وشروط وأحكام؛ من مرحلة الخِطبة ومرورًا بالعقد إلى العشرة الزوجية، وأحكام الزواج وشروطه وأركانه وواجباته وآدابه فيها من الاعتدال والوسطية الشيء الكثير؛ لذا جعله النبي- صلى الله عليه وسلم- من سُنَّته المباركة، وأنكر على الرجل الذي لا يُريد الزواج بحجَّة العبادة.
- الطلاق: جاءت الشريعة الإسلامية بالوسطية في تشريع الطلاق والذي يُعتبر أكثر واقعية واستيعاباً لمشاكل المرأة والرجل على حدٍّ سواء.
ثمار على الفرد والمجتمع
وتكون الوسطية من أهم الأسباب الداعية إلى الاستقرار والوئام، وإسعاد الفرد والجماعة، وتقدم المدنية وازدهار الحضارة، ومن أهم هذه الثمار:
- انتشار التقارب والتعايش بين الناس: حيث إنّ الوسَطيّة مطلوبة في الخطاب الديني بعيدًا عن التشدد والغلو وتحريض الناس، فالرسول- صلى الله عليه وسلم- خاطب جميع الفئات وعاش معها، فعاش في مكة مع الكفار، وكذلك في المدينة أبرم عهدًا مع اليهود، وتعايش معهم تحت سقف دولة واحدة.
- نبذ العصبية والدعوة إلى الحوار وتقبل الآخر: فهذا الأمر مطلوب بين التيارات والجماعات والفئات الإسلامية لجمع كلمتهم وتوحيد صفهم، وقد نبذ الرسول العصبية القبلية الضيقة حيث قال لأبي ذر- رضي الله عنه-: “إنك امرؤ فيك جاهلية” (البخاري).
- التعايش السلمي داخل المجتمع المسلم: فالوسطيّة في الخطاب الديني تنشر المحبة بين المجتمع والطوائف المختلفة تحت شعار: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (البخاري).
- ترشيد الخطاب الديني: وهو المبتغى تحقيقًا لشعار “يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا”، ومن ثم يتم قبول الخطاب من الناس، ويترجم إلى عمل بعيدًا عن المناكفات المذهبية والطائفية، ويبدأ الناس بداية جادة بالبحث عن الخير للبشرية جمعاء.
- انتشار القيم والمبادئ العظيمة الداعية إلى التسامح: وحب الخير للآخرين، ونشر ثقافة التسامح ونبذ الأحقاد والغل فيما بيننا مصداقًا لقوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر:10].
- انتشار الأمن والأمان بين المجتمع: حيث إن محاربة الأفكار الهدامة الداعية إلى الإخلال بالأمن والسلم المجتمعي مطلب لبقاء البشرية، ومطلب للبناء والتعمير للأرض، ونشر الدين وتعليم البشرية دين ربها تعالى.
- التكافل الاجتماعي والتراحم بين المجتمعات: فبالخطاب الديني المعتدل الوسطي المنهج ينتشر التعايش بين الناس والتراحم والتعاطف، فكل واحد يسعى إلى الأجر والمثوبة من الله، وتقديم يد المساعدة للآخرين اقتداء بنبينا- صلى الله عليه وسلم-؛ فإذا التزم الناس والدعاة وأصحاب الخطاب الديني بما سبق كان أدعى للناس إلى التطبيق والتنفيذ ونشر الخير بين الناس.
إنّ الوسطية في الإسلام تعتبر واحدة من أبرز خصائص هذا الدين، وهي- أيضًا- الركيزة الكبرى لهذه الأمة التي ارتضت بالإسلام وشريعته وأحكامه.
مصادر ومراجع:
- الجوهري: الصحاح 3/1167.
- أحمد عمر: معجم اللغة العربية المعاصرة 3/2436.
- الفيومي: المصباح المنير 2/658.
- ابن منظور: لسان العرب 7/426.
- الخوارزمي: المغرب في ترتيب المعرب، ص 484.
- الرازي: مختار الصحاح، ص 338.
- عثمان ضميرية: مدخل لدراسة العقيدة الإسلامية، ص 156.
- الطبري: جامع البيان 3/142.
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 6/110.
- عبد السلام حمود غالب: الوسطية في الخطاب الديني وأثره على المجتمع، ص7.