إنّ التربية العملية أو التربية بالموقف من الوسائل الناجعة في تربية النشء، والقرآن الكريم أرسى قواعد هذه التربية عن طريق مواقف كثيرة ساقها للمسلمين من الأمم السابقة. ولقد ترجم الرسول – صلى الله عليه وسلم- وصحابته هذه المعاني إلى مواقف تربوية سُطّرت في صحائف لتبقى نموذجًا تربويًّا قويمًا تسير عليه الأمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
وعليه، فإنّه يجب على المربي أو الداعية استشعار هذه القيمة، فلا يعاقب المتربي على التصرفات الخاطئة بالصوت العالي أو الضرب، لكن يكون بالموقف العملي. كما يجب أن يكون قدوة في كل تصرف يطرأ للمتربي في حياتهم حتى تثبت القيم بمواقفها العملية في أذهانهم.
أهمية التربية بالموقف
يمر الإنسان بمواقف ومشاهدات كثيرة تُؤثر فيه إيجابًا أو سلبًا، وتعتمد درجة التأثر على كيفية التعامل مع هذه المواقف والاستفادة منها.
ولأهمية التربية بالموقف أنزل الله – عز وجل- القرآن الكريم مُفصلا خلال ثلاث وعشرين سنة، حيث نزل يوافق الأحداث التي كانت تقع للمجتمع المسلم، فكان أثرها أعظم من الكلمات والخطب.
واستغلال المواقف التي يمر بها الطفل وتوظيفها في توجيهه تربويًّا يكون أثرها أكثر بألف نصيحة عابرة ليس لها علاقة بالحالة التي يعيشها الطفل، مثل سائق السيارة الذي يقرأ لوحات تحديد السرعة ولا يستجيب لها، فإذا التقطته كاميرا المراقبة وذهب ليدفع الغرامة المالية يكون قد تلقى درسًا لا ينساه.
يقول الدكتور جاسم المطوع – إعلامي كويتي، رئيس قناة اقرأ الفضائية- “إن هذا النوع من التربية يُمكن أن يمارسه الأب والأم في أي وقت ودون كلفة، وذلك باستثمار أي موقف أو حدث يحدث لهم في أي مكان”.
وترجع أهمية التربية بالموقف إلى كونها تُتيح الفرصة أمام المتربي لاكتساب المهارات التربوية بصورة تدريجية ومنظمة.
والتربية بالموقف تفتح الحوار بين المربي والمتربي؛ ما يؤدي إلى تنامي الأفكار، كما أنها تتيح الفرصة لإثارة الأسئلة، والإجابة عنها، وهو ما يُسمى بالأسلوب العلمي لحل المشكلات. كما أنها فرصة جيدة للمتربي في اكساب المهارات التربوية التي تُمثل الاتجاه الإيجابي نحو صفات جيدة (1).
التربية بالموقف في القرآن والسنة
حفل القرآن الكريم بالكثير من الأحداث والمواقف التربوية الواقعية التي رسمت ملامح الطريق أمام الأمة الإسلامية لتحذو حذو الأمم المؤمنة وتبتعد عمّا جلب على بعض الأمم النقمة.
والأحداث التي استخدمها القرآن الكريم في تربية العصبة المؤمنة لا تكاد تُحصى من كثرتها، منها: تربيتهم من خلال أحداث غزوة بدر، وغزوة أحد، وغزوة حنين، وحادثة الإفك، والمخلفين في غزوة تبوك، وغيرها من الحوادث.
يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله- : “لقد جاء هذا القرآن ليُربي أمة، ويُنشئ مجتمعًا، ويُقيم نظامًا. والتربية تحتاج إلى زمنٍ وإلى تأثرٍ وانفعالٍ بالكلمة، وإلى حركةٍ تُترجم التأثر والانفعال إلى واقع. والنفس البشرية لا تتحول تحوّلا كاملا شاملا بين يوم وليلة بقراءة كتاب كامل شامل للمنهج الجديد. إنما تتأثر يومًا بعد يوم بطرف من هذا المنهج، وتتدرج في مراقيه رويدا رويدا، وتعتاد على حمل تكاليفه شيئا فشيئا، فلا تجفل منه كما تجفل لو قدم لها ضخما ثقيلا عسيرا. وهي تنمو في كل يوم بالوجبة المغذية فتصبح في اليوم التالي أكثر استعدادًا للانتفاع بالوجبة التالية، وأشد قابلية لها والتذاذا بها (2).
ومن آيات القرآن التي أشارت إلى التربية بالموقف، قول الله – تبارك وتعالى-: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف: 31]. قال الطبري في تفسيره للآية، أنها نزلت في الذين كانوا يتعرون عند طوافهم ببيته الحرام، ويبدون عوراتهم هنالك من مشركي العرب، والمحرِّمين منهم أكل ما لم يحرِّمه الله عليهم من حلال رزقه، تبرُّرًا عند نفسه لربه.
وكان منهج التربية بالموقف هو دأب النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- مع الصحابة الكرام، فقد ظهر ذلكً في كثير من المواقف والأحداث، فما ترك النبي موقفًا يمر إلا واستثمره لتربية الصحابة، بل وعلّمهم منه العظات والعبر.
ومن المواقف والأحداث التي استثمرها النبي – صلى الله عليه وآله وسلم- في تربية أمته، موقف ذلك الرجل الأعرابي الذي بال في المسجد فقام الصحابة ليمنعوه، فمنعهم رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم-، وهو ما رواه سيدنا أبو هريرة – رضي الله عنه- بقوله:”أنَّ أعْرَابِيًّا بَالَ في المَسْجِدِ، فَثَارَ إلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا به، فَقالَ لهمْ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: دَعُوهُ، وأَهْرِيقُوا علَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِن مَاءٍ -أوْ سَجْلًا مِن مَاءٍ- فإنَّما بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ ولَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ” (البخاري).
لقد عالج النبي صفات وأخلاق الأعراب بل وصحابته من خلال موقف عملي حدث عفويًّا، ليغرس في الأمة طرق معالجة الأخطاء بالحكمة.
أيضا من المواقف المشهورة التي استثمرها النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم- في تربية الأمة، موقف الشاب الذي جاء للنبي يستأذنه في الزنا، وكاد الصحابة أن يجنوا من طلبه وأن يبطشوا به، لكن النبي قَرّبه منه وطرح عليه أسئلة – تهدم بالحوار الفعال- رغبته الآثمة.
وروى أبو إمامة الباهلي تفاصيل القصة فقال: “إنَّ فَتًى شابًّا أتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آلِه وسلَّمَ، فقالَ: يا رسولَ اللَّهِ، ائذَنْ لي بالزِّنا، فأَقْبلَ القومُ عليه فزَجروهُ، وقالوا: مَهْ! مَهْ! فقالَ: ادنُهْ، فدَنا منهُ قريبًا. قالَ: فجَلسَ، قالَ: أتُحبُّهُ لأُمِّكَ؟ قالَ: لا واللَّهِ، جعَلَني اللَّهُ فِداءَكَ، قالَ: ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لأُمَّهاتِهِم. قالَ: أفتحبُّهُ لابنتِكَ؟ قال: لا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ، جعَلَني اللَّهُ فِداءَكَ، قالَ: ولا النَّاسُ يحبُّونَه لبَناتِهِم. قالَ: أفتُحبُّهُ لأُخْتِكَ؟ قال: لا واللَّهِ، جعَلَني اللَّهُ فِداءَكَ، قالَ: ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لأخواتِهِم. قال: أفتُحبُّهُ لعمَّتِكَ؟ قال: لا واللَّهِ، جعَلَني اللَّهُ فِداءَكَ، قالَ: ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لعمَّاتِهِم. قال: أفتُحبُّه لخالتِكَ؟ قال: لا واللَّهِ، جعَلَني اللَّهُ فِداءَكَ، قالَ: ولا النَّاسُ يُحبُّونَه لخَالاتِهِم. قال: فوَضعَ يدَهُ عليه، وقالَ: اللَّهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قلْبَه، وحَصِّنْ فَرْجَه، فلم يَكُن بَعدُ ذلِك الفَتَى يَلتَفِتُ إلى شيءٍ” (صحيح).
وهذا عمر بن أبي سلمة الذي بموقفه علّم الأمة آداب الطعام، حيث قال: “كُنْتُ غُلَامًا في حَجْرِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ في الصَّحْفَةِ، فَقالَ لي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ فَما زَالَتْ تِلكَ طِعْمَتي بَعْدُ” (صحيح البخاري” (3).
حسن البنا والتّربية بالمواقف
لقد أحسن الإمام الشهيد حسن البنا استغلال التربية بالموقف في تعليم أتباعه والمجتمع الذي يعيش فيه، حيث كان خبيرًا في هذا المجال الذي أَلِفَ به القلوب، ورسّخ مفهوم الحب في الله بين الجميع، ومن هذه المواقف:
يذكر الأستاذ أحمد عيد أنّ الأستاذ عبد الرازق هويدي – عضو الهيئة التأسيسية للإخوان وسليل آل هويدي- استأذن الأستاذ البنا لزيارة جده المريض، فدعا له وتمنى له الشفاء. وفي اليوم التالي فوجئت عائلة هويدي بالأستاذ المرشد يحضر لزيارة جدهم الكبير وكانت مفاجأة أثارت اهتمام العائلة جميعًا فأسرعت ترحب بمقدمه، وكان شباب عائلة هويدي لهم ميول سياسية متباينة فمنهم الوفدي ومنهم السعدي.
وحول سرير الجد الكبير دارت بعض الأحاديث الخفيفة، حيث قال الجد كلمات ترحيب وشكر للأستاذ المرشد ونوه بفضل الإخوان في أنهم جعلوا من الحاج عبد الرازق شخصية إسلامية مؤمنة، فرد الأستاذ المرشد فقال: إنه لا فضل للإخوان في ذلك، فالإخوان والحمد لله يرزقون من كل عائلة كريمة مَن يمثلهم في جماعة الإخوان المسلمين. ونزلت هذه الكلمات الرقيقة الواعية على قلوب الجميع بردًا وسلامًا وتذوقوا منها وبها قيمة الدعوة والداعية (4).
ويذكر الأستاذ عمر بهاء الأميري – الشاعر والسفير السوري وأحد مؤسسي الإخوان بسوريا- أنه كان في زيارة لمصر في صحبة والده الذي حرص أن يُعرفه بالإمام البنا فاصطحبه للمركز العام للإخوان المسلمين وتقابلا مع الإمام الشهيد الذي رحّب بهما بشدة، وفي اليوم الثاني وفي أثناء استقلال الأميري ووالده القطار وقبل التحرك بقليل من محطة مصر وجدا الإمام البنا يأتي مسرعًا حاملا باقة من الزهور، ليقدمها لوالد بهاء الأميري ويودعه، ما ترك هذا الموقف أثرًا بليغًا في نفس الوالد والابن (5).
وفي حرب فلسطين تطوّع أحد الإخوان في كتائب المجاهدين، فظنّ والده أنّ الإمام البنا هو الذي أثّر عليه، فجاء إلى المركز العام ثائرًا، وكلّم الأستاذ بحدة بالغة، فقدر الأستاذ مشاعر الأبوة، وتلطف بالرجل.. فلما همّ الرجل بالانصراف – وكان ضعيف البصر- وقد ترك حذاءه خارج الغرفة، إذا به يُفاجأ بالإمام الشهيد يحمل حذاءه إليه ويضعه تحت قدميه، فقال الرجل: كأنما ألقى عليّ المرشد بعض الماء البارد (يعني أن كل ما في نفسه قد زال) (6).
خصائص التّربية بالمواقف
إن التربية بالموقف لها العديد من الخصائص مثل:
- تربية النفوس المؤمنة بالتوجيه والتحذير والعتاب.
- ربط العلم بالعمل: يقول ابن القيم: “مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقضي وقوع الفعل”.
- الاستفادة من تجارب السابقين التي تدور بين موقفين: إيجابي يؤتسى به، وسلبي يبتعد عنه.
- يستحسن إشراك المتربي في التفاعل مع الأحداث؛ بمطالبته بعمل ملخص للحادثة.
- التدريب التربوي ضرورة لكل مربٍ لمعرفة كيفية التطبيق، وعلى المربي أن يحرص على ألا تتاح له فرصة للتوجيه من خلال الأحداث إلا ويستثمرها في تحقيق أهداف التربية.
- أنها تحول المفاهيم إلى حراك: وهذا ما أقلق المستعمر الغربي كما أقلق أتباعه من العلمانيين واليساريين حيث وجدوا في دعوة الإخوان والإسلام الوسطي دعوة للجهاد وعدم الخنوع لهم.
- تربط النفس بالعمل لا بالنتيجة، وهذا يستمد قيمته من الإخلاص وإصلاح النية، مثل غرس قيمة الثبات عمليا خير من ألف موعظة عن الثبات (7).
أخيرا
المربي بمثابة الموجه لتصرفات غيره، ويدرك أن التربية بالموقف خير من الخُطب والمواعظ، لذا على الوالدين والمربين أن يلبسوا نظارة توظيف الأحداث تربويًّا بدل نظارة النصيحة المباشرة والمجردة للأبناء، لفاعليتها، وبخاصة أنّ الحياة مليئة بالمواقف كل يوم.
المصادر
- منى الشيخ: التربية بالموقف،
- سيد قطب: في ظلال القرآن، ج 5، سورة الفرقان، دار الشروق، القاهرة، صـ 2556.
- صالح عبدالكريم: فن تربية الأبناء (كيف نربي أبنائنا تربية نفسية سليمة)، دار الراية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2011، صـ 162- 166.
- أحمد عيد: مواقف إيمانية على طريق الدعوة، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1408 هـ ، 1988م.
- عباس السيسي: حكايات عن الإخوان، الجزء الثاني، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1998م.
- عمر التلمساني: حسن البنا الملهم الموهوب، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2000م.
- التربية بالأحداث: 4 مارس 2015،