تتنوع المناهج التربوية وتتعدد وفقاً للهدف التربوى و ظروف المتربى وقدرة المربى وملابسات البيئة والمناخ المصاحب لعملية التربية ومن تلك المناهج التربية بالحدث؛ بتلاق الوجدان والشعور مع العقل والذهن في التلقي والاستيعاب.
وأثبتت الدراسات أن التربية التفاعلية مع الأحداث أفضل بكثير من التعليم التلقيني لأنه يثبت المعلومة، ولأن المخ يفكر بالصور، والمعلومات تثبت أكثر إذا استخدم في تثبيتها أكثر من حاسة، وفي التعليم والتربية بالأحداث نرى ونسمع ونتحرك ونلمس؛ وعليه تعد التربية بالأحداث أداة فعالة لتعزيز التعلم وجعله أكثر ارتباطًا بواقع الحياة، مما يساعد الأفراد على تعميق معرفتهم وتقويم أفهامهم وتنمية مهاراتهم وسلوكهم.
ومن هنا نريد أن نتعرض فى هذا الموضوع لمفهوم التربية بالأحداث وننظر في مشروعيته في القرآن والسنة ثم نستعرض طوفان الأقصى كحالة عملية لتطبيق هذا النموذج.
مفهوم التربية بالحدث ومميزاتها
التربية بالأحداث هي نهج تربوي يعتمد على استخدام الأحداث والمواقف الواقعية لاكتساب المعارف وتنمية المهارات وغرس السلوك أو تعديله. وتعتبر التربية باستغلال الأحداث أحد الأساليب المجدية والفعالة للتربية، فالحياة تفاعل دائم مع الأحداث، وأحيانا ما يستغل حدث معين لإعطاء توجيه أو تغيير سلوك معين، تحفيز مشاعر فى اتجاه معين ويتميز منهج التربية بالحدث عن غيره من المناهج بالتالى:
- الرابطة القوية، والعلاقة العضوية ما بين الفكرة والممارسة، والنظر والتطبيق؛ فالأفكارُ تدعو وتدفع للممارسة، والممارسةُ بدورها تخصب الأفكار وتعدلها، وتقوِّمها وتطوِّرُها.
- قوة التأثير وعمقُ الفاعلية للقول والعمل المرتبط بالموقف، أو الناتجِ عن الحدث.
- الاسترداد الذهني، والارتباط الشرطي عند تجدُّد الوقائع المتشابهة، والأحوال المتطابقة.
- إعجاب وتعلُّق المتربي بالقدوات العملية، والرموز الفاعلة، والشخصيات المؤثِّرة فى الحدث مخل عملية التربية.
- اشتراك الفكر والمعرفة، والمشاعر والأحاسيس، والجوارح والحواس في التفاعل والتأثر مع المواقف والأحداث.
تتداعى كل تلك المميزات حين ممارسة هذا النهج خاصة إذا كان الحدث مؤثرًا يهز النفس هزًّا شديدًا، والمربي الناجح المستنير هو من يتحين فرص الأحداث المؤثرة ويستغلها في العملية التربوية فيحقق بها أهدافًا في أوقات قياسية وبعمق وديمومة أكبر.
مشروعية التربية بالأحداث في القرآن والسنة
كان القرآن الكريم يتنزل على المؤمنين حسب الأحداث والوقائع حتى في الأمور الاجتماعية؛ كالطلاق، والزواج، والبيع، والشراء، والصدقة، والإنفاق، والإرث، والهبة، وعلاقة المسلمين مع بعضهم ومع غيرهم، وغير ذلك من قضايا الحياة. وكانت تربية القرآن للمؤمنين بالأحداث منهجا بدأ مع بداية الدعوة والبلاغ لهذا الدين. ومن ذلك قول الله تعالى: (غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)[الرُّومِ: 1- 4]، حيث نزلت هذه الآيات في مكة والمسلمون يتعرضون لأنواع من التعذيب والاضطهاد، فبينت هذه الآيات قدرة الله وسعة سلطانه، وأن الأمر له – سبحانه- وأن النصر حليف المؤمنين الموحدين، وأن العاقبة للمتقين.
ومن ذلك أيضا ما حدث يوم بدر بين المسلمين والمشركين قبل المعركة وأثناءها وبعدها لدليل واضح وبين على ذلك، قال- تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الْأَنْفَالِ: 7- 8]؛ فربّى الله تعالى- بهذا الحدث- المسلمين على معنى إرادة الله الغالبة وقدره النافذ وتدبيره المحكم المتعالى على تدبير البشر لمحدودية علمهم.
وكذلك اتخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أسلوب التربية بالأحداث منهجًا سار عليه في كثير من جوانب التربية الإيمانية والخلقية والسلوكية مع أصحابه، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- قال: ” قَدِمَ علَى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إذَا وجَدَتْ صَبِيًّا في السَّبْيِ أخَذَتْهُ، فألْصَقَتْهُ ببَطْنِهَا وأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أتُرَوْنَ هذِه طَارِحَةً ولَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا، وهي تَقْدِرُ علَى ألَّا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أرْحَمُ بعِبَادِهِ مِن هذِه بوَلَدِهَا”. فاغتنم النبي- صلى الله عليه وسلم- هذا الموقف وهذا الحدث ليبين رحمة الله بعباده فتقوى صلة المؤمنين بربهم، وينشر الأمل والطمأنينة في نفوسهم.
طوفان الأقصى نموذج للتربية بالحدث
تعتبر الحالة الجهادية الفلسطينية- فيما بعد معركة طوفان الأقصى- حدثاً كبيرًا استفز الشعور وحفز الذهن ودفع السلوك في اتجاه مجموعة من القيم والمفاهيم والسلوكيات المختلفة ولم يقتصر هذا أثر هذا الحدث على شريحة سنية دون غيرها ولكنه من الأحداث واسعة التأثير على أفراد الأمة الإسلامية بأطفالها وشبابها وشيوخها كما اتسع تأثيره لغير المسلمين من أصحاب الضمائر الحية.
وهنا وجب على المربي الناجح أن يستغل تلك الحالة في إحداث أثر تربوي عميق في نفوس المتربين وأن يقترب من تحقيق مجموعة من الأهداف التربوية المختلفة في زمن قصير وبشكل أعمق على اختلاف مستويات الأهداف المعرفية والوجدانية والحركية إذ توفر الحالة الجهاديه الآن المناخ المثالي- كركن من أركان العملية التربوية- المحفز لاستكمال بقية أركان العملية ويمكن التمثيل على ذلك من خلال مجموعة من النماذج كالتالي:
النموذج الأول: الثقة فى موعود الله تعالى بالنصر
إذ أن طوفان الأقصى برهن أن الله تعالى لا يخلف وعده حتى لو طال الزمن واستيأس الناس فإن وعد الله تعالى أولى بالثقة فيه من منظور العين ومسموع الأذن ومدرَك العقل “وَمَنْ أَصَْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلُا”، ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” فالله تعالى وعدنا بنصرة المظلومين ولو بعد حين، وعدنا بنصر المسلمين على أعدائهم حتى لو اختلت موازين القوى المادية ولكن بشرط استفراغ الوسع في الإعداد ” وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ”.
وللمربي أن يبتكر الوسائل الإبداعية المتعلقة بالحدث في غرس هذه القيمة في نفس المتربي على حسب مستوى الهدف حيث إن المستوى المعرفي يتطلب وسائل غير المستوى الوجداني أو الحركي، والحدث يوفر ما يكفي من القدوات والنماذج البشرية للمتربي والتي تمثلت بأفعالها وصبرها وجهادها الثقة الثقة في نصر الله تعالى رغم تعاظم الألم وانسداد الأفق مما يسهل دور المربي في التمثيل على النماذج والقدوات من واقعنا المُعاش وهذا أدعى للتفاعل من المتربى مع تلك العملية.
النموذج الثاني: إحياء مفهوم الجهاد
إذ وفر طوفان الاقصى البيئه والمناخ المناسبين لإحياء مفهوم الجهاد في نفوس المتربين خاصةً وأنه من المفاهيم التي كادت أن تتوارى خلف غشاوة الحداثة والغزو الفكري إلا أن الحالة الجهادية أحيته من جديد واستفزت المشاعر والأذهان تجاهه فدفعنا الحدث إلى إعادة التفاعل مع آيات الجهاد: “انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ” ومع سنة النبي- صلى الله عليه وسلم- في الجهاد إذا استدعت جموع الأمة أحاديث مثل ما ورد عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله (ص) قال: ” لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونية وإذا استنفرتم فانفروا” رواه البخاري. وعن أنس بن مالك أنه قال “لغدوة فى سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ” رواه البخاري ومسلم.
وهنا يبدأ المربي فى استثمار الحدث على المستوى المعرفي إذ يحفز المتربين بالوسائل المناسبة المرتبطة بالحدث إلى إدراك معنى المفهوم وشرعيته وحكمه وتاريخه ثم ينتقل إلى وجدان المتربي ومشاعره فيحفزها الى الإقبال على أداء دوره على قدر استطاعته؛ حتى يصل بالمتربي إلى المستوى الحركي الذي يبدأ فيه بأداء المهمة التي أدركها وامتلأ بها شعوره سلفًا مع التأكيد على ربط المتربي الوسائل والمؤثرات بالحدث محل تنفيذ تلك المنهجية ويداوم المربي فى متابعة استقرار المعنى حتى يتخلق بها المتربى فيصبح الخلق والقيمة هيئة راسخة في نفسه مستقرة فى وجدانه.
النموذج الثالث: إحياء مفهوم الأمة
أعاد طوفان الأقصى إلى الوعي الإسلامي مفهوم الأمة كمفهوم أصيل في مواجهة مفاهيم القطرية والحدود الجغرافية والهوية الوطنية التي فرضها علينا الاستعمار واستسلم لها أذياله، وأيقظ الإدراك المخدر في الذات المسلمة فذكرها أننا أمة واحدة ومصير واحد ودين واحد ومقدسات واحدة وغايات واحدة: “إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” كما أيقظ الحدث الإدراك إلى أننا- كأمة إسلامية ما زلنا مستهدفين بمشروع التفتيت للمفتت أصلاً والتقسيم للمقسم سلفاً إمعانا فى محاولة إضعاف وإبعادنا عن مشروعنا الحضارى التوحيدى من مسار المنافسة الحضارية. كما أعاد الحدث التأكيد على أن تجسيد مفهوم الأمة في وحدة إسلامية عامة شعورية وتنظيمية شرط أساسي من شروط إعادة إحياء البعث الحضاري لأمة الإسلام. وقبل الطوفان كان هذا المفهوم يتراجع في الإدراك بمعدلات سريعة وكاد ينتهي.
والحالة الشعورية الآن في عموم الأمة الداعمة للمقاومة تمثل بيئة ملائمة ومناخ مناسب للمربي لتوظيفها تربويًا لإحياء هذا المفهوم في نفوس المتربين على مستوى الإدراك والمعرفة وعلى مستوى الشعور والوجدان كذلك على مستوى السلوك والحركة إذ أن الهدف في نهاية العملية التربوية هو أن يقوم المسلم بما يناط به من أدوار لإسقاط هذا المفهوم على أرض الواقع كلٌ في مجاله وعلى حسب حدوده وقدراته.
إن طوفان الأقصى- كنموذج لمنهجية التربية بالحدث يحمل في طياته من المضامين والمعاني التربوية أكثر من أن يتم استيعابها في موضوع واحد. ولكن الجوهر كان تمثيلًا لأهمية التربية بالحدث ومحاولة إبراز مفهومها ومميزاتها في تعميق غرس المعاني وإدامة أثرها وتسهيل تجسيدها وخلق القدرات والنماذج المعبرة عنها في إطار هذا الحدث.
المراجع والمصادر:
- القرآن الكريم.
- صحيح البخاري.
- صحيح مسلم.
- المنتدى الإسلامي العالمي للتربية، التربية بالأحداث في الإسلام.. تطبيقات وأمثلة.
- رانية نصر، الحصاد التربوي والقيمي الطوفان الأقصى.
- كتاب التربية الإسلامية أصولها ومنهجها ومعلمها، عاطف السيد.