تعتمد عملية التربية بالتلقين على نقل المعرفة من المعلم إلى الطالب بشكل مباشر، دون إتاحة الفرصة للطالب للمشاركة الفاعلة في عملية التعلم، وهو نظام يتميّز بسهولة التطبيق، لأنه لا يتطلب من المعلم مهارات تربوية معقدة، ويتميز- أيضًا- بسرعة نقل المعلومات، والتحكم في العملية التعليمية، وضمان حصول الطلاب على المعلومات المُقررة، لكنه في الوقت نفسه يُواجه رفضًا من فريق آخر، يعتبره مساهما في غياب التعلم النشط، ومقللا من دافعية الطلاب للمشاركة في العملية التعليمية، كما يسهم في ضعف مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب، ويُعيق قدرتهم على حلّ المشكلات واتخاذ القرارات، ولا يراعي الفروق الفردية من حيث سرعة التعلم.
مفهوم التربية بالتلقين
وتُعرف التربية بالتلقين في اللغة بأنها من مصدر لَقِنَ الشيءَ، يَلْقَنُه، لَقْناً، وكذلك الكلام، (وتَلَقَّنه): فَهِمه، (ولَقَّنَه إِياه): فَهَّمه، (وتَلَقَّنته): أَخذته لَقانِيَةً، (وقد لَقَّنَني فلانٌ كلاماً تَلْقِيناً): أَي: فهَّمَني منه ما لم أَفْهَم، (والتَّلْقِين): كالتَّفْهِيم، (وغلامٌ لَقِنٌ): سريعُ الفهم، وفي حديث الهجرة :”ويَبيتُ عندهما عبدُ الله بن أَبي بكر وهو شابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ” أَي: فَهِمٌ، حسَنُ التَّلْقِين لما يسْمَعه”.
وجاء في لسان المحدثين بمعناه الأشهر في عرف المحدثين وهو: “أن يقرأ الراوي على بعض الشيوخ ما ليس من حديث ذلك الشيخ، مدعيا بقوله أو بتصرفه أنه من حديث الشيخ، محاولا إيهامه ذلك. أو يقال في تعريفه: هو أن يقرأ الراوي من كتاب عنده، أو من حفظه- وهو متعمدٌ في الغالب- على الشيخ حديثا ليس من حديثه على أنه من حديثه. والشيخ بعد ذلك إما أن يُقره عليه، أي: يحدثه به، أو ينكره ويقول: ليس هو من حديثي”.
أهمية التربية بالتلقين
وتُعدّ التربية بالتلقين من آكد الوسائل في التربية والتعليم، حيث يُحفّظ المربي الأولاد آيات القرآن الكريم بأن يتلو عليهم المرة تلو الأخرى ثم هم يرددون وراءه التلاوة، وهكذا بالنسبة للحديث النبوي أو الشعر العربي المختار، ويا حبذا لو كان التلقين بالطريقة الجماعية، فإن صوت الجماعة له تأثير قوي في نفوس المتعلمين، وله صدى يملأ الأسماع والصدور، ويساعد على تنمية ملكة حفظ العلم.
ويرى مَن يُفضّلون هذا الأسلوب في التربية أنه كلّما كان الطالب صغيرا كان ذلك أجدى له، وهذ الطريقة الناجحة في التربية والتعليم هي التي خرّجت الأعلام، فما من عَلَم مشهور في تاريخ الثقافة والفكر إلا وكان سبب تفوقه التلقين الذي تم تعويده عليه في صغره، أيام الكتاب وأيام المدارس القديمة التي انتهجت هذه الطريقة في تعلم الأولاد بحيث إذا قلبنا صفحات التاريخ وقرأنا تراجم الشخصيات الكبرى في ساحة الثقافة والفكر وجدنا أن تعليمهم كان بطريقة التلقين والتعويد.
وبهذه الطريقة حفظوا القرآن والحديث والشعر والتاريخ والسير وقواعد اللغة، فلما صاروا كبارا كانت صدورهم كتبا محفوظة منقوشة في قلوبهم يستعيدونها وقتما شاءوا ويسترجعون منها ما أرادوا أن يستشهدوا به في أمور حياتهم.
ويقول الفريق الذي يتبنى أسلوب التلقين في التربية والتعليم، إن تعليم الأطفال والنشء سبيل لإنقاذهم من براثن الجهل والأمية، وتعليمهم لن يتحقق من غير تلقينهم؛ لأن حصول الملكات وتشكُّلها يتوقف على تلقين مبادئ العلوم والفنون.
ويرى هذا الفريق أن تعليم الأطفال وتلقينهم تحرير لهم من سلطة الآخر المستبد، الذي لا يطمئن إلا إذا كانوا جهالاً، لا يفهمون كالأنعام يقتادون ولا يحتجون، كما يرى أن تعليم الأطفال وتلقينهم المعارف والمعلومات حاجة مُلحة، تقتضيها ظروف دينية وأخلاقية واقتصادية واجتماعية، أما التكنولوجيات التي يتبجَّح بها، فلا يعوَّل عليها لتقوم مقام الذاكرة البشرية المبدعة.
ومن رواد هذا الفريق عبد الرحمن ابن خلدون- رحمه الله- الذي قال في مقدته: “اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدًا إذا كان على التدريج، شيئًا فشيئًا، وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائلَ من كل باب في الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقَبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيَّأته لفهْم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانيةً، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود مَلكته، ثم يرجع به وقد شدا، فلا يترك عويصًا ولا مبهمًا ولا منغلقًا إلا وضَّحه، وفتح له مغلقه، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته”.
وحث الإمام الغزالي- رحمه الله- على الاهتمام بعقيدة الطفل، وتلقينه مبادئها منذ صغره، فيقول: “اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوئه؛ ليحفظه حفظًا، ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئًا فشيئًا، فمن فضْل الله على قلب الإنسان أن شرحه في أول نشوئه للإيمان، من غير حاجة إلى حجة أو برهان، وليس الطريق أن يعلم صنعة الجدل والكلام، بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره، وقراءة الحديث ومعانيه، ويشتغل بوظائف العبادات، فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخًا بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه، وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها، وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها”.
وبالجملة، يرى أنصار هذا الأسلوب التربوي أن فوائده كثيرة منها:
- أن الطالب بإمكانه الالتحاق بجميع التخصصات كونها متوفرة.
- بناء شخصية الطالب من حيث نموه العقلي والفكري والاجتماعي من خلال اندماجه مع المجتمع المحيط به.
- إفساح المجال للنقاش والتعبير عن الرأي بشكل موسع.
- تعليم الطلاب القدرة على الاعتماد على النفس في الحصول على المعلومات.
- مهم للطلاب الذين لا ينجزون فروضهم المدرسية ومتابعة الدروس.
- تشجيع مهارة الحفظ لدى الطلاب.
- تدعيم التفكير الإبداعي.
- التطبيق العملي للعلوم التي يتلقاها الطالب.
- له أثر مهم على تنشيط الذاكرة بشكل مستمر، إذ يتم حفظ المعلومات بشكل عام في جانب الذاكرة القصيرة التي تستقبل المعلومات الأولية ومن ثم يتوجب عليه تكرار المعلومات ليتم نقلها في قسم الذاكرة طويلة الأمد.
آراء رافضة
وفي المقابل، هناك آراء رافضة لأسلوب التربية بالتلقين وتعتبره يؤثر على العملية الإبداعية للطلاب، إذ يرون أن يتسبب في:
- إعاقة تامة للعقل البشري، ومنْعه من أن يقوم بواجبه الطبيعي المراد له في خدمة الإنسان، وفْق مختلف الأزمنة والأمكنة.
- يُربي على الخضوع، ويضعف الإدراك، بل يُعطل ملكات الفَهم، وهو منهج لا يتناسب مع ما جدت به التكنولوجيات من وسائل للتخزين والاستيعاب الضخمة، التي تتطور يومًا بعد يوم.
- يصنع إنسانًا مسلوب الإرادة، بحسب قوة التلقين ذاتها.
- ضَعف الإبداع في المجتمع العربي بصورة خاصة، وقوته في حالة المجتمع الغربي، يعود إلى اختلاف في عملية البناء المعرفي.
- أسلوب في التعليم والتثقيف، لا يُعنى إلا بحشو الذهن بالمعلومات، ومخرجاته في أحسن الأحوال متعلمون ذوو اتجاهات تهتم بتكديس النصوص في الذاكرة، دون النظر في محتويات النصوص، وفائدتها في تحسين ظروف المتعلم وزيادة قدراته على التعلم الذاتي.
- يتسبب في شعور الطلاب بالضجر وعدم الرغبة في الذهاب إلى المدرسة.
- يؤدي إلى غياب النقاش والمعاونة بين المعلم والتلاميذ.
- ثقل المسؤولية على الطلاب التي قد لا يحتملها البعض.
- التركيز على إنهاء المنهج الدراسي المتبع دون التركيز على الجوانب الأخرى.
- لا يتم عمل تغذية راجعة حيث إن المعلم يعتمد طريقة التلقين.
- لا يشجع على الابتكار وإنما يقتصر بالالتزام بالمادة الدراسية.
- بعد المسافات التي يعاني منها الطلاب والمعلمين عن أماكن الدراسة فتجعلهم يشعرون بالعبء الدراسي عند استخدام الوسائل المتعلقة بدراسة الطالب بنفسه.
مصادر ومراجع:
- ابن منظور: لسان العرب 13 /390.
- ابن القطان الفاسي: بيان الوهم والإيهام 4 /85.
- الصنعاني: توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار 2 /155.
- محمد خلف سلامة: لسان المحدثين 2 /366.
- كمال الدين عبد الغني المرسي: كتاب من قضايا التربية الدينية في المجتمع الإسلامي، ص 126.
- ابن خلدون: المقدمة، ص 531 – 532.
- أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/94.