ترتبط التربية المهنية بحياة الناس الاجتماعية والاقتصادية وتكمن أهميتها في استمرار المجتمعات البشرية وتنميتها، لذا فقد عرفَها الإنسان منذ العصور البشريّة القديمة التي تميّزت باعتماد الأفراد على أنفسهم، وتطبيق المهارات الذاتيّة التي اكتسبوها خلال تعلّمهم لها سواءً عن طريق التدريب الذاتيّ، أو الاستعانة بخبرات أفرادٍ آخرين في مختلف المجالات العملية.
ولمّا جاء الإسلام لم يغفل هذا النّوع من التّربية، وركّز على أهمية تعلّم الحِرَف، والمهن والصناعات ومزاولة العمل والتجارة، باعتبار ذلك من أشرف وسائل الكسب، فوصلت الأمة الإسلامية إلى درجة عالية من الحضارة والمدنية عندما طبّقت توجيهات الخالق- سبحانه وتعالى- وسنة نبيه الكريم، حيث ربطت العلم بالعمل والعمل بالإيمان، واستغلت جميع طاقاتها الفردية والجماعية.
مفهوم التربية المهنية
تُعرف التربية المهنية بأنها عبارة عن مجموعة من المهارات، والأفكار المرتبطة بتعلم الوسائل، والطرق التي تساعد على تطبيق مهنة ما ضمن بيئة العمل المناسبة لها، أو أنها تأهيل المتعلمين، والأفراد عن طريق تزويدهم بمجموعة من المعلومات عن مختلف المجالات المهنيّة، مثل العمل الحرفيّ، والتجاريّ، والكهربائيّ، وغيرها من المهن الأخرى.
وهي نتاج الجهد الكلي للتعليم العام والمجتمع وهي تهدف إلى مساعدة جميع الأفراد ليصبحوا على ألفة ودراية بقيم العمل وتوظيفها في حياتهم الشخصية بطريق يصبح معها العمل ممكنا ومفيدا وذا معنى.
ويُلخصها البعض بأنها “أداة إعداد الأجيال الحاضرة للمستقبل”، ووفق هذا التعريف تكون هذه التربية جزءا لا يتجزأ من نظام التربية، بل إنها إحدى المكونات الأساسية له، على اعتبار أنها تلعب الدور الأساسي في هذا الإعداد من خلال ربط التربية والتعليم بمجالات العمل والإنتاج للوصول إلى التكامل المفترض بين النظرية والتطبيق.
التربية المهنية في القرآن والسنة
ونظرًا لأهمية التربية المهنية في بناء الأفراد والمجتمعات، فقد حظيت بمكانة كبيرة في القرآن الكريم والسنة النبوية، حيث إن العمل ينطلق من كونه فعلًا خلّاقًا ورسالة إنسانية تساوي الحياة واستمرارية العيش فيها كدار تكليف وامتحان وعبادة، قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10)،
قال السعدي: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) لطلب المكاسب والتجارات ولما كان الاشتغال في التجارة، مظنة الغفلة عن ذكر الله، أمر الله بالإكثار من ذكره، فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} أي في حال قيامكم وقعودكم وعلى جنوبكم، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فإن الإكثار من ذكر الله أكبر أسباب الفلاح.
وحثّت كثير من آيات القرآن الكريم على الكسب بصيغة الأمر، ويتكرر هذا الحث إلى الدرجة التي توحي بأن في القرآن دعوة إلى العمل بمعناه الشامل، قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} (نوح: 19 – 20)، وفي ذلك إشارة إلى التكييف الذي تشكلت بموجبه الأرض، بحيث تكون ملائمة لسعي الإنسان، وانتشاره فيها، وتمكنه من تسْخيرها لخدمته.
بل وضع القرآن ركيزة العمل التجاري، فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 275)، وتدل الآية على أن الوعيد إنما يحصل باستحلال الربا دون الإقدام عليه، وأكله مع التحريم.
وقد فصلت السنة النبوية المطهرة معاني القرآن بشأن العمل والكسب وضرورة إتقان المهن، سواء كانت صناعة أو تجارة أو زراعة، فحث النبي- صلى الله عليه وسلم- على العمل اليدوي فقال: “ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ ، خيرًا من أنْ يأكلَ من عمَلِ يدِهِ وإنَّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عمَلِ يدِهِ” (البخاري ومسلم)، وهو ما يدل على أهمية كسب الحلال، والحرص على طلب الحلال من حدادة، أو خرازة، أو نجارة، أو غير ذلك من أعمال اليد، مع النصح، وأداء الأمانة في العمل.
وروى البخاري عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ، كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوِ القائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهارَ”، وهذا ترغيب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في العمل، حيث ذكر أن العامل له من الأجر ما لصائم الدهر وقائم الليل.
وروت السيدة عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: “خيرُ الكسبِ كسبُ يدِ العاملِ إذا نصَح” (البيهقي والديلمي)، ويقصد به أنه يعمل عمل إتقان؛ وإحسان؛ متجنبًا للغش؛ وافيًا بحق الصنعة؛ وبذلك يحصل الخير والبركة؛ وبنقيضه الشر والوبال.
وثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “االيَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، وخَيْرُ الصَّدَقَةِ عن ظَهْرِ غِنًى، ومَن يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، ومَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ” (البخاري)، فالحديث يدعو المسلم إلى العمل بيده في الزراعة والصناعة والتجارة وغير ذلك من المجالات التي أباحها الشارع الكريم، فهو دعوة إلى عدم الكسل والجلوس من ناحية، ودعوة إلى بذل الجهد في البحث عن العمل من ناحية أخرى.
أساليب تربية الأولاد مهنيا
وأساليب التربية المهنية للأولاد عديدة، نشير إلى بعضها كالتالي:
- الاستقصاء: ويهدف هذا الأسلوب إلى جعل المتعلم يُفكر وينتج مستخدمًا معلوماته في عمليات عقلية وعملية تنتهي بالوصول إلى نتائج من خلال استخدام حواسه وعقله في تكامل وانسجام.
- حل المشكلات: أسلوب تعليمي تعلُّمي يستخدم طرائق التفكير في مواجهة المشكلات ومحاولة حلها.
- المناقشة: وهو أسلوب تعليمي قائم على الحوار الشفوي بين المربي والمتعلمين ويضمن اشتراكهم الفعّال في العملية التعليمية.
- التعلم التعاوني: وهو أحد تقنيات التدريس التي تقوم على تقسيم المتعلمين إلى مجموعات صغيرة تعمل معًا من أجل أهداف تعلمهم.
- العروض العملية: وهي الطريقة التي يعرض المربي من خلالها المهارة أمام المتعلمين وهي أسلوب تعلِيمي تعلُّمي يعرض حقيقة علمية أو مفهومًا علميًا أو مبدأ بهدف تحقيق أهداف تعليمية تعلمية معينة.
- الرحلات الميدانية: وهو أسلوب يركز على التعلم في مواقع العمل، وهو نشاط تعليمي تعلمي منظم ومخطط خارج إطار المكان التقليدي للتعليم.
ثمار تربية الأولاد مهنيا
وتتعدد ثمار التربية المهنية للأولاد سواء في الأسر أو المدارس، ومن أبرز هذه الثمار:
- مساعدة الطفل على اكتشاف ميوله وقدراته، واختيار العمل أو المهنة التي تلبي هذه الميول ليسهم في نهضة أمته.
- تدفعه للتعاون مع الآخرين في إنجاز الأعمال، واحترام العمل اليدوي، والتعامل مع البيئة بشكل إيجابي، والمحافظة على التراث الحرفي، والحفاظ على أثاث المنزل.
- إكساب الأولاد مهارات عملية وتطبيقية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية نافعة، لهم ولأمتهم وبناء حضارة عريقة، وإكسابهم مهارات مهنية تمكنهم من استغلال الوقت في أعمال نافعة.
- تشجيع الأولاد على التعاون والعمل ضمن الفريق، وتعريفهم بالموارد الاقتصادية المتاحة أمامهم.
- تنمية عادات واتجاهات إيجابية لدى المتعلمين، وأهمها الصبر والدقة والترتيب والإتقان والأمانة.
- ربط المهارات العملية بالمعلومات النظرية.
- ومن أهم الثمار أن يعي الطالب أهمية السّلامة أثناء العمل، والإلمام بقواعد التغذية الصحيحة، وتناول الوجبات الغذائية في مواعيدها، والتعرف إلى مبادئ الإسعافات الأولية.
- إدراك أهمية نظافة الماء، والطعام الصالحين للاستهلاك.
- الاهتمام بأعمال الزّراعة وغرس نباتات مختلفة، واستعمال الري المناسب، وقطف الثمار في موعدها، وتجهيز التربة للزراعة من جديد.
إن التّربية المهنية ضرورة لبناء مجتمعات مليئة بالعمّال الناجحين والمُنتجين، في جميع مجالات المهن المختلفة، كما تدعم هذه التربية النموّ الاقتصاديّ، والاجتماعيّ بصفتها عاملاً من العوامل التي تسهم في تطور البنية المجتمعيّة، إضافة إلى تعزيز النظرة الإيجابيّة نحو المهن، وتعريف الأفراد بفوائدها، ودورها في نمو وتطوّر المجتمع.
المصادر والمراجع:
- الدكتور خالد محمد أبو شعيرة: دراسة بعنوان “التربية المهنية بين الفكر التربوي الإسلامي، والفكر التربوي الغربي المعاصر”.
- أحمد عيسى الطويسي، أساسيات في التربية المهنية، ص 48 و49.
- التربية المهنية.
- السعدي: تفسير السعدي، ص 863.
- الفخر الرازي: مفاتيح الغيب للرازي، تفسير الآية 275، ص 47.
- المناوي: فيض القدير، 3/476.
- الدكتور أحمد عياش: أساليب تدريس التربية المهنية.