تُفضي التربية المشتركة بين الوالدين إلى بناء أسرة متماسكة وسعيدة يَنعم فيها الأطفال بمزيد من مشاعر الحب والحنان والألفة، فيكون ذلك دافعًا لهم لحُسن استقبال القِيم التربوية من الأب والأم المسؤوليَن عن تلبية جميع احتياجات الأولاد المعيشية والتربوية.
والمشاركة في التربية بين الأب والأم، يُسهم في الاستقرار العاطفي للأبناء، ويُنمّي مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي لديهم، مما يساعدهم على بناء علاقات صحية مع الآخرين، وفي الوقت نفسه تحقق هذه الشراكة التكامل في التربية فالأب عادة ما يكون قدوة للابن في القوة والشجاعة، والأم تمثل منبع الحنان والعطف.
أهمية التربية المشتركة بين الوالدين
إنّ أعز ما يملك الوالدان هو الأبناء، ومن الطبيعي أن يميلا إلى الاهتمام بهم طوال الوقت، ويفرض العقل والأخلاق- أيضًا- أن يربي الوالدان أبناءهم، دون الاكتفاء بالتفضل عليهم في مجال المال والطعام فقط، ولا في تمليكهم أرضًا أو بيتًا للتعبير عن اعتزازهما بهم، فهذه الأمور ليست مهمة إزاء موضوع التربية، فالأدب الحسن أفضل ميراث، وهو خير ما يورّثه الوالدان لأبنائهم.
وإذا كان الإنفاق من واجبات الأب تجاه أبنائه، فإن تربيتهم على أخلاق الإسلام تفوق ذلك بكثير، دل على ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6]، وقوله- صلى الله عليه وسلم-: “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة” (البخاري ومسلم).
وعن ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ : “كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا” (متفق عليه).
وقد أعلَن الله- عز وجل- في قرآنه أن الأسرة نِتاجُ تَشارُك الرجل والمرأة، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) [الحجرات: 13]، وعندما يُدرِك الزوجان المهمة المشترَكة المُلقَاة على عاتقيهما، يتعاونان لتحقيق الهدف الاجتماعي من وجود هذه الأسرة، وهو بناء الإنسان الصالح والناجح في المجتمع.
ولفت النبي- صلى الله عليه وسلم- الأنظار إلى هذا الأمر عندما بيَّن حقَّ الولد على أبيه في التربية، فقال لعبد الله بن عمرو الذي انعزل للعبادة: “.. وإن لولدك عليك حقًّا” (مسلم)، إن هذا الإعلان النبوي يعلن أن مسؤولية التربية ليست على عاتق الأب أو مهمة خاصة بالأم؛ بل هي نِتاج التعاون الفعَّال بينهما، ونجاح التربية مرهون بالتعاون الناجح فيما بينهما.
وفي أداء المسؤوليات المشتركة جاءت الشريعة بالأمر بوسيلة تؤدي في الغالب إلى أكمل النتائج وأحسنها، من خلال الحوار والمشاورة، ولعل هذه القيمة أعظم سبب لسعادة الأسرة ونجاح التربية، وجاء الأمر بالشورى في المسؤوليات المشتركة في قوله تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا) [البقرة: 233].
قال الإمام ابن كثير– رحمه الله- في تفسيره للآية: أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه: فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه.
ويبقى الوالدان المصدر الأول والأهم للقدوة في حياة أبنائهم، ويتوقف ذلك على التوافق والمشاركة والتعاون بينهما في تربية الأبناء، حيث تجري عملية التنشئة في أحسن صورة إذا أحيط الأطفال ببيئة يملؤها الود والتعاون واحترام قِيَم المجتمع والحافظ على تراثه وثقافته والإيمان بمبادئه.
ويقول الأستاذ عبد الرحمن النحلاوي: لا تحقيق لشريعة الله إلا بتربية النفس والجيل والمجتمع على الإيمان بالله ومراقبته والخضوع له وحده، ومن هنا كانت التربية الإسلامية فريضة في أعناق جميع الآباء والأمهات والمعلمين وأمانة يحملها الجيل للجيل الذي بعده ويؤديها المربون للناشئين، وكان الويل لمن يخون هذه الأمانة أو ينحرف بها عن هدفها أو يسيء تفسيرها أو يغير محتواها.
أسس نجاح التربية المشتركة
ونجاح التربية المشتركة بين الوالدين يتوقف على مجموعة من الأسس، وهي:
- اتفاق الوالدين على توحيد منظومة الأخلاق والقيم التي يريدون غرسها في الأبناء، مثل: الصدق والاحترام والالتزام ليسيروا عليها وتكون واضحة وحينما تحدث مشكلة يتم الرجوع إلى تلك القيم كأساس لحل المشكلة.
- الاعتراف بوجهة النظر: فعلى الشريك فَهم وجهة نظر شريكه والتصرف بصبر وانفتاح من أجل الوصول إلى حلّ مشترك.
- الاستماع إلى الاقتراحات: ومعرفة ما إذا كان الموضوع قابلا للنقاش أو لا، فهنالك نقاط صالحة يمكن رؤيتها والبناء عليها، بدلا من رفضها فورًا، بهدف الوصول إلى حلول ناجعة يتفق عليها كلا الزوجين.
- التذكر دائمًا بأن الأهداف واحدة: فحتى لو كان الأب والأم غير متفقين في أسلوب التربية، فعليهما أن يتذكرا دائما أنهما يرغبان من أعماقهما في تحقيق الخير للأبناء.
- البحث سويا عن وجود حلول للمشكلات: فمن المهم أن يعتمدا على بعضهما، وأن لا يعتبرا نفسيهما في معركة يكون فيها فائز وخاسر.
- الاتفاق بين الوالدين في حالة وجود أي اختلاف في الرأي أن لا يشعر الأبناء به ويفضل اتفاقهما على رأي واحد مشترك أمام الأبناء، وحينما يلجأ أي من الأبناء إلى الأم في مشكلة لا تتخذ القرار بمفردها، وتوضح للطفل أن الأب مشارك- أيضا- في القرار والعكس بالعكس، ليصل إلى الأبناء أن السلطة بينهما وليست في يد أحدهما فقط.
- أن تكون السلطة موزعة بين الوالدين حتى لا يتشتت الأبناء، فأحيانا يأتي التشتت نتيجة اختلاف الأدوار في البيت، فاختلاف الأب والأم في المناقشات أمر صحي يتعلم منه الأولاد تقبل وجهات النظر وتقبل الآخر, لكن الاختلاف في التربية ومنظومة القيم هو ما يدق ناقوس الخطر.
- تمضية وقت ممتع معًا: من الضروري أن يقضي الأب والأم وقتًا بعيدًا عن المشاحنات اليومية، ويبحثان عن طرق لإعادة الصلة بينهما، ليس كوالدين فقط وإنما كزوجين أيضًا.
إن التربية ليست مسؤولية مُلقاةٌ على كاهل الأب فقط، أو على عاتق الأم وحدها، بل هي وظيفة مشترَكة فيما بينهما، ولا يستطيع أي من الطرفين أن يستغني عن الآخر، ولا أن يَحُل مكانه؛ فلكل من الزوجين مهمة خاصة به تتناسَب مع دَوره المُناط به. لذلك فإن النجاح الحقيقى في تربية الأولاد هو اشتراك الأب والأم معًا وأن يكونا على مسافة متساوية من أولادهما فانتصار أحد الأطراف على الآخر هو أمر خارج نطاق التربية تماما فهى ليست حربا، بل كل منهما يكمل الآخر مع الاتفاق على أسس واحدة وقيم وعادات وتقاليد واحدة حتى لا يتشتت الأبناء.
مصادر ومراجع:
- د. علي القائمي: دور الأب في التربية، ص 62-63.
- النحلاوي: أصول التربية الإسلامية، ص 20.
- د. هدى محمود الناشف: الأسرة وتربية الطفل، ص 72.
- ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/380.
- الإسلام سؤال وجواب: اختلاف الوالدين في طريقة التربية.
- لاريسا معصراني: خلاف الأزواج على أسلوب تربية الأبناء.. هل من سبيل إلى الاتفاق؟