تُعدُّ التربية الفكرية شرارة الإبداع ونور العقل وهي عملية ضرورية لكل من الفرد والمجتمع، فضرورتها للفرد تكون للمحافظة على توجيه غرائزه وتنظيم عواطفه وتنمية ميوله بما يتناسب وثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، وفي الوقت نفسه فهي ضرورية لمواجهة الحياة ومتطلباتها وتنظيم السلوكيات العامة في المجتمع من أجل العيش بين الجماعة عيشة ملائمة.
وهذه التربية لا تنتقل من جيل إلى جيل بالوراثة، لكنها تكون نتيجة للعيش بين الجماعة، لذا من المهم أن يتعايش الطفل الصغير مع مجتمعه، لا سيما أنّ الحياة البشرية كثيرة التعقيد وتحتاج إلى تطوير مستمر وهي عملية مسؤول عنها الكبار لتدريب الصغار على التكيف مع الحياة المحيطة وتلبية متطلبات العصر.
ما التربية الفكرية؟
وتُعرف التربية الفكرية بأنها عملية شاملة تهدف إلى تنمية قدرات الفرد على التفكير النقدي والإبداعي وحل المشكلات واتخاذ القرارات بشكل مستقل وواعٍ، وهي رحلة مثيرة لاكتشاف العالم من حولنا وتشكيل رؤيتنا الخاصة له.
وتهتم هذه التربية ببناء شخصية قوية قادرة على مواجهة تحديات الحياة والتكيف مع المتغيرات، وتُشجّع على التفكير خارج الصندوق وتوليد أفكار جديدة ومبتكرة لحل المشكلات، وتُساعد على تحليل المعلومات وتقييم الخيارات المختلفة واتخاذ قرارات مدروسة.
وهي أيضًا، تعمل على توسيع آفاق المعرفة، حيث تدفع الفرد إلى البحث عن المعرفة واكتساب مهارات جديدة، وتُساهم في بناء مجتمعات أكثر تسامحًا وابتكارًا وتقدمًا.
أهداف التربية الفكرية
وتتلخص أهداف التربية الفكرية للأطفال في النقاط التالية:
- الإمداد بالمهارات: وهذه التربية تمد أطفالنا بالمهارات والخبرات والمعلومات التي تبين لهم منهجية التفكير وكيفية التعامل مع المشكلات.
- تحصين العقيدة: ولا شك أن أهم الأهداف التي تنشدها هذه التربية هو تحصين عقيدة الأطفال وأخلاقهم وثقافتهم.
- الحث على الإبداع: ومن الأهداف المهمة لهذه التربية، الحث على الإبداع والإنتاج من خلال إعمال العقل فيما يعود بالنفع والفائدة.
- تنمية المدارك: وهذه التربية تصقل شخصيات الصغار وتنمي مداركهم وتعدهم للحياة، فتحفظ دينهم وأفكارهم من الانحرافات الفكرية والعقدية، وتحصن أخلاقهم من السلوكيات الضارة، وتوجه اهتماماتهم إلى العلم والإبداع والابتكار والتميز.
- تدريب العقل على الخير: فهي وسيلة لاستعمال العقل في كل ما هو نافع، وأبناؤنا في أمس الحاجة إلى ذلك في مختلف مراحلهم العمرية، وقد ذم الله من عطل قلبه وبصره وسمعه عن الفكر والتأمل والنظر والتدبر، فقال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الْأَعْرَافِ: 179].
- تطوير الشخصية: حيث تسهم في بناء شخصية قوية قادرة على مواجهة التّحديات والعقبات والتكيف مع المتغيرات.
- تحسين اتخاذ القرارات: فهي تُساعد على تحليل المعلومات وتقييم الخيارات المختلفة واتخاذ قرارات مدروسة، وبالتالي عدم الوقوع في مشكلات قد تغير مسار الحياة وتحولها إلى جحيم.
- توسيع آفاق المعرفة: فهي تدفع الفرد إلى البحث عن المعرفة واكتساب مهارات جديدة تسهم في تشكيل كيان الفرد وتغير مستقبله للأفضل.
- بناء مجتمع أفضل: ولا شك أنّ هدف هذه التربية لا يقتصر على الفرد وحده، فهي تسهم في بناء مجتمعات أكثر تسامحًا وابتكارًا وتقدمًا.
طرق ووسائل
ومن هنا فإن أولياء الأمور والمربين لهم دور كبير في استيعاب وسائل التربية الفكرية وإدراك أهميتها لاستخدامها في تربية الصغار وتأهيلهم عقليا وفكريا، ومن أبرز هذه الوسائل:
- تعليم القراءة والكتابة: فهما مفتاح الفكرِ، لقول الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[الْعَلَقِ: 1-5]، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: “يَعْنِي الْخَطَّ وَالْكِتَابَةَ؛ أَيْ: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ الْخَطَّ بِالْقَلَمِ”.
- التوعية المستمرة: ومعاهدة سلوكيات وتصرفات الأطفال وتعريفهم بالأفكار السيئة ونقدها والتحذير منها، ففي ذلك ضمان وحماية وتعزيز وتقويم لتربيتهم وبناء شخصيتهم، قال تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 132].
- التدريب على مهارات التفكير والنقد: وكذلك إبداء الرأي والحوار والمناقشة مع الأطفال، والبعد عن الكبت وتكميم الأفواه، فهم يحتاجون إلى من يحاورهم ويسمعهم ويناقش معهم رؤاهم وتطلعاتهم، وهذا يجعل منهم أقوياء ويستطيعون أن يتخذوا قراراتهم الجيدة في تعاملهم مع الحياة ومشكلاتها.
- اختيار البرامج المفيدة: وذلك من الأعمال الفنية والعلمية ومسلسلات الكرتون والقصص التي تتحدث عن الناجحين وإنجازاتهم لمشاهدتها والاستفادة منها، لمحاكاتهم وتقليدهم والسير على طريقهم ولربطهم بالقدوات وأصحاب الهمم العالية، ولهذا أهمية في نضج تفكيرهم لاستفادتهم من تجارب متعددة ومختلفة وفي شتى جوانب الحياة.
- التكليف بإنجاز أعمال: فهذا يساعد الأطفال على التفكير في الإنجاز واتخاذ الإجراءات المناسبة، وعلى الآباء ملاحظة طريقة أدائهم وتقويم الأخطاء بأسلوب تربوي، وتعزيز الجوانب الإيجابية، وتشجيعهم على ذلك.
- حل الألغاز والمسائل: فتنمية التفكير المنطقي والإبداعي يتطلب التدريب على حل المسائل والأسئلة التي تحفز العقل على العمل والتفكير.
- التجارب العملية: فلا بد من تشجيع الطفل على تجربة أشياء جديدة واكتشاف قدراته.
- التعلم الذاتي: وهذه الطريقة مهمة لتربية الطفل فكريا وتنمية مهاراته الإبداعية، كما أنها تدفعه للبحث والاكتشاف بنفسه والوصول إلى المعلومات.
- تعليم أمور الدِّينِ: فهي غذاء للعقل وتدفع إلى التفكير والإبداع، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: “مَنْ أَهْمَلَ تَعْلِيمَ وَلَدِهِ مَا يَنْفَعُهُ، وَتَرَكَهُ سُدًى، فَقَدْ أَسَاءَ إِلَيْهِ غَايَةَ الْإِسَاءَةِ، وَأَكْثَرُ الْأَوْلَادِ إِنَّمَا جَاءَ فَسَادُهُمْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ أَوْ إِهْمَالِهِمْ لَهُمْ، وَتَرْكِ تَعْلِيمِهِمْ فَرَائِضَ الدِّينِ وَسُنَنَهُ، فَأَضَاعُوهُمْ صِغَارًا، فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَنْفَعُوا آبَاءَهُمْ”.
إنّ التربية الفكرية ركيزة في إعداد الناشئة إعدادًا صحيحًا سويًّا يستقيم مع سمات الشخصية المسلمة، التي تمتلك القدرة على التفكير واتخاذ القرارات وترك التقليد والتعصب الأعمى، لذا فهي تُسهم في تعريف المتعلمين بقدراتهم وإمكانياتهم؛ ما يعزز من إحساسهم باستقلاليتهم، وتنمية الشعور بالمسؤولية، والجدية في الحياة، فينشأ الأفراد مؤهلين للنهوض بمجتمعاتهم وتحقيق الرقي الحضاري ومفهوم الاستخلاف.
مصادر ومراجع:
- ملتقى الخطباء: التربية الفكرية.
- د. شفاء الفقيه: التربية الفكرية للفتاة المسلمة ووسائل تحقيقها.
- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، ص 597.
- ابن القيم: تحفة المودود بأحكام المولود، ص 80.
- د. خديجة أبو ري: التربية الإبداعية في ضوء السيرة النبوية.