إنّ التربية العقلية للطفل مهمة مُنذ بداية إدراكه الأشياء، حتى يستطيع التعرف إلى ما هو نافع له ولدينه ووطنه وما هو ضار ويجب اجتنابه، كما أنها عملية تساعده على التفاعل وحُسن التفكير والاستنتاج لكثير من الأمور التي قد تواجهه في مراحل حياته.
وتعود أهمية هذه التربية، إلى أن العقل البشري هو الذي يقوم باختيار السلوك الأخلاقي، ويحدد الطريقة التي يتعامل بها مع الآخرين، لذلك كان من وظائف العقل التمييز بين الحَسن والقبيح، والنافع والضار.
مفهوم التربية العقلية للطفل
تناولت المعاجم العربية مفهوم التربية العقلية للطفل من خلال تعريف العقل، إذ جاء في لسان العرب أن العقل سُمِّي عقلاً لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، أي يَحْبِسُهُ.
وقيل: العقل هو التمييز الذي يتميز به الإنسان من سائر الحيوان، ويقال: لفلان قلب عقول، ولسان سئول، وقلب عقول: فَهِمٌ، وعَقَلَ الشيء يعقله عقلًا: فهمه(1).
والتّربية العقلية هي عملية إعداد دقيقة للفرد مُنذ مراحل عُمره الأولى، كي يكون سليم التفكير، قادرًا على اكتساب مختلف الأفكار والمعارف.
وهي تهتم بتنمية قدرات الطفل الذهنية حتى تصل إلى أقصى درجة ممكنة ويكون قادرًا على الملاحظة والتمييز والاستكشاف، والتذكر والتصور، والتخيل والتوقع، والربط بين الأشياء والمواقف والأشخاص(2).
التربية العقلية للطفل في الإسلام
ولقد جاءت التربية العقلية للطفل ضمن أولويات الشريعة الإسلامية، فليس ثمة عقيدة تقوم على احترام العقل الإنساني وتعتز به وتعتمد عليه في ترسيخها مثلها، كما أنّ القرآن الكريم أطلق سراح العقل، بل إن القرآن ليكثر من استثارة العقل ليؤدي دوره الذي خلقه الله له.
لذلك نجد عبارات {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، {ولِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، {ولِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} ونحوها تتكرر عشرات المرات في السياق القرآني لتؤكد النهج القرآني الفريد في الدعوة إلى الإيمان وقيامه على احترام العقل، كما لم يطلب الإسلام من الإنسان أن يطفئ مصباح عقله بل شدد عليه في إعمال ذهنه وتشغيل طاقته العقلية.
والعقل فيه من الإبداع والذكاء ما يفوق الوصف، ومتى ما أحسن الإنسان في إعمال عقله تمكن من الاختراع والإبداع. وتكمن مسؤولية الإنسان في إحسان تحريك عقله في العمل على نفع الناس، وجلب الخير لهم، ولا يكون ذلك إلا عند إدراك قيمة العقل. وقد حرم الإسلام جميع ما من شأنه أن يؤدي إلى تغييب العقل، فقد كانت علة تحريم الخمر هي تغييب العقل(3).
وللتّربية العقليّة أهمية عظيمة ودور كبير في تنمية الفرد المسلم منذ نشأته حيث تعمل على:
تنمية ذكاء الفرد، وقدرته على التأمل، والتفكير، والنظر، وتنمية قدرته على التخيُّل والتصور، إلى جانب تقوية ذاكرته، وإعطائه القدرة على التحليل، وإدراك العلاقات بفهم عظات التاريخ، وربطها بواقع الحياة، وربط العلل بالمعلولات، والأسباب بالنتائج، إلى جانب اهتمامها بتنمية القدرة على التعبير.
كما أنها تهدف في المقام الأول للوصول إلى الغاية الكبرى من معرفة الله- عز وجل- وحبه وعبادته، وتثبيت العقيدة، وبناء الفكر الإسلامي في ذهن الطفل، وإعطائه القدرة على تمييز الفكرة الإسلامية من بين التيارات الفكرية الدخيلة المناهضة للتصور الإسلامي، كما أنها تبث روح العزة والأصالة بالفكر الإسلامي عند النشء(4).
أهداف تربية الطفل عقليا
وتهدف التربية العقلية للطفل إلى تفجير طاقات الإبداع والخلق والابتكار والاختراع والاستكشاف لديه، وأيضا:
- تجنيب الطفل المفاسد التي تفسد العقول.
- تنمية التفكير لدى الأبناء.
- التشجيع على الابتكار والإبداع .
- القدرة على حل المشكلات.
- غرس حب القراءة والمطالعة لدى الأبناء(5).
معايير تنمية الإبداع لدى الطفل
إن التربية العقلية للطفل هي ركيزة أساسية وضرورية لمجتمع متقدم، والمناهج التعليمية في المجتمعات العربية تعاني قصورًا شديدًا في تنمية الإبداع عند الأطفال، وعدم إمعان العقل حيث تقوم على الحفظ والذاكرة فقط. لذا علينا أن نسعى لتنمية العقل والإبداع لدى الطفل عن طريق بعض الوسائل التي ذكرها الدكتور حسن شحاتة، على النحو التالي:
- وضع مادة أدب الأطفال على شكل مشكلات تستثير الطفل وتتحدى عقله، وتفتح المجال أمامه كي يفكر تفكيرًا علميًّا، وتفسح المجال لخيال الطفل كي يتصور ويحلق في عالم مفارق لعالم الواقع.
- تدريب الطفل على الاستماع الناقد والقراءة والمشاهدة النقادة، والترحيب بإبداء الرأي، والدعوة إلى التفسير والتعليل والموازنة بين الآراء والحقائق، وكشف العلاقات، والدعوة إلى استخدام الخيال، والمخاطرة العلمية المحسوبة للاكتشاف.
- إتاحة التحري للعقل بعرض المقدمات ثم النتائج، وإفساح المجال أمام الطفل للتجريد من حالات متعددة، والدعوة إلى فحص البيئة بحثاً عن خبرات جديدة(6).
لا تقتلوه.. معوقات أمام العقل
القتيل هو العقل الجديد المفكر الخصب الذي قُتل في زمن الطفولة بالحجر والتحجيم واللوم والعتاب وتوجيه الاتهامات، فضلا عن التربية على الجمود والتلقين والحفظ فحسب.
إن عقول الأطفال أكثر رحابة من الكبار، حيث يستطيع أن يطلق العنان لعقله في استخدام (مثلا) صندوق أمامه لأكثر من حاجة، كأن يجعله بيتا، أو مخبأ، أو مخزنا للألعابه، أو سيارة يدفعون بها بعضهم بعضا، في حين سينظر إليه الكبير على كونه صندوقا. ولذا لا تعنفوا أطفالكم على عنان عقولهم، فالتعنيف أحد معوقات النمو العقلي لدى الأطفال، والتي منها كذلك:
- الرقابة المستمرة على الأطفال من الكبار، ونقد أعمالهم وإقحامهم في منافسات عقيمة مع غيرهم من الأطفال.
- تحكم الكبار في تصرفات الطفل وتلقينه الكيفية التي يؤدي بها كل شيء في حياته، كأن يعلموه كيف يلعب أو كيف يرسم دون إعطائه فرصة للإبداع وتجربة الجديد.
- محاولة المربي أو الوالدين تشكيل هوايات الطفل وتوجيه ميوله بدلا من اكتشاف مواهبه الفطرية وميوله الأصلية وتهذيبها وتطويرها.
- محاسبة الطفل على الوقت ومطالبته بالحفاظ عليه كأنه شخص كبير، فالوقت في نظر الطفل له سمة انسيابية ليس لها حدود، ولذا على الوالدين أن يتركوا الوقت للطفل ليكتشف المزيد.
إن حب الكبار للأطفال ومشاعرهم النبيلة لا يكفيان لتوفير المناخ الملائم لظهور الفكر الإبداعي المستقل ونموه، لكن لابد أن يصاحب هذا الحب احترام لشخص الطفل وميوله(7).
دور الأسرة في تربية الصغار عقليا
الأسرة هي المحضن التربوي الأول الذي يتعلم فيه الطفل أسس التربية من خلاله سواء بالتوجيه أو المواقف التربوية، وهو ما يجعل الأسرة المحضن الأهم في تنمية التربية العقلية للطفل في مراحل عمره المختلفة، وعلى الوالدين في ذلك واجبات، منها:
- صنع المناخ النفسي في الأسرة من حب ووئام وعطف وحنان ورقة وشفقة وإخاء وتعاون، وهو الجو الذي سيدفع الطفل للتفكير السليم.
- الحرص على الترابط الأسري والعلاقة الاجتماعية القوية التي تربط بين جميع أفراد الأسرة، حيث إن لذلك أثرا كبيرا في تحفيز التفكير الإيجابي المطلوب.
- ضرورة الاهتمام بالقراءة وتعميق حب المطالعة في نفوس الأبناء فإن ذلك تأكيد على تعزيز العقل. فبقدر ما يطالع الطفل بقدر ما يعطي لنفسه الفرصة للتفكير؛ فالقراءة تشحن الفكر بكل ما هو مفيد للعقل.
- حثّ الطفل على محبة العلم، والعمل على زيادة معارفه من خلال قيامهم بإشراك الطفل في كافة المناسبات العائلية والرحلات قدر المستطاع.
- السماح للطفل بتكوين أصدقاء للاندماج في المجتمع وتطوير قدراته العقلية، حيث إن المهارات الاجتماعية تساهم بشكل كبير في تطوير المهارات العقلية لدى الطفل، وعزلته شيء خطير.
- الإكثار من أسلوب الحوار مع الأبناء حتى تنمي الملكات العقلية.
- توفير جميع الألعاب التي تساهم في تنمية المهارات العقلية لدى الطفل، مع حرصهم على تعليمه كيفية استعمال هذه الألعاب.
- وعلى الوالدين التعبير عن مشاعر الحب للطفل، والتعاطف معه ما يسهم في زيادة قدراته العقلية ونموها بشكل طبيعي.
- تشجيع الطفل وعدم إحباطه عند توفر الرغبة لديه بالقيام ببعض الأنشطة، مع احترام رغباته وتقدير أحاسيسه وتطوير مواهبه.
- قيام الوالدين بتعليم الطفل طرق التفكير الحر وذلك من خلال استعمال الأسئلة المفتوحة التي تكون إجاباتها طويلة(8).
إن الطفل أمانة عند الوالدين والمربين وعليهم أن يُحسنوا تربية هذه الأمانة ويساعدوه على استخدام عقله كما ينبغي، وإن أولى خطوات هذه التهيئة صنع المناخ النفسي في الأسرة، والاهتمام بتطبيقات التربية العقلية وتحسين سلوكياته وتفكيره، ليصبح طفلا سويًّا.
المصادر والمراجع:
- ابن منظور: لسان العرب، دار المعارف، ط1، بدون سنة نشر، صـ 3046.
- علي جبران: التربية العقلية والطفولة، 18 أغسطس 2018.
- وظيفة العقل في الإسلام
- عدنان باحارث، أهمية التربية العقلية للطفل، 12 سبتمبر 2006.
- سلطان عبدالرؤوف حلمي: التربية العقلية وتطبيقاتها التربوية.
- حسن شحاته: أدب الطفل العربي: دراسات وبحوث، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، 1994م.
- هشام محمد سعيد قربان: لا تقتلوه… لا تقتلوه!، 16 يونيو 2010.
- حنان عتوم: التربية العقلية للأطفال، 15 نوفمبر 2020.