يعد التدبر عملية تأمّل عميقة تهدف إلى استخراج المعاني الباطنة لآيات القرآن الكريم، وربطها بالحياة، والعمل بها، وهو جوهر فهم القرآن والاستفادة من هدايته، واكتشاف أسراره الإلهية، ويُولد مشاعر الخشوع والإيمان والرهبة من الله تعالى، ويُلهم إلى الإصلاح الذاتي والسلوكي، وتحسين الأخلاق، ويُرشد إلى طريق الصواب، ويُعين على مواجهة تحديات الحياة.
مفهوم التدبر وذكره في القرآن والسنة
وأصل التدبر في اللغة من مادة (د ب ر) التي تدل على آخر الشّيء وخلفه، والتّدبير: أن يدبّر الإنسان أمره، وذلك أنّه ينظر إلى ما تصير عاقبته، ودُبُره يعني: آخره، وتدبّر الكلام: النظر في أوله وآخره، ثم إعادة النظر مرة بعد مرة؛ ولهذا جاء على وزن التفعّل كالتجرّع والتفهّم والتبيّن، ودبّر الأمر أي: فعله بعناية وعن فكر ورويّة، أو نظر فيه وصرّفه على ما يريد.
والمعنى الاصطلاحي، يوضحه الجرجاني بقوله: “عبارة عن النظر في عواقب الأمور”، أما ابن القيم فعرّفه: بأنه “تحديق ناظر القلب إلى معانيه، وجمع الفكر على تدبّره وتعقّله”، وقيل في معناه: هو التفكر الشامل المُوصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
وقيل: هو تفهّم معاني ألفاظ القرآن والتفكر فيما تدل عليه آياته، وما دخل في ضمنها وما لا تتم إلا به، مما لم يعرّج اللفظ على ذكره من الإشارات والتنبيهات وانتفاع القلب بذلك بخشوعه عند مواعظه وخضوعه لأوامره، وأخذ العبرة منه.
مقاصد التدبر
ولا شك أنّ الغاية الأسمى من نزول القرآن الكريم هو التدبر في الآيات، ومن أهم مقاصده وأهدافه ما يلي:
- زيادة الإيمان: فعندما يتلى القرآن بتدبّر، يشعر القارئ بزيادة الإيمان في قلبه، بل إن مقياس تدبر الإنسان يُعرف بزيادة الإيمان، فإذا كان المسلم يشعر بزيادة في إيمانه فإنه يتدبّر القرآن، يقول ربنا- سبحانه وتعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2].
- يقول الإمام السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “ووجه ذلك أنهم يلقون له السمع ويحضرون قلوبهم لتدبره، فعند ذلك يزيد إيمانهم؛ لأن التدبر من أعمال القلوب؛ ولأنه لا بد من أن يبيّن لهم معنًى كانوا يجهلونه، أو يتذكرون ما كانوا نسوه، أو يحدث في قلوبهم رغبة في الخير، واشتياقًا إلى كرامة ربهم، أو وجلًا من العقوبات، وازدجارًا عن المعاصي، وكل هذا مما يزداد به الإيمان”.
- العمل الصالح: وهو المقصد الثاني من مقاصد تدبر القرآن، وهو ثمرة الإيمان وعاقبة التدبر؛ لذلك حتى يتحقق التدبر في القرآن، يجب أن يكون بنية العمل والامتثال بما فيه، ولو أننا تلونا القرآن، ولم نعمل بما فيه لا يمكن أن نكون قد تدبرناه، وهذا ما أكّدته السيدة عائشة- رضي الله عنها- عندما سُئلت عن خُلُق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: “فإنّ خلق نبيّ الله- صلى الله عليه وسلم- كان القرآن” (مسلم).
- الهداية إلى الحق والصواب: يقول الله- عز وجل-: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الإسراء: 9- 10].
- تحصيل العلم النافع: وهو أمر مهم لتحقيق المقاصد الثلاثة السابقة؛ ليكون الإيمان والعمل والهداية عن علم واتباع لما جاء به الشرع، ولقد حثّ القرآن الكريم على طلب العلم وتحصيله في أكثر من موضع، فقال- سبحانه وتعالى-: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122]. وروى مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال-: “ومَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهّل اللّه له به طريقًا إلى الجنّة، وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلاّ نزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة وحفّتهم الملائكة، وذكرهم اللّه فيمن عنده”.
أسباب معينة
وتتلخص الأسباب المعينة على التدبر في القرآن الكريم في النقاط التالية:
- الاستعاذة: فهي مطردة ومبعدة للشيطان، وما أكثر ما يزعج الشيطان إلا قراءة القرآن بتدبر، فوجب العمل على إبعاده، ولا يكون ذلك إلا بطلب الالتجاء والاحتماء بالله؛ كي لا يكون عدو الإنسان اللدود حائلًا بين المسلم وبين تدبره. وقد أمر الله- جل وعلا- المسلمين بالاستعاذة من الشيطان في أي وقت يشعر المسلم بمحاولة إفساد الشيطان عليه، فقال تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ) [الأعراف: 200- 201].
- الدعاء: إنّ أيّة عبادة من العبادات لا بد من أن نستعين بالله- عز وجل- على أدائها بحيث تكون على أكمل وجه، حيث يقول الله- سبحانه وتعالى- على لسان المؤمنين: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: ٥]. والدعاء والتضرع إلى الله أفضل شيء نستعين بهما على أداء العبادة، وقد حثّنا الله سبحانه على دعائه، والتضرع له، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) [غافر: 60].
- وعن معاذ بن جبل- رضي الله عنه- قال: أخذ بيدي رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم-، فقال: “إنّي لأحبّك يا معاذ”، فقلت: وأنا أحبّك يا رسول اللّه، فقال رسول اللّه- صلى الله عليه وسلم-: “فلا تدع أن تقول في كلّ صلاةٍ: ربّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” (النسائي).
- القراءة في الصلاة مع حضور القلب: فيجب على العبد إذا أراد الانتفاع بالقرآن أن يجمع قلبه عند تلاوته وسماعه، وأن يحضر حضور من يخاطب به، فإنه خطاب من الله للعبد على لسان رسوله- صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
- الإنصات عند سماع القراءة: وأمر الله تعالى من حضر التّلاوة بالإنصات؛ لئلّا يشغل عن القرآن بغيره وهو يسمعه، ولئلّا يرد عليه من التّشويش ما يفوّت عليه التّدبّر، كما قال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأعراف: 204]. وقال الإمام السعدي: “والفرق بين الاستماع والإنصات: أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه. وأما الاستماع له: فهو أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبّر ما يستمع، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب الله، فإنه ينال خيرًا كثيرًا وعلمًا غزيرًا، وإيمانًا مستمرًّا متجددًا، وهدى متزايدًا، وبصيرة في دينه”.
- التفكر في معاني الآيات والتفاعل معها: فالقرآن يحثنا علي التأمل والتفكر، وإعمال العقل، والنظر في هدايات الآيات؛ لننتفع بها في الدنيا والآخرة، حيث يقول الله- عز وجل-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل: 44]، وعن حذيفة- رضي الله عنه- قال: “صلّيت مع النّبيّ- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلةٍ، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثمّ مضى، فقلت: يصلّي بها في ركعةٍ، فمضى، فقلت: يركع بها، ثمّ افتتح النّساء، فقرأها، ثمّ افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسّلًا، إذا مرّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سبّح، وإذا مرّ بسؤالٍ سأل، وإذا مرّ بتعوّذٍ تعوّذ” (مسلم).
- اختيار الوقت المناسب: فلا بد من القراءة والسماع في موضع سكون، وتجتنب القراءة في مواضع اللّغط وارتفاع الأصوات؛ لما يقع بها من التّشويش عليه، فلا يتحقّق له المقصود من التّلاوة على وجهه، لذا يحثنا الله- عز وجل- على إطالة القراءة في الصلاة، وبخاصة صلاة الفجر فقال سبحانه: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78].
- ترديد الآيات وتكرارها: فترديد الآية وتكرارها مع التأمل وزيادة التفهم لها، من الأسباب المعينة على التّدبر، وقد استعمل القرآن هذا الأسلوب، فمثلًا في سورة الرحمن كرّر الله- سبحانه وتعالى- (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) [الرحمن: 13].
- الترسّل والتمهّل عند القراءة: قال الله تعالى: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 4]. قال ابن كثير في تفسيره للآية: “أي: اقرأه على تمهّل؛ فإنه يكون عونًا على فهم القرآن وتدبره”.
- الخشوع عند سماع القرآن: حيث تضطرب جلود الذين يخافون ربهم من سماعه؛ تأثرًا بما فيه من ترهيب ووعيد، ثم تلين جلودهم وقلوبهم؛ استبشارًا بما فيه من وعد وترغيب، قال تعالى: (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ) [الزّمر: 23]، وفي حديث ابن مسعود- رضي الله عنه- عندما قرأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من سورة النساء، قال: “فإذا عيناه تذرفان” (البخاري).
- المدارسة الجماعية: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29]، ووجود حلقات المدارسة القرآنية من الأهمية بمكان لتعليم الناس، كيف يدخلون إلى عالم القرآن فيهتدون بهداه، ويستشفون بشفائه. قال الإمام النووي: “اعلم أن قراءة الجماعة مستحبة بالدلائل الظاهرة، وأفعال السلف والخلف المتظاهرة”.
إن التدبر في آيات القرآن الكريم رحلةٌ عميقةٌ في آفاق المعنى، تُنيرُ العقولَ وتُرقّقُ القلوبَ، وتُربّي النفس، وتُثري الروحَ بِمَنْهلِ الإيمانِ، وهي عملية تتطلب اختيارُ الوقتِ والمكانِ المناسبينِ، والتّلاوةُ بتدبّرٍ، والتّفكّرُ في المعاني، والبحثُ عنْ تفسيرِ الآياتِ، والتّأملُ في أساليبِ القرآنِ، ثم التّطبيقُ العمليّ بِما وردَ في الآياتِ منْ الأوامرٍ والنواهي.
مصادر ومراجع:
- الفراهيدي: العين 8/31.
- الأزهري: تهذيب اللغة 14/78.
- الجوهري: الصحاح 2/653.
- ابن فارس: مقاييس اللغة 2/324.
- ابن منظور: لسان العرب 4/273.
- القاضي نكري: دستور العلماء 2/269.
- ابن القيم: مدارج السالكين 1/449.
- الميداني: قواعد التدبر الأمثل، ص 10.
- النووي: التبيان في آداب حملة القرآن، ص 101.
- السنوسي محمد السنوسي: التدبر واجبنا نحو القرآن الكريم.