مُنذ أن خلق الله – سبحانه وتعالى – الأرض وأنزل إليها سيدنا آدم – عليه السلام – والسيدة حوّاء، وقد رسّخ في وجدانهما وأبنائهما البعد الاجتماعي والمحافظة عليه، فلا نرى البشرية تعيش فرادى لكنهم يعيشون كينونات اجتماعية متماسكة، سواء بالنسب أو الدِّين أو اللغة أو غيرها من مقومات دعائم استقرار المجتمعات، وهو المعني الذي ذكره الله بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} [الحجرات: 13].
ولقد رأينا النبي – صلى الله عليه وسلم – يدعم قواعد استقرار المجتمع، فعمد إلى تقوية أواصر الأفراد، ولم يهتم بروّاد المساجد فحسب، بل اهتم بالمجتمع الإسلامي عامة، وتجلّى ذلك في كثيرٍ من مواقفه، التي سار على دربها صحابته من بعده في العناية بهذا الجانب.
ورغم دعم الحضارة الإسلامية لاستقرار المجتمع بِسَنّ القوانين التي تدعم تلاحم الأفراد، وتُقوّي الأواصر فيما بينهم، فالأمر لم يَدُمْ كثيرًا حيث اعترى الأمة عوامل الضعف، وتفكك المجتمع، بسبب تكالب الأعداء، والوهن الذي أصاب الناس، وهو ما يلزم الدعاة والمصلحين بلعب أدوارهم لعودة استقرار المجتمع.
البعد الاجتماعي في الإسلام
مع بدء وجود البشرية في الأرض لتعميرها، حرص كل مجتمع على سنّ ما يحتاجه من دعائم وقوانين تُحافظ على تماسك المجتمع، فنجد الحضارة الرومانية تأسّست على المال والنفوذ، والحضارة الفارسية أُنشئت على القوة والقومية، وفي المجتمع العربي كانت القبيلة وأعرافها هي المحور والأساس.
ومن ثمّ خط كل مجتمع لنفسه أيديولوجية يسير عليها ويؤمن بها، بل ويدفعها في سبيلها، فقد يتأثر بها سلبًا أو إيجابًا.
لكنّ الإسلام حينما جاء وضع معايير جديدة ترتكز على العقيدة الإسلامية، حتى مع اختلاف اللغة أو اللون أو المكان، وهو المعنى الذي نطق به الدكتور القرضاوي في بيت شعره بقوله:
يا أخي في الهند أو في المغربِ أنا منك، أنت مني، أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي إنه الإسلام أمي وأبي
بل إن الإسلام غيّر قواعد البعد الاجتماعي، حيث جعلها بمدى معرفة الإنسان لربه والقرب منه فقال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:14]، وهو المعنى الذي أكده النبي – صلى الله عليه وسلم – بقوله: “لا فضلَ لِعَربيٍّ على أعجميٍّ ولا لعَجميٍّ على عربِيٍّ ولا لِأحمرَ على أسودَ ولا لِأسودَ على أحمرَ إلاَّ بالتَّقوى” (رواه أحمد). وهي القاعدة التي لم تجعل الأفضلية في المجتمع لمالٍ أو نسبٍ أو جاهٍ، مما يتطاول به البعض على الآخرين، لكن جعلها للمتّقين حتى ولو كانوا فقراء.
ولفت الإسلام إلى عامل آخر ساعد على دعم استقرار المجتمع الإسلامي، ألا وهو الأخوة في الله والحب لله، الذي لا يقوم على مصالح شخصية، بل الدّين والمصلحة العامة هي التي تقود هذه المجتمعات، مما يُؤدى لدعم الأسر، التي تُعد الخلية الأساسية في تكوين المجتمعات (1).
النبي والبعد الاجتماعي
حرص النبي على إبراز قيم المجتمع الاجتماعية نظريًّا وعمليًّا، حتى تكون دستورًا تسير عليه الأمة من بعده، فنجده بعد أنْ أرسى قواعد المجتمع في المدينة، يُؤلّف بين القلوب ويجمعها في إطار أخوي متين، وجاءت التعليمات الاجتماعية، مثل قوله – صلى الله عليه وسلم -: “يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ” (صحيح ابن ماجه)، فنجد ثلاثة أوامر اجتماعية في حديث النبوي وواحدة فقط دينية، ومواقف النبي الاجتماعية كثيرة بداية من المؤاخاة حتى توزيع الغنائم وترقيق القلوب للحفاظ على تماسك المجتمع.
وقد أشاد كثيرٌ من المؤرخين الغربيين بحرص النبي على البعد الاجتماعي وإعلاء القيم الاجتماعية في المجتمع الذي أسسه على محاربة العبيد والزنا ووأد البنات وإعلاء شأن المرأة والديمقراطية والشورى، حيث يرى الدكتور جون إسبوسيتو – جامعة جون تاون- أن النبي استطاع تغيير العادات الهمجية العربية مثل: الوثنية، ووأد البنات، والربا، واستغلال الفقراء، وعدم الوفاء بالعهود، والزنا، والسرقة.
ويقول وليام مونتجومري وات – المستشرق البريطاني-: إن النبي محمدًا كان مصلحًا اجتماعيًّا وأخلاقيًّا على حدٍّ سواء (2).
ظواهر الانحراف الاجتماعي
غلب معنى الابتعاد عن المسار الحقيقي على معاني الانحراف، والخضوع والاستسلام للطبيعة الإنسانية دون قيود، والبعد عن القيم التي شرعها الدين وارتضاها المجتمع.
يرى الدكتور محمد عبد الصمد أن الانحراف في التصور الإسلامي يكون في الخروج عن القيم والمعايير الإسلامية، ومبادئ الإسلام وتشريعاته وحدوده.
كما يرى أن الانحراف لا يقتصر على السلوك والتصرفات والأفعال فقط، بل يشمل الانحراف في الاعتقاد والتصور والفكر، التي لها أسباب تُساعد على انحراف الأفراد والمجتمع، مثل:
- اتباع الشهوات وهي الظاهرة التي وصفها الله بقوله: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23].
- الانسياق وراء وساوس الشيطان، فلا يردعه شيء على الرغم من كونه العدو الأول للإنسان، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:4](3).
لكن لا بُد أن نسأل سؤالا: لماذا ينحرف الإنسان؟، عوامل كثيرة تُجيب عن هذا السؤال، ومنها:
- سوء التربية في البيت والمدرسة، أو النشأة في بيئة فاسدة، فيتشرب منها كل سوء وانحراف وشر.
- وربّما يعود ذلك إلى القوانين الوضعية التي لا تردع فاسدًا ولا منحرفًا، والتي قد تكون سببًا في عدم العدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع وتوزيع الثروات، وانتشار الفقر والبطالة.
- بل ربّما تنتشر وسط الطبقات المثقفة أو الثرية، جراء الفراغ النفسي والديني والحياتي الذي يعيشون فيه، فلا هدف لهم إلا إشباع لذاتهم فحسب (4).
- وقد يُخلّف الانحراف الكثير من المخاطر على المجتمع، مثل: انتشار الشعور بالقلق، وانعدام الثقة، وانتشار الفوضى، وعدم الالتزام بالقوانين، وانعدام الشعور بالإنسانية والتراحم بين الناس.
معالجة ظواهر الانحراف
ومعالجة ظواهر الانحراف ليست بالأمر السهل، بل هي عملية مُعقّدة تحتاج إلى خطوات عملية يكون قوامها التكامل والشمول، وتحتاج إلى بذل الجهد، وذلك عن طريق:
- التركيز على جوانب التعليم الإسلامي: لأن الانحراف ليس قدرًا، ويستطيع الفرد والمجتمع معالجته عن طريق التعليم والعلم وإيقاظ الضمير المخدّر الذي يُعد القوة الضاربة في مواجهة النفس الأمّارة بالسوء، والذي لن ينهض إلا بالعلم الإسلامي.
- العمل على معالجة الأسباب وليس النتائج: فلربما يكون سبب انحراف البعض هو الفقر، وأنه لو توفّرت لهم حياة كريمة استقاموا (5).
الالتزامات الأخلاقية في البعد الاجتماعي
لا بُد على كل إنسان أن يلتزم بالجانب الأخلاقي الذي يفرضه المجتمع أو تفرضه العقيدة التي يُؤمن بها، باعتباره أحد الجوانب التي تعمل على تماسك ووحدة المجتمع.
والمجتمع الذي لا يضع معايير أخلاقية يلتزم بها الناس، تعمّ فيه الفوضى وتدب فيه بواعث الانهيار، بل ربما الهلاك والعقاب الإلهي، إذا أدّت هذه الفوضى إلى خللٍ جسيمٍ في القواعد، كما حدث مع قوم سيدنا لوط حينما انتشر اللواط، وهو خلل في الفطرة البشرية أدى إلى اجتثاث المدن من جذورها والصعود بها إلى السماء، ثمّ قلبها على رأسها من شدة ما أتوا به من خلل في الأخلاق المجتمعية.
والالتزام الأخلاقي له أثر في البعد الاجتماعي، حيث يعمل على زيادة قوة المجتمع ومناعته، وتمتع أفراده بحياة رغيدة، وضبط سلوك الأفراد وخلق الانضباط والتوازن، وتنقية النفوس من مشاعر الأنانية الفردية، وسيادة الأمن والعدل بين أفراد المجتمع، لأن الالتزام الأخلاقي منزه عن المصلحة الشخصية.
لذا فإن هذا الالتزام أحد الدعائم التي تُنظم الحياة والمعاملات البشرية، ويُعد مقياسًا لتطور الدولة وتقدمها، بل يُساعد المجتمع ليكون أكثر تماسكا اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، ويجنبه الأضرار والتفكك الذي يُمكن أن يحدثه سوء الخلق (6).
أهمية البعد الاجتماعي لاستقرار المجتمع
البعد الاجتماعي ضمانة أساسية في العناية بالعدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر بين الناس، حيث ينتج عنه تضامن مجتمعي ومؤسسي يعملان على تحقيق ذلك من خلال عملية تشاركية تُسهم في التنمية الاجتماعية.
وهو ما أكدت عليه وثيقة الأمم المتحدة في القمة الاجتماعية التي عُقدت في كوبنهاجن عاصمة الدنمارك في عام 1995م، حيث أبرزت الوثيقة أهمية تعظيم المشاركة الشعبية في عملية التنمية من خلال مجتمع مدني نشط منظم يشارك فيه كل عناصر المجتمع (7).
دور الدعاة والمصلحين نحو المجتمع
الدعاة والمصلحون بمثابة رمّانة الميزان التي يتّزن بها المجتمع، لأنه إذا انحرف؛ تحرّك الدعاة والمصلحون في إعادته إلى مساره الطبيعي المحافظ والمتماسك.
ويزداد دور العلماء والدعاة في حياة الناس وقت الأزمات والشدائد والفتن التي قد تواجه المجتمع، حيث يلجأ إليهم الحيارى والخائفون والتائهون، وهو ما يتوجّب على هؤلاء الدعاة أن يُخلصوا لله في إصلاح مسار الأفراد وتعديل سلوكهم إذا انحرف.
ولا يتوجب عليهم إذا كان المجتمع في حاجة إليهم أن يتخاذلوا أو يقعدوا عن نصرته وإصلاح ما فسد، حتى ولو تعرضوا للمحن، فواجبهم العمل على الإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وإلا طالهم ما طال المجتمع من مفاسد، وهو المعنى الذي وصفه الله – سبحانه وتعالى – بقوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] (8).
المصادر
1. إيهاب إبراهيم: النظام الاجتماعي في الإسلام، 11 يناير 2012،
2. سعاد جوزيف: موسوعة المرأة والثقافات الإسلامية، المجلد الثاني، مؤسسة المرأة والذاكرة، 2006.
3. محمد عبدالصمد: مظاهر الانحراف الاجتماعي في المجتمع الإسلامي ومعالجتها، الجامعة الإسلامية العالمية شيتاغونغ، بنجلاديش، المجلد الرابع، 2007، صـ148.
4. الشيخ عبد الله إبراهيم الصالح: ظواهر الانحراف في المجتمع: الأسباب والعلاج، 6 سبتمبر 2016،
5. علي حسين المشرفي: المنهج الإسلامي في تدريس علوم الإجرام، أعمال مؤتمر التوجيه الإسلامي للعلوم، جامعة الأزهر، القاهرة، 1992، صـ769.
6. طلال مشعل: أهمية الأخلاق في المجتمع، 27 يونيو 2021،
7. للتنمية أبعاد وأخلاقيات: 27 يوليو 2016،
8. أمير بن محمد المدري: دور العلماء والدعاة في الشدائد والفتن (1-2)، 12 أكتوبر 2019،