حرّم الإسلام البخس لما فيه من ظلمٍ للنّاس وأكلٍ لأموالهم بالباطل، فبَخس أثمان السلع إذا كان عن طريق الغش، أو الخداع، أو الكذب، أو التغرير ونحو ذلك فهو من الغبن المحرم، وقد حذّر الله تعالى منه ووعّد مَن يفعله بالحرمان من البركة في الرزق، والحرمان من دخول الجنة.
ولمّا كانت أصول دعوات الأنبياء– عليهم السلام– واحدة؛ فإن الأمر بإقامة الموازين والحكم بالعدل والإنصاف ظل الوصية الخالدة التي يُوجهها كل نبي إلى قومه؛ لأنه بالعدل قامت السماوات والأرض، وصلح أمرُ الدُّنيا والآخرة، وعُبِدَ الله وحده لا شريك له، وما عُصِي اللهُ وعُبِد غيرُه إلاَّ بالظُّلم والجَوْر.
مفهوم البخس وحكمه في الشرع
ويدور معنى البخس في اللغة حول مطلق النقص، سواء كان النقص على سبيل الظلم، أو بغير ظلم. وللبخس معان أخرى غير النقص، فيطلق على الظلم، والتغابن، والمكس، وعلى الأرض تنبت من غير سقي، والزرع لم يسق بماء عدٍ.
ويعني في الاصطلاح: نقص حقوق الناس ظلمًا، قال الراغب الأصفهاني: هو نقص الشيء على سبيل الظلم.وعرّفه الطاهر ابن عاشور بأنه: إنقاص شيء من صفة أو مقدار هو حقيق بكمال في نوعه.
وجاء في القرآن الكريم على لسان شعيب- عليه السلام- لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [ الأعراف: 85]، وسياق الآية وإن كان يدل في ظاهره على أن المقصود بـ(أشياءهم) هنا ما يتبادله الناس في معاملات، فإنّ ما يملكه الناس ويتمتعون به من أخلاق وأفكار وتاريخ، وغير ذلك أولى بإقامة العدل وإنزاله في منازله.
وصرح القرآن بتنزيه الله تعالى عن البَخْس في الدنيا والآخرة، وذلك من آكد الأساليب في ذم البَخْس والتنفير عنه، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15-16].
وقال الله- سبحانه وتعالى-: (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا) [الجن: 13]. والمقصود بالآية الكريمة إظهار ثقتهم المطلقة في عدالة الله تعالى، فلا يبخس الله أحدًا حقه، ولا يرهقه بما لم تقترف يداه.
وحذر النبي- صلى الله عليه وسلم- من بخس الثمن، فقال للوزان: “زِن وأرْجِح” (رواه الترمذي وصححه الألباني” أي: اجعل كفة الميزان راجحة لمصلحة المشتري.
وعن ابن عمر أنه كان يمرّ بالبائع فيقول: اتق الله وأوف الكيل، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إنّ العرق يلجمهم إلى أنصاف آذانهم.
وعن عكرمة قال: أشهد أنّ كل كيال ووزان في النار فقيل له: إن ابنك كيال أو وزان فقال: أشهد أنه في النار. وعن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين.
أسباب البخس
وتتعدد أسباب البخس التي تؤدي إلى الظلم وهضم الحقوق دون وجه حق، وأبرز هذه الأسباب ما يلي:
- ضعف الوازع الديني: لذا كان السر في تصدير الأوامر والنواهي بنداء الإيمان، حيث تكرر هذا النداء في القرآن العظيم تسعًا وثمانين مرة، وفي كل مرة يعقبه أمر بفضيلة، أو نهي عن رذيلة، فإن فيه استنهاضًا للهمم، وشحذًا للعزائم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 278]. وقال جل شأنه: (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) [البقرة: 282].
- الاستبداد: وهو حكم أو نظام يستقل بالسلطة فيه فرد أو مجموعة من الأفراد دون خضوع لقانون أو قاعدة ودون النظر إلى رأس المحكومين. وعرفه الكواكبي بأنه: تصرف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعة. فإذا كان الاستبداد سبيلًا لبخس الناس أشياءهم، فإن الشورى في الحكم واتخاذ القرار هي السبيل لنيل كل ذي حق حقه إنصافًا وعدلًا وتمتعه به، وهو ما أسسه الإسلام بتعاليمه الخالدة، قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران: 159].
- الحرص على المال: فإنه يحرك داعي الشهوات في قلب صاحبه بالتنعم في الحلال- ولا حرج فيه-، إلا أنه لا يلبث أن ينسيه ذكر الله، فيقع في براثن المعاصي، ويجمع المال من الحلال والحرام تلبيةً لدواعي شهواته، فيفسد دينه ودنياه، وذلك هو الشح المذموم في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9]. فالشح هو: الحرص الشديد الذي يحمل المرء على ارتكاب المحارم.
مخاطر ومضار
ولا شك أن انتشار البخس في مجتمع من المجتمعات يؤدي إلى كوارث إنسانية واجتماعية واقتصادية، تتمثل أبرزها فيما يلي:
- نشأة طبقة مترفة وأخرى كادحة: فبخس الناس أموالهم سبيلٌ لنشأة طبقة مترفة في المجتمع، تمتص عرق الناس، وتحصل ما في أيديهم، وتسرف في التنعم به، وأخرى كادحة بائسة، تلتقم العيش كدًا، ولا تكاد تجده في كثير من الأحايين مع بذل أقصى ما في وسعهم من طاقة، فتحرم ثمار جهدها، ويضيع عليها نتاج كدها قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ: 34-35].
- تعطيل قوى العمل وانتشار البطالة: فالباخسون تعودوا حصول ما في أيدي غيرهم من غير بذل مجهود، وأما المبخوسون فإنه متى ضاع جهدهم هدرًا دون أن يعود عليهم بثمرة، فإنه يبطئون في العمل ويقل إنتاجه، سواء كان عالمًا في مختبره ومعمله، أو عاملًا في مزرعته، أو صانعًا في مصنعه، وذلك له أخطر الآثار على المجتمعات الإنسانية بوجه عام.
- بث روح العداء بين أفراد المجتمع: فبخس الناس أموالهم يسبب اضطرابًا نفسيًا في النفوس، فهو بالنسبة للباخسين يولد حالة من الجشع في نفوسهم والطمع فيما في أيدي غيرهم، وبالنسبة للمبخوسين فإنه يتسبب في حالة من الأسى والأسف على ما ضاع من أموالهم وأهدر من جهدهم. قال جل شأنه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29].
- هلاك المجتمع: والمراد بالهلاك أحد أمرين، الأول: عذاب الاستئصال، فقد هلك أهل مدين بالصيحة بسبب بخسهم الناس أشياءهم، وكان قد نهاهم نبي الله شعيب- عليه السلام- عنه، قال تعالى مبينًا هلاكهم: (وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) [هود: 94].
- تسلط الحكام وظلمهم: إن الآثار الاجتماعية للبخس تتضاعف في هذا الجو الذي تشيع فيه العداءات بين أفراد المجتمع ويضعف فيه الاقتصاد، فيلجأ حينئذ سلاطينهم إلى فرض أموال يتحملون أعباءها، وفتح غياهب السجون لمن يبدي أدنى اعتراضٍ.
- الكوارث الطبيعية: فلا شك أن ذنوب العباد تتسبب في حدوث كوارث طبيعية، كحدوث الزلازل وانفجار البراكين ومنع الأمطار. قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى: 30].
إن من الضروري مقاومة هوى النفس عندما تدعو إلى البخس وهضم حق الغير، لأن الله- جل وعلا- أمر بإيفاء الحقوق وإيصالها إلى أصحابها، وتكميلها وإتمامها، وحذرنا من بخسها ونقصها، وغمط أهلها، وهذا من أُسس دعوات الأنبياء.
مصادر ومراجع:
- الميداني: مجمع الأمثال 1 /124- 123.
- أبو زيد الأنصاري: النوادر في اللغة، ص 170.
- ابن منظور: لسان العرب 6/25.
- الجوهري: الصحاح 3/907.
- ابن فارس: مقاييس اللغة 1/205.
- المطرزي: المغرب في ترتيب المعرب 1/59.
- الراغب الأصفهاني: المفردات، ص 48.
- العسكري: الفروق اللغوية، ص 179.
- ابن عاشور: التحرير والتنوير 8/ 242.
- الخطيب الشربيني: السراج المنير 4/500.