إنّ من طبيعة الباطل أن يهلك ويضمحل ويتلاشى مهما عظم وانتفش، وساد حينًا من الزمن، فهو ليس قاعدة، ولا بُد من أن يكون “زاهق” ومغلوب أمام زحف الحق الأصيل العميق في تكوين الوجود.
والباطِل منفي عن خِلقة هذا الكون أصلا طارئًا لا أصالة فيه ولا سُلطان له، ضعيف هيّن مُتردٍّ هاوٍ إلى الأرض، يطارده الله ويقذف عليه بالحق فيدمغه، ولا بقاء لشيء يطرده الله، ولا حياء لشيء تقذفه يد الله.
مفهوم الباطل وتأصيله شرعا
ومن المعلوم أنّ الباطل خلاف الحق وضده، ويعني: ذهاب الشيء وزواله، وقلة مكثه في الوجود والواقع، قال ابن فارس: “(بطل) الباء والطاء واللام أصل واحد، وهو ذهاب الشيء وقلة مكثه ولبثه. يقال: بطل الشيء يبطل بطلًا وبطولًا. وسمي الشيطان: البَاطِل؛ لأنه لا حقيقة لأفعاله، وكل شيء منه فلا مرجوع له ولا معول عليه”.
وبطل الأجير بالفتح بطالةً، أي تعطل فهو بطال. فالذي يربط تلك المعاني جميعها هو الزوال؛ فالشيطان سرعان ما يزول شره، ويظهر وهنه، والبطل يزول بتعريض نفسه للخطر، والبطالة كذلك لا قيمة لصاحبها ولا أثر.
ويعني في الاصطلاح، ما لا ثبات له، ولا خير فيه، سواء أكان اعتقادًا، أم فعلًا، أم كلامًا، أم غيره، وما يجمع هذه المصطلحات مع المعنى اللغوي هو الزوال والذهاب، فما كان غير صحيح فهو إلى ذهاب، وفي عُرف الفقهاء: البَاطِل كأنه لم يكن، فهو زائل، حتى كلمة بطل التي تقال للشجاع فلأنه يعرض نفسه للموت، ودمه للهدر، أو لأنه يبطل دم من تعرض له أي يذهبه ويزيله.
وذكر القرآن الكريم كلمة “البَاطِل” في أكثر من موضع منها، قول تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81]. وقال- جل شأنه-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) [الأنبياء: 18].
وقال- جل وعلا-: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج: 62]. وقال تعالى: (ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [لقمان: 30].
وعن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: “دَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مَكَّةَ، وحَوْلَ البَيْتِ سِتُّونَ وثَلَاثُ مِئَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بعُودٍ في يَدِهِ، ويقولُ: (جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ، إنَّ البَاطِلَ كانَ زَهُوقًا)، (جَاءَ الحَقُّ وما يُبْدِئُ البَاطِلُ وما يُعِيدُ)” (البخاري).
روى ابن أبي شيبة في “مصنفه”، أن معاوية- رضي الله عنه- قال :”مَا تَفَرَّقَتْ أُمَّةٌ قَطُّ إِلَّا أَظْهَرَ اللَّهُ أَهْلَ الْبَاطِلِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ إِلَّا هَذِهِ الْأُمَّةَ “.
سلوكيات الباطل
ويتمثل الباطل الزهوق في مجموعة من السلوكيات الناتجة عن الأفراد أو الجماعات، سواء كانت صادرة عن كافر أم مسلم، ومن تلك السلوكيات:
- أكل أموال الناس بالباطل: ونهى نهى الله تعالى الناس عن الظلم فحرمه أشد تحريم، ورتب عليه العقوبات الجسيمة، والعذاب الشديد، وجعل ظلم العباد فيما بينهم لا يسقط فيه الحق بالتقادم، حتى يمتنع الإنسان عن ظلم أخيه؛ وبيّن القرآن إحدى صور الظلم بين الناس، ألا وهي: أكل أموالهم بينهم بالبَاطِل.
- الجدال بالبَاطِل: حيث يستخدم الكثير من الناس هذه الوسيلةً لإثبات باطلهم، وهذا يدل على ضعف الحجة أو انعدامها؛ إذ لو كان الدليل الواضح حاضرًا لكان استحضاره من قبل المجادل غاية من الغايات، مصداق ذلك قوله سبحانه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا) [الكهف: 56].
- خلط الحق بالبَاطِل: طريقة أخرى من طرق أهل البَاطِل في الاستدلال، وهي تزيين البَاطِل بشيء من الحق، وخلطه به مغبة أن يلتبس الأمر على السامعين، قال- عز وجل-: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة: 42].
- اتهام المؤمنين بالباطل: مما تعارف عليه الناس أن خير وسيلة للدفاع الهجوم، وها هم أعداء الله والإسلام يتهمون المؤمنين بأنهم مبطلون، ولا نراه إلا من هذا الباب، كما ورد في قول الله سبحانه: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) [الروم: 58].
مصير محتوم
وكما أعطى الله- سبحانه وتعالى- الشيطان وحزبه القدرة على سلوك طريق الباطل والغي، فهو كذلك بشّرهم بمصير محتوم في الدنيا والآخرة، كنهاية لباطلهم، ولهم أنفسه، وذلك على النحو التالي:
- المحو: تكفل الحق تبارك وتعالى بمحو البَاطِل، كما في قوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الشورى: 24]. والمحو عند أهل اللغة يعني ذهاب الشيء وأثره، ويقال: محت الريح السحاب بمعنى: ذهبت به، ومحى الطالب السبورة، أي: لم يترك عليها أثرًا للكتابة.
- زهوق: وهذه النتيجة الثانية التي يتعرض لها البَاطِل كما وعد الله تعالى، حيث يقول سبحانه: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) [الإسراء: 81]. والزهوق له عند أهل اللغة أكثر من معنى، أهمها: الذهاب والهلاك والاضمحلال، يقال: “زهقت نفسه، وهي تزهق زهوقًا، أي: ذهبت، وكل شيء هلك وبطل فقد زهق”.
- المَحْق: حيث توعّد الله العزيز الكفر والبَاطِل بالمحق، وهو جزء من الحرب التي تكفل الله تعالى فيها بنصرة الحق وأهله، قال سبحانه: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 141]. والمحق عند أهل اللغة ذهاب البركة ونقص الشيء بما يؤدي إلى تلفه، قال الخليل بن أحمد: ” محق: محقه الله فانمحق وامتحق: أي ذهب خيره وبركته ونقص”.
- البطلان: ومما توعد الله البَاطِل به (إبطاله)، كما قال تعالى: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) [الأنفال: 8]. والبطلان، هو الإعدام والمحق وعدم الإبقاء، وهذا يجعل طمأنينة في صدر المؤمن لا نهاية لها.
وختامًا، إذا كان الاختلاف واقع في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة، فإنه لا يؤدي إلى ظهور أهل البَاطل على أهل الحق ظهورا كليًّا مطلقًا.
مصادر ومراجع:
- الجوهري: الصحاح 4/1635.
- الرازي: مختار الصحاح، ص 36.
- ابن فارس: مقاييس اللغة 1/258.
- الجرجاني: التعريفات، ص 42.
- المناوي: التوقيف على مهمات التعاريف، ص 69.
- محمد صالح المنجد: جاء الحق وزهق الباطل.
- السيد مراد سلامة: سنة الصراع بين الحق والباطل في ضوء القرآن الكريم.