الدعاةُ والمصلحون ليسُوا ملائكة، بل بشر يجتهدون فيصيبون تارة ويخفقون أخرى؛ لذا قد يحيد البعض منهم عن جادّة الصواب، ويقتربون من خطر الانفصام الدعوي فيقعون في براثنه، وإذا لم ينتبهوا إلى هذا الدّاء ويُعالجوا أسبابه، فقد يُصبحون فتنة للناس من حيث لا يشعرون.
والدعوة إلى الله – عز وجل – شرفٌ عظيمٌ لا يناله كثيرٌ من الناس، فالله يصطفي لها بعضًا من عباده، يقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
ورغم أنّ الله – جلّ وعلا – لم يأمُر الأمة كلّها بالتبحّر في العلم والتفقه في الدين، وَضَعَ الأُطر لكل مسلم مسؤول نحو دعوته وقومه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بقلبه حتى يحظى بشرف الدعوة إلى الله.
مظاهر الانفصام الدعوي
لم يطلب الإسلام من الدُّعاة والمُصلحين أن يكونوا ملائكة في تصرفاتهم فلا يخطئون ولا ينسون، لكنّه حذّرهم من داء الانفصام الدعوي الذي يُنفّر النّاس، ويجعلهم لا يتقبّلون القَول من شخص يأتي بفعلٍ ينهي عنه، ولا يأتي بفضيلة يأمرهم بها.
وللانفصام مظاهر على الداعية، منها ما أوضحه الدكتور رمضان فوزي، دكتوراه في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وهي:
1. الأمراض القلبية التي تُصيب الداعية، مثل: الكِبْر، والغرور، والعُجب بما يقول وبنفسه وبمواهبه التي وهبها الله له.
2. حب الداعية للدنيا والانغماس فيها، لدرجة أنْ يجعل مِن دعوته مَطيّة لتحقيق أغراضه الدنيوية ومغانمه الشخصية.
3. وقوع الدعاة في معاصي الخلوات – خاصة شباب الدعاة – حيث يظهرون أمام الناس بِوَرَعِهم، فإذا خلوا بمحارم الله انتهكوها.
4. شهوة وحب الظهور التي قد تُصيب الدعاة، حيث يكون جلّ همّ الداعية أنْ يظهر أمام الناس وعلى الفضائيات، وأنْ يُشار إليه بالبنان، وأن يعرفه القاصي والداني، وأن يُحْمَل فوق الأعناق.
5. وربما يأتي مظهر مختلف عن المظاهر السابقة وهو إصابة الداعية بالورع في الدعوة أو الإحباط، ويُلقى الشيطان في روعه أنه ليس أهلا للدعوة، وأنه من مرتكبي الذنوب، فينساق وراء شيطانه، فيخسر نفسه ودعوته (1).
أهمية الدعوة إلى الله
أرسل الله – سبحانه وتعالى – الأنبياء إلى البشرية لهدايتهم، وتعريفهم بطريق الحقّ المبين، لكنّ الناس اختلفوا، فمنهم من أخذ الدعوة بقلبٍ نقيّ، ومنهم من طُمس على قلبه برانٍ فلم يرَ الحق.
وفضل الدعوة إلى الله، مُمتد إلى الدعاة والمصلحين بعد الأنبياء، لتبصير النفوس وتزكية القلوب وتفصيل أحكام الإسلام وتبسيطها وتذكير الناس بالله وشرائعه، وصدق الله العظيم الذي يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، ومن هنا جاءت أهمية الدعوة إلى الله.
ويقول الدكتور لخضر بوعلي، من علماء تفسير القرآن في المغرب إنّ: “الدعوة إلى الله تعالى، فرع من شجرة المحبّة التي غرسها الإسلام في قلوب أتباعه؛ محبة الناس ومحبة الخير لهم، وهي تجسيد للشعور بوحدة الإنسانية، وكسر الأنانية التي تُؤدي إلى احتكار المعرفة والهداية مهما اشتدت حاجة الناس إليها، ومهما كانت النتائج” (2).
ولقد اهتم القرآن بهذا الشأن فقال تعالى متحدثا عن أهمية الدعوة في كل الظروف: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20].
وقال عز وجل: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 164]. وقال تعالى لنبيّه وممن بعده: {إنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48].
كما قال جلّ وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ}[آل عمران: 110].
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا” (رواه مسلم).
مكانة الداعية في الإسلام
الداعية إلى الله بمثابة المبلغ للإسلام والمعلم له والساعي إلى تطبيقه، وهو من يُعرّف الناس بربهم ويذكرهم به، ويوضح لهم ما التبس عليهم من أمور دينهم، ويعظهم ويزكّيهم، ودائمًا ما يقف بجوار الحقّ ويتصدّى للباطل بالحُسنى، ويدفع الظلم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر:41- 42].
وحينما أراد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن يدعو يهود خيبر، أحسن اختيار الدّاعية لهذه المهمة، وأوضح له أجر هدايته للناس وإيمانهم والاستجابة له، فقال له: [انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ] (صحيح البخاري).
الداعية القدوة وأثره في الناس
والدعوة إلى الله أسلوب حياة، لذا قال البعض ناسبًا الحديث إلى الإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه-: “حال رجلٍ في ألف رجلٍ خير من قول ألف رجلٍ في رجل”.
ولننظر كيف فُتِحَت بلادٌ كثيرةٌ بأخلاق الدعاة الأوّلين، فهذا مُصعب بن عمير أول سفير في الإسلام، فتح الله على يديه قلوب أهل المدينة بحسن دعوته قبل أن يُهاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر كيف أسلمت مدينة سمرقند كلها بما رأته من أخلاق الدُّعاة وسماحة المسلمين واستجابتهم لحكم الله عليهم.
وفتحت شرق آسيا بأخلاق التُّجار الذين أبهروا شعوب هذه المناطق بأخلاقهم وصدقهم وأمانتهم.
فالقدوة الطيبة للدُّعاة ضرورة دعوية تُؤتي ثمارها الطيبة، وهي من القوة الناعمة للدولة الإسلامية التي فتحت كثيرًا من بلاد العالم، ويجب أن يستثمر الدعاة علمهم بتطبيقه العملي على أنفسهم قبل دعوتهم للناس.
ومن مقتضيات نجاح القدوة، حسن الخلق، وموافقة قول الداعية عمله، والابتعاد عمّا يخدش القدوة أو يجرحها، وليس ذلك فحسب بل الحرص على إعلان تطبيق شرائع الإسلام أمام الناس ليقتدوا به ويتعلموا منه (2).
خطر الانفصام الدعوي على المجتمع
العمل الدعوي ليس مجرد نافلة كما يتصوّر البعض، فالله – عز وجل – يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
لذا فإنّ خطر الانفصام الدعوي على الداعية نفسه وعلى مجتمعه كبير، فهو يُؤدي إلى وقوعه في حبائل الشيطان وانسياقه وراء فتنه ودعواته، فيختل الميزان الدعوي، وينهار المجتمع، بل ويفقد الثقة في الدعاة، فيحل غضب الله – سبحانه وتعالى – على الداعية والمجتمع معًا، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].
وعن حذيفة بن اليمان – رضى الله عنه – عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: “والَّذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم” (صحيح الترمذي).
تقول سهام علي – كاتبة مصرية تخرجت في كلية الإعلام-: “الطّامة الكبرى أن يكون الداعية من الهادين فقط لا المهتدين؛ فإذا لم تصاحب علمه نية خالصة لله منذ البداية؛ فالأمل ضعيف في أن يؤدي دوره بنجاح، وحتى إن نجح لحين ولسبب أراده الله؛ فالعمل- والله أعلم- من الأعمال المحبطة والعياذ بالله” (4).
وكم رأينا مُنذ فجر الإسلام كثيرًا من الدّعاة والعلماء كانوا سببا في انتكاسة الإسلام، بل وفتنة الناس لموالاتهم الحكام الظالمين وظلم الناس باسم الدين، وفي زماننا كلنا شُهود عيان على انطماس البصيرة لدى بعض العلماء والدعاة وانفصام شخصيتهم الدعوية.
كيف نعالج انفصام الداعية؟
الداعية في أشد الحاجة لمن يُذّكره بالله دائما وبأهمية الدور الذي يقوم به، وبالثغر الذي يقف عليه، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – طلب من عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أن يقرأ عليه القرآن فقال: يا رسولَ اللهِ كيفَ أقرأُ عليك وإنما أُنزِل عليك، قال: إني أشتهي أن أسمعَه من غيرِي (رواه البخاري ومسلم).
وعلى الداعية أن يُجدد نيته دائما، ويبحث عن قلبه في كل موقف يقفه وينظر أهو لله سبحانه وتعالى أم أنّ نفسه له فيها حظ.
كما أن الداعية عليه أن يستشعر أن وقوفه في موطن مغاير لما يُعلّمه للناس، يجعله ممنّ تُسعّر بهم النار يوم القيامة، كما قال – صلى الله عليه وسلم -: “إنَّ أوَّلَ الناسِ يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه.. ورجلٌ تعلَّمَ العِلْمَ وعلَّمَهُ، وقَرَأَ القُرآنَ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعمَهُ، فعَرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتَهُ، وقَرَأْتُ فِيكَ القُرآنَ، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ تعلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ عالِمٌ، وقرأْتَ القُرآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ فقدْ قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ (صحيح مسلم).
ويجب على الداعية التجرّد لله الواحد القهار في كل تصرفاته وأعماله، وأن يتقي الله في الخلوات، وعليه – أيضا – أن يرفع شعار “أصلح نفسك وادع غيرك”.
كيف نحمي المجتمع من انفصام الدعاة؟
الدعوة لله – تبارك وتعالى – لا تقتصر على طائفة أو فئة بعينها، لكنها واجب على كل مسلم بقدر استطاعته، فإذا حاد أحد عن الطريق أو سلك مسلكا غير ما شرعه الله، أوجب الشّرع على الجميع تقويم سلوكه، فيأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر بالرد الحسن.
ومن الضروري تذكير الدعاة بالنعم التي منحها الله لهم، والمواهب التي أنعم عليهم بها، وأن الله أمر بشكره على تلك النعم شكرا قوليًّا وعمليًّا، حتى يظل هؤلاء الدعاة على اتصال دائم بالله.
كما يجب إشاعة العدل بين أفراد المجتمع، ونشر الروح الإيمانية، ونبذ النّفاق ومحاربة التملّق، ما يغلق الأبواب أمام حبائل الشيطان.
ويجب أن يتحلى الجميع بصفة الجرأة في الحق، فلا يخافون في الله لومة لائم، فهي قوة نفسية يستمدها المؤمن من الإيمان بالله، ومن الخلود الذي يوقن به.
ولا بُد من فَهم الواقع، وتغليب المصالح العامة، وفهم فقه الموازنات، وترتيب الأولويات، حتى يمتلك الداعية والمجتمع نواصي القوة التي تجعلهم متماسكين.
أخيرا
يقول الأستاذ البهي الخولي – المفكر والكاتب والداعية-: “إن الداعية يجب أن يشعر بأن دعوته حية في أعصابه، متوهجة في ضميره، تصيح في دمائه فتعجله عن الراحة والدعة إلى الحركة والعمل، وتشغله بها عن نفسه وولده وماله.. وهذا هو الداعية الصادق، تحس إيمانه بدعوته في النظرة والحركة والإشارة، في البسمة التي تختلط بماء وجهه، وهو الداعية الذي ينفذ كلامه إلى قلوب الجماهير فيحرك عواطفهم إلى ما يُريد من أمر دعوته” (5).
المصادر
1. رمضان فوزي بديني: الانفصام الدعوي (2 /5)، 22 يونيو 2020،
2. لخضر بوعلي: شرف الدعوة إلى الله تعالى وأخلاق الدعاة، جريدة المحجة، العدد 300، 18 يونيو 2008،
2. هند بنت مصطفى شريفي: أثر القدوة وأهميتها في الدعوة إلى الله، 1 مارس 2016،
4. سهام علي: أعدى أعداء الداعية، 18 أبريل 2014،
5. البهي الخولي: تذكرة الدعاة، دار البشير للثقافة والعلوم، طنطا، 2000، صـ34.