يُعدّ الافتراء على الله تعالى من الكبائر، لِمَا فيه من جرأة على الخالق- سبحانه تعالى-، وإنكار لصفاته، وأفعاله، والذي يعني الاختلاق عليه والحكاية عنه ما لم يقله، أو اتخاذ الأنداد والشركاء.. والافتراء على الله كبيرة تهتز لها السماوات والأراضين، إذ كيف يتجرأ الإنسان الضعيف على الكذب على من خلقه وأسبغ عليه النعم؟!
ولقد ظهر في هذا العصر أحفاد للمفترين السابقين ساروا على نهجهم، واستخدموا طريقتهم في الافتراء، لم يوص بعضهم بعضًا بذلك، بل تشابهت قلوبهم في هذه الكبيرة، فمنهم من أنكر الوحي، وادعى أن القرآن “أثر أدبي خالد” وأنه “منتج ثقافي” لا أكثر، وفي هذا الموضوع نبين أسباب ذلك وآثاره وعواقبه وخطوات التوبة منه.
مفهوم الافتراء على الله وتأصيل شرعا
وعرّف أهل اللغة الافتراء بأنه مصدر مشتق من مادة (فري): بمعنى قطع الشيء، يُقال: فراه يفريه فريًا: شقه شقًا، ثم يفرع منه ما يقاربه، من ذلك، فيقال: فريت الشيء أفريه فريًا، وذلك قطعك له لإصلاحه، ومن الباب: فلانٌ يفري الفري إذا كان يأتي بالعجب، كأنه يقطع الشيء قطعًا عجبًا. وفرى الكذب: اختلقه، يقال: فرى فلانٌ كذبًا يفريه إذا خلقه. فالافتراء في اللغة هو: اختلاق الكذب.
وأما المعنى الاصطلاحي للافتراء فهو ذاته المعنى اللغوي؛ إذ إنه في الاصطلاح يعني: اختلاق الأخبار التي لا أصل لها، وهو بذلك من الكذب العمد؛ بل هو شر الكذب. قال ابن عاشور هو اختلاق الأخبار، أي: ابتكارها، وهو الكذب عن عمد”. وقال ابن عطية: “هو أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر”.
وأشار القرآن الكريم إلى كبيرة الافتراء على الله سبحانه في قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء:48].
ومن صور الافتراء على الحق- سبحانه وتعالى- تزكية اليهود والنصارى لأنفسهم من غير برهان على ذلك، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا * انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا) [النساء: 49-50].
ومن قبح المفترين ادعاؤهم على الرسل أنهم لم يأتوا بالمعجزات الباهرة والدلائل القاهرة من عند الله، وإنما هي اختلاق من عند أنفسهم، كما حكى الله عن فرعون وقومه من دعوة موسى- عليه السلام- بقوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص: 36].
ومن أعظم القضايا التي يقع فيها الافتراء قضية التحليل والتحريم، وهما تشريع شرعه الله سبحانه لعباده، وليس لمخلوقٍ حقٌ في تحريم شيءٍ أباحه الرب لعباده تدينًا به إلا بوحيه وإذنه، وقد أنكر الله على من فعل ذلك. فقال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59].
أسباب الافتراء على الله
وأسباب الافتراء على الله سبحانه تتلخص في الأتي:
- الكفر: أخبر الله تعالى أنّ الذين يفترون الكذب على الله وعلى رسوله شرار الخلق من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس، قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل: 105].
- العناد: حيث أخبر الله- عز وجل- أنّ العناد والظلم كان سببًا لافتراء المفترين، قال تعالى: (أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ) [سبأ: 8].
- الجهل: أخبر الله- عز وجل- أنّ الجهل سبب افتراء المشركين، ومن على شاكلتهم، قال تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) [النحل: 56]. يقول سيد قطب رحمه الله: “ما يزال أناس بعد أن جاءت عقيدة التوحيد وتقررت، يجعلون نصيبًا من رزق الله لهم موقوفًا على ما يشبه آلهة الجاهلية، ما يزال بعضهم يطلق عجلًا يسميه «عجل السيد البدوي» يأكل من حيث يشاء لا يمنعه أحد، ولا ينتفع به أحد، حتى يذبح على اسم السيد البدوي لا على اسم الله!”.
آثار وعواقب
وآثار وعواقب الافتراء على الله عديدة، منها:
- المفتري على الله- سبحانه وتعالى- أعظم الظالمين والمجرمين. قال تعالى: (فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [آل عمران: 94].
- الافتراء سمة كل كافر. قال تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل: 105].
- يؤدي الافتراء إلى الوقوع في الشرك والبدع. قال ابن تيمية رحمه الله: “الشرك وسائر البدع مبناها على الكذب والافتراء، ولهذا كل من كان عن التوحيد والسنة أبعد كان إلى الشرك والابتداع والافتراء أقرب”.
- سبب في الحرمان من الهداية. قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام: 144].
- سبب في عدم الفلاح. قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) [الأنعام: 140].
- يؤدي الافتراء إلى الذل والمهانة. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ) [الأعراف: 152].
- الافتراء سبب في وقوع العذاب في الدنيا. قال تعالى: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) [طه:61].
- الافتراء سبب في شدة سكرات الموت والعذاب الأليم يوم القيامة. قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)[الأنعام:93].
- الافتراء سبب في استحقاق لعنة الله وغضبه. قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18].
- الافتراء سبب في مناقشة الحساب يوم القيامة. قال تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [العنكبوت: 13].
- الخيبة والخزي: أخبر الله عن كليمه موسى عليه السلام أنه حذر سحرة فرعون من الافتراء على الله، ووعدهم بعذاب من عند الله، وأنه سيخيب سعيهم، فلا يحققون النصر الذي يرجون، كما قال تعالى: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ) [طه: 61].
خطوات التوبة من الافتراء
والتوبة من الافتراء على الله سبحانه تتطلب الآتي:
- الندم على ما اقترفه من ذنب في حق الله، قال سبحانه: : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر:53].
- طلب الاستغفار من الله تعالى: وقد كثر ذكر الاستغفار في القرآن الكريم، فتارة يؤمر به كقوله تعالى (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المزمل: 20]، وتارة يمدح أهله كقوله تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ) [آل عمران: 17]، وتارة يذكر الله عز وجل أنه يغفر لمن استغفره كقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء: 110].
- الإيمان بصفات الله تعالى وأفعاله: فمن ثمرات الإيمان بصفات الله- عَزَّ وجَلَّ- أن يظل العبد دائم السؤال لربه، فإن أذنب، سأله بصفات الرحمة والتَّوب، والعفو، والمغفرة وأن يرحمه ويتوب عليه ويعفو عنه ويغفر له.
ومن هنا، يجب على المسلم أن يتعلم الصحيح عن الله تعالى وصفاته، وأن يتفكر في عظمة الله تعالى وقدرته، وأن يخالف النفس الأمارة بالسوء، وأن يتحصن بالأذكار والدعوات، حتى لا يقع في كبيرة الافتراء على خالقه- جل وعلا- ويخسر دينه ودنياه.
مصادر ومراجع:
- ابن فارس: مقاييس اللغة 4/497.
- الزبيدي: تاج العروس 39/230.
- ابن عاشور: التحرير والتنوير 19/13.
- ابن عطية الأندلسي: المحرر الوجيز 3/403.
- ابن منظور: لسان العرب 15 /152-154.
- سيد قطب: في ظلال القرآن 4/2177.
- ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم 2/281.
- ندا أبو أحمد: الكذب على الله تعالى.