خَلَقَ الله البشر وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا على الإصلاح وتعمير الأرض ويعيشوا في مجتمعات متلاحمة يميزها العقل والحرية والعمل والانتماء وكل ما من شأنه أن يمس هذه المكوّنات الأساسية فإنه يدفع الشخصية بطريقة أو بأخرى إلى الاغتراب.
وهو ما يبدو أنه تسرب لكثير من الأفراد بل وبعض الدعاة فدفعهم إلى العزلة والشعور بالغربة رغم وجودهم وسط الناس، بحيث يتحول الداعية إلى شخص غريب وبعيد عن بعض النواحي الاجتماعية في واقعه، فينتج عن ذلك العديد من أشكال وصور الغربة سواء التربوية أو الاجتماعية أو النفسية أو الثقافية، أو غيرها.
مفهوم الاغتراب
يُعرف الاغتراب بشكل عام، بالحالة النفسية غير الإيجابية التي يمر بها الشخص، وبوصفه إحساس الأفراد بالغربة عن بعضهم بعضًا، أو عن موقف، أو عملية معينة، أو شعور الفرد بالغربة والانفصال عن النفس وعن الآخرين.
وفي المعاجم العربية: اِغتراب: مصدر اغتَرَبَ. واِغْتِرَابُ النَّفْسِ: شُعُورُهَا بِالضَّيَاعِ وَالاسْتِلابِ اِغْتِرَابُ الإنْسَانِ.
والاغتراب الذِّهنيّ في (علوم النفس) هو مرض نفسيّ يُحوّل دون سلوك المريض سلوكًا سويًّا وكأنّه غريب عن مجتمعه، لذا يلجأ إلى العزلة عنه(1).
وقد عرّف بعض الفلاسفة في العصر الحديث مفهوم هذه المشكلة، ومنهم كارل ماركس الذي اعتبر أنها عبارة عن “اغتراب العمال عن عملهم وبعضهم البعض”، وطوّرها عالم الاجتماع ملفين زيمان، الذي قال إنها “انسحاب الشخص من البيئة ورفض أحبائه وأصدقائه الذين يعيشون معه في مجتمعه، وظهور مشاعر ابتعاده عن الآخرين، وهي حالة معقدة رغم أنها شائعة، وهي نتاج عوامل نفسية واجتماعية، وهذه الحالة قد تؤثر على الصحة العامة”(2).
أسباب الاغتراب
وتتعدد أسباب الاغتراب التي تصيب الأفراد العاديين، وكذلك الدعاة كونهم بشرًا مثل غيرهم يتأثرون بمحيطهم، ومنها ما هو صحي أو اجتماعي أو وظيفي أو سلوكي.
الأسباب المرتبطة بالصحة: فقد تنتج هذه المشكلة عن حالة مرضية، إما نفسية أو جسدية، وتشمل الأسباب المتعلقة بالحالة الصحية ما يلي:
- اضطرابات الصحة النفسية، مثل القلق، أو الوسواس القهري، أو الانفصام.
- اضطراب ما بعد الصدمة.
- الأمراض التي تسبب ألمًا مزمنًا.
- الأمراض التي تدفع المريض للشعور بالوحدة والانعزال.
- الأسباب الاجتماعية، ومنها: إغفال تنمية العلاقات الاجتماعية بين الأفراد في كثير من المجالات، والتركيز على جانب اقتصادي بحت.
- الصراع الاقتصادي والسياسي وإغفال الجانب الاجتماعي ما يُعرّض بعض الأفراد للطبقية أو الإهمال والتنمر، ما يدفعهم للعزلة.
- شعور البعض بالضعف والإحباط لعدم قدرته على مواكبة التطورات والانسجام مع المتغيرات المتسارعة.
- سقوط البعض (ومنهم الدعاة) لنمط معين من الشخصية مثل الشخصية الانتهازية أو الاستسلامية أو المتواكلة، ما يجعلهم عرضة لنفور الناس منهم واغترابهم(3).
- حجة الخوف من الرياء والظهور والتعرض لأمراض القلوب؛ فالامتناع عن العمل مخافة الرياء رياء.
أسباب اغتراب الدعاة
ويعيش الدعاة في حالة من الاغتراب الدعوي، نتيجة عدد من الأسباب تتلخص في:
- الفهم الخاطئ لبعض النصوص الداعية للاعتزال، مع الغفلة عن موقعها من النصوص الأخرى الداعية لمخالطة الناس والصبر على أذاهم.
- ظن بعض الدعاة أنّ حياة الجماعة تلغي دائمًا ذاتية المنتمى إليها، وتؤثر على شخصيته مع الغفلة عن منهج الإسلام في التوفيق بين الفردية والجماعة.
- الغفلة عن طبيعة تكاليف مخالطة الجماعة والعيش بين الناس.
- التذرع بأن مخالطة الناس تشغل عن التفرغ للعبادة من صلاة إلى صيام إلى قراءة القرآن وغيرها من العبادات.
- الاعتذار بانتشار الشر والفساد مع الغفلة عن دور المسلم حين ينتشر الشر والفساد، إذ إن دور المسلم في هذه الحال أن ينشط للمقاومة بكل الأساليب المتاحة(4).
مظاهر العُزلة والاغتِرَاب
وأعراض ومظاهر الاغتراب عن المجتمع عديدة، سواء على الفرد أو الجماعة بصفة عامة، إذ أن الشعور بالبعد عن العمل والعائلة والأصدقاء كلها أعراض شائعة لهذه المشكلة، إضافة إلى أعراض أخرى، مثل:
- الشعور بالغلبة والعجز.
- الشعور بأن العالم لا معنى له.
- عدم الرغبة في الحديث والمشاركة.
- الشعور بالاختلاف أو العزلة عن الآخرين.
- الشعور بصعوبة الانفتاح والحديث مع الآخرين.
- عدم الاطمئنان للتعامل مع الآخرين.
- التمرد ورفض اتباع القوانين(5).
العزلة ودعوة الأنبياء والمصلحين
وقد يُصيب الداعية الإحباط فيدخل في حالة من الاغتراب والعزلة النفسية، نتيجة تعرضه لبعض الأمور كعدم قدرته على الإصلاح، أو تعرضه إلى الاضطهاد، أو عدم استجابة الناس لدعوته، وهذا شعور نبهنا إليه الشّرع الحنيف وحذّرنا من السقوط فيه، وطلب من الدعاة التحلي بالصبر والرضى بقضاء الله سبحانه وتعالى والأخذ بالأسباب وحُسن التوكل على الله، وترك النتائج لله جل وعلا.
وحول ذلك أثر لطيف، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “لَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ قِيلَ لَهُ: {أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قَالَ: رَبِّ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ قَالَ: أَذِّنْ؛ وَعَلَيَّ الْبَلاَغُ، فَنَادَى إِبْرَاهِيمُ: أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْحَجُّ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ فَحُجُّوا، قَالَ: فَسَمِعَهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، أَفَلاَ تَرَى النَّاسَ يَجِيئُونَ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ يُلَبُّونَ؟”(6).
وحينما شعر سيدنا يونس- عليه السلام- بالاغتِرَابِ من قومه بعدما عرض عليهم الدعوة ولم يتقبلوها، لم يصبر عليهم وتركهم فعاقبه الله في بطن الحوت، حتى عاد لله وأدرك ما أقدم عليه، فأرسله الله إلى قوم دعاهم وصبر عليهم حتى استجابوا له.
وسيدنا لوط، وسيدنا شعيب- عليهما السلام-، وغيرهما من الرسل والأنبياء الذين سعى أقوامهم لعزلتهم ووضعهم في حالة اغتراب، إلا أنهم صبروا وظلوا يعملون ويدعون أقوامهم (رغم ضعف بعضهم) حتى إن القرآن صور حالهم بقوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ}[البقرة:214].
وتعرض كثير من المصلحين إلى محاولات عزل واغتراب، لكنهم كانوا مثالًا للصابرين، قال تعالى: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَآ ءَاذَيْتُمُونَا}، فنجد أحمد بن حنبل يتعرض للحبس والتعذيب والتشهير لكنه بعد أكثر من ثلاث سنوات صبر واحتساب يعود لنشر دعوة الحق ويظل اسمه محفورًا بمداد من نور. وهذا ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهذا العز بن عبد السلام الذي حبسه الصالح إسماعيل ودفعه لمغادرة الشام لكنه ظل متمسكًا بالحق.
وهو المعنى الذي ذكره ورقة بن نوفل لسيد الرسل والمصلحين محمد- صلى الله عليه وسلم- بقوله: “هذا النَّامُوسُ الذي نَزَّلَ اللَّهُ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فيها جَذَعًا، لَيْتَنِي أكُونُ حَيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ، قالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا”(7).
خطورة عزلة الدعاة
يرى بعض علماء المسلمين أن الاغتراب والعزلة قد تكون شيئًا محمودًا في بعض الأحيان بالنسبة للدعاة والمصلحين لتقييم حالهم والوقوف على السلبيات والإيجابيات والعمل على التطوير أو اعتزال الفتن مثل الإمام ابن القيم الذي ذكر في كتابه مدارج السالكين: “فإيّاك أن تستوحش من الاغتِرَابِ والتفرّد.. فإنّهُ والله عينُ العِزّة، الصادق كُلَّما وجدَ مسّ الاغترابِ، وذاقَ حلاوتَه، وتنسّم رُوحه؛ قال: اللّهم زِدني اغترابا، ووحشةً مِنَ العالَم، وأُنساً بِك”(8).
غير أن النبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- شدد على عدم الاغتِرَاب أو العزلة إلا للضرورة القصوى، فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: “مرَّ رجلٌ منْ أصحابِ رسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- بشِعبٍ فيهِ عُيَيْنةٌ من ماءٍ عذبةٌ فأعجبتْهُ لطِيبها فقال: لو اعتزلْتَ الناسَ فأقمتُ في هذا الشِّعبِ ولن أفعل حتى أستأذنَ رسولَ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فذكَر ذلكَ لرسولِ اللهِ- صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ- فقال: “لا تفعلْ فإنَّ مقامَ أحدِكم في سبيل اللهِ أفضلُ منْ صلاتِهِ في بيتهِ سبعينَ عامًا، ألا تحبُّون أن يغفرَ اللهُ لكمْ، ويدخلُكم الجنةَ؟ اغزُوا في سبيلِ اللهِ، منْ قاتلَ في سبيلِ اللهِ فُواقَ ناقةٍ وجبتْ لهُ الجنةُ” (الترمذي).
وكثيرة هي المخاطر التي قد تترتب على اغتراب الدعاة واعتزالهم دعوتهم أو الهروب لمجرد أنهم تعرضوا للاضطهاد أو لم يستجب الناس لهم، ومنها أنهم سيتركون الساحة لأهل الهوى وعلماء السلطان وتصدر المبتدئين في مجال الدعوة والعلم.
بل إن العزلة تخرجهم من دائرة الدراسة والتعلم، والتدريب واكتساب الخبرة، إلى دائرة لا تلائمهم، ولا تنطبق عليهم شروطها، هي دائرة التوجيه والتعليم وربما الفتوى، بالإضافة إلى الاستهانة بالعلماء الربانيين الراسخين، ونسيان فضلهم، والسخرية من توجيههم، واتهامهم بالتخاذل تارة، وبعدم الصلاحية تارة، وبعدم الإلمام بالواقع تارة أخرى، حتى صارت قضايا خطيرة، كقضايا التحليل والتحريم، وقضايا تكفير الناس ودمائهم، وقضايا الاختيارات الفقهية العميقة التي يترتب عليها مستقبل هذه الأمة، صارت قضايا تلوكها ألسنة كل من هب ودب لاغتراب الدعاة والمصلحين.
وقال الإمام مالك في كتاب إعلام الموقعين: “بكى ربيعة يومًا، فقيل: ما يبكيك؟ فقال قد استُفتِيَ مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولَبعضُ من يفتي ههنا أحق بالحبس من السُّرَّاق”(9).
علاج مشكلة اغتراب الدعاة
ويُكمن علاج مشكلة الاغتراب لدى الدعاة بعلاج أسبابها التي ذكرناها آنفًا، وقد يحتاج الإنسان لشخص داعم له للتخلص من هذا الشعور، إذ لا بُد من معرفة الأسباب التي قد تؤدي بالدعاة أو المصلحين إلى العزلة والعمل على إزالتها أو تقليل آثارها.
ولا بد من التربية على معاني الإيمان الحقيقي والتجرد لله وحده والإخلاص له، حتى يخرج الدعاة من حالة العزلة التي قد تصيبهم وإدراك الثواب والأجر الذي ينتظر كل مَن يُخالط الناس ويصبر على أذاهم ويستمر في دعوته بصدق وإخلاص.
ومن ثم فمذهب جماهير السلف تفضيل الاختلاط بالناس، في الأحوال الطبيعية التي لا يلحق المسلم فيها ضرر في دينه، على اعتزالهم والابتعاد عنهم، ولهذا قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- :”خالطوا الناس بما يحبون، وزايلوهم بأعمالكم، وجِدُّوا مع العامة”.
وقال الشيخ عبد الكريم زيدان- رحمه الله- في أصول الدعوة: “الدعوة إلى الله من وجائب الإسلام، ومن وسائلها مخالطة الناس؛ فتكون المخالطة واجبة؛ لأن ما لا يُؤدَّى الواجب إلا به فهو واجب، والواقع أن طبيعة الإسلام تقتضي المخالطة، فالإسلام ليس معنًى خاصًا بالفرد؛ بل هو أيضًا عمل المسلم خارج نفسه(10).
ومن هنا فإن الاغتراب والعزلة مشكلة لا بد لبعض الدعاة من التخلص منها، فلا يحق لهم ترك الناس وهجرهم، والتبرم من حالهم أو ترك الإخلاص في النصح لهم، فإن تلك الأفعال مجانبة للحكمة والهدى.
ولا يتصور الداعية في يوم من الأيام أن الأمور ستصفو له الصفاء الكامل؛ بل عليه أن يوطن نفسه على أن الأمور فيها من التعقيد والكبد ما فيها، وإن أحب الخلق إلى الله- تعالى- هم الرسل والأنبياء، ومع ذلك فقد عانوا من أممهم الأمَرَّيْن، ولاقوا في سبيل الدعوة إلى الله تعالى ما لا يوصف، من الأذى القولي والفعلي، والطرد والإهانة والقتل.
المصادر والمراجع:
- تعريف ومعنى اغتراب في معجم المعاني الجامع.
- علا علي: ما هو الاغتراب النفسي الاجتماعي؟، 2 فبراير 2022.
- الاغتراب والإدمان.
- شريف عبدالعزيز: أمراض على طريق الدعوة (22) الانعزال عن المجتمع، 6 سبتمبر 2015.
- الاغتراب أو الانسلاب: أسبابه وأعراضه وطرائق علاجه، 10 يوليو 2020.
- المكتبة الشاملة: رواه ابن أبي شيبة في (المصنف) (6/ 329)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (5/ 176)، والحاكم في (المستدرك) (2/ 421).
- الدرر السنية
- ابن القيم: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، الجزء الثاني، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، دار الفرقان للنشر والتوزيع، 1988، صـ72.
- خالد روشه: عندما يتصدر الأغرار، 4 جمادى الثانية 1436هـ.
- الدكتور السيد نوح: آفات على الطريق،جـ1، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة، طـ1، 2012، صـ9- 26.